( مروج الذهب، ومعادن الجوهر ) المسعودي
صفحة : 607
حديث عن مجنون بني عامر
قال المسعودي: ولمن سلف من المُتيَّمين أخبار عجيبة، وأشعار حسان، فمن ذلك ما حدثنا به أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي القاضي، قال: حدثنا محمد بن سلام الجمحي، قال: أخبرني أبو الهياج بن سابق النجدي، ثم الثقفي، قال: خرجت إلى أرض بني عامر، لا لشيء إلا للقاء المجنون، فإذا أبوه شيخ كبير، وإذا إخوته رجال، وإذا نِعَم ظاهرة وخير كثير، فسألتهم عن المجنون؛ فاستعبروا، وقال الشيخ، كان والله أبَرَّ هؤلاء عندي. فهوى امرأة من قومه، والله ما كانت تطمع في مثله؛ فلما عرف أمره وأمرها كره أبوها أن يزوجها منه؛ فزوجها من رجل آخر. فقيدناه، فكان يعض شفتيه ولسانه حتى خشينا أن يقطعهما؛ فلما رأينا ذلك خَلّيْنَا سبيله. ففر في هذه الفَيَافِي يذهب إليه في كل يوم بطعامه فيوضع له بحيث يراه، فإذا عاينه جاء فأكل، وإذا خلقت ثيابه جاءوه بثياب، فوضعت بحيث يراها، فسألتهم أن يدلُّوني عليه، فدلوني على فتى من الحي، وقالوا: إنه لم يزل صديقاً له، وليس يأنس بأحد سواه، فسألته أن يدلني عليه. فقال: إن كنت تريد شعره فكل شعره عندي إلى أمس وأنا ذاهب إليه غداً. فإن كان قد ذكر شيئاً أتيتك به، قلت: أريد أن تدلني عليه، قال: إن رآك يفر منك، وأخاف أن يذهب مني فيما بعد، فيذهب شعره، فأبيت إلا أن يدلني، فقال: اطلبه في هذه الصحراء، فإذا رأيته فَادْنُ منه مستأنساً، فإنه يتهددك ويتوعدك أن يرميك بشيء في يده، فاجلس كأنك لا تنظر إليه والْحَظْهُ، فإذا رأيته قد سكن. فاجهد أن تروى لقيس بن فريح شيئاً فإنه معجب به، قال: فخرجت إليه يومي، فوجدته بعد العصر جالساً على تل، يخط بإصبعه خطوطاً، فدنوت منه غير منقبض، ففرَّ والله كما يفرًّ الوحش من الِإنسان، وإلى جانبه أحجار، فتناول منها واحداً، فأقبلت حتى جلست قريباً منه، فمكثت ساعة، وهو كأنه نافر، فلما طال جلوسي سَكَنَ، وأقبل يعبث بإصبعه، فنظرت إليه، وقلت: أحسن واللّه قيس بن فريح، حيث يقول:
وإني لَمُفْنِ دَمْعِ عينيَ بالبـكـا حِذاراً لما قد كان أو هو كائن
وقالوا: غداَ أو بعد ذاك بلـيلة فراق حَبيب لم يَبِنْ وَهْوَ بـائن
وما كنت أخشى أن تكون مَنِيَّتِي بكفي إلّاَ أنَّ مَا حَـانَ حـائن قال: فبكى واللّه حتى سالت دموعه، ثم قال: أنا واللّه أشعر منه، حيث أقول:
أبى القلب إلا حبـهـا عـامـرية لها كُنْية عمرو، وليس لها عمرو
تكاد يدي تَنْدَى إذا ما لمـسـتـهـا وينبت في أطرافها الورق الخضر
عجبت لسعي الدَّهْر بيني وبينـهـا فلما انقضى ما بيننا سكن الدهـر
فيا حبها زِدْنِي جَـوًى كـل لـيلة ويا سلوة الأيام موعدك الحـشـر قال: ثم نهض، فانصرفت، ثم عُدْتُ من الغد، فأصبته، ففعلت فعلي بالأمس، وفعل مثل فعله، فلما أنس قلت: أحسن واللّه قيس بن فريح، حيث يقول، قال: ماذا، قلت:
هَبُوبي امرأ إنْ تحسنوا فهو شاكر لذاك، وإن لم تحسنوا فهو صافح
فإن يك قوم قد أشاروا بهجـرنـا فإن الذي بيني وبينـك صـالـح قال: فبكى، وقال: أنا واللّه أشعر منه، حيث أقول:
وادنيَتني حتى إذا ما سبيتـنـي بقول يحل العُصمَ سهل الأباطح
تجافَيْتِ عني حيث مالِيَ حـيلة وَخَلّفْت ما خَلّفْت بين الجوانـح ثم ظهرت لنا ظبية، فوثب في إثرها فانصرفت، ثم عدت في اليوم الثالث فلم أصادفه، فرجعت، فأخبرتهم؛ فوجهوا الذي كان يذهب بطعامه فرجع، وأخبرهم أن الطعام على حاله ثم غدوت مع إخوته فطلبناه يومنا وليلتنا فلما أصبحنا أصبناه في واد كثير الحجارة، وإذا هو ميت، فاحتمله إخوته، ورجعت إلى بلدي.
وفاة بغا الكبير
قال المسعودي: وفي سنة ثمان وأربعين ومائتين كانت وفاة بُغَا الكبير التركي. وقد نَيَّفَ على التسعين سنة، وقد كان باشَرَ من الحروب ما لم يباشره أحد، فما أصابته جراحة قط، وتقلّد ابنُه موسى بن بُغَا ما كان يتقلّده، وضم إليه أصحابه، وجعلت له قيادته، وكان بُغَا دَيِّناً من بين الأتراك، وكان من غلمان المعتصم، يشهد الحروب العظام، ويباشرها بنفسه، فيخرج منها سالماً، ويقول: الأجل جوشن .
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق