( مروج الذهب، ومعادن الجوهر ) المسعودي
صفحة : 633
واتخذ توبل بن لمك الطبول والدفوف، وعملت ضلال بنت لمك المعازف، ثم اتخذ قوم لوط الطنابير، يستميلون بها الغلمان ثم اتخذ الرعاة والأكراد نوعاً مما يصفر به، فكانت أغنامهم إذا تفرقت صفروا فاجتمعت. ثم اتخذ الفرس النَّايَ للعود، والدياتي للطنبور، والسرياني للطبل، والسنج الصنج، وكان غناء الفرس بالعيدان والصنوج، وهي لهم، ولهم النغم والِإيقاعات والمقاطع والطروق الملوكية، وهي سب طروق: فأولها سكاف، وهو أكثرها استعمالاً لتنقل الأنهار، وهو أفصح مقاطع، وأمرسه، وهو أجمعها لمحاسن النغم، وأكثرها تصعداً وانحداراً وما دار وسنان، وهو أثقلها، وسايكاد، وهو المحبوب للأرواح، وسيسم وهو المختلس المنقل، وحويعران، وهو الدرج الموقوف على نغمة، وكان غناء أهل خراسان وما والاها بالزنج، وعليه سبعة أوتار، وإيقاعه يشبه أيضاً الصنج، وكان غناء أهل الري وطبرستان والديلم بالطنابير، وكانت الفرس تقم الطنبور على كثير من الملاهي، وكان غناء النبط والجرامقة بالغيروارات، وإيقاعها يشبه إيقاع الطنابير. وقال فندروس الرومي: جعلت الأوتار أربعة بإزاء الطبائع، فجعلت الزير بإزاء المرة الصفراء، والمثنى بإزاء الدم، والمثلث بإزاء البلغم والبم بإزاء المرة السوداء.
مِلاهي الروم
وللروم من الملاهي الأرغل، وعليه ستة عشر وتراً، وله صوت بعيد المذهب وهو من صنعة اليونانيين، والسلبان، وله أربعة وعشرون وتراً وتفسيره ألف صوت، ولهم اللورا، وهي الرباب، وهي من خشب، ولهم خمسة أوتار، ولهم القيثارة، ولها اثنا عشر وتراً، ولهم الصلنج وهو من جلود العجاجيل، وكل هذه معازف مختلفة الصفة، ولهم الأرغن، وهو ذو منافخ من الجلود والحديد.
وللهند الكنكلة، وهو وتر واحد يمد على قرعة فيقوم مقام العود والصنج.
حداء العرب
قال: وكان الحُدَاء في العرب قبل الغناء، وقد كان مضر بن نزار بن معد سقط عن بعير في بعض أسفاره فانكسرت يده، فجعل يقول: يا يَدَاه يا يَدَاه، وكان من أحسن الناس صوتاً، فاستوسقت الِإبل وطاب لها السير، فاتخذه العرب حُدَاء برجز الشعر، وجعلوا كلامه أول الحداء فمن قول الحادي:
يا هادياً يا هادياً ويا يداه يا يداه فكان الحًدَاء أولَ السماع والترجيع في العرب، ثم اشتق الغناء من الحُدَاء، ونحْنَ نساء العرب على موتاها، ولم تكن أُمة من الأُمم بعد فارس والروم أوْلَعَ بالملاهي والطرب من العرب، وكان غناؤهم النصب ثلاثة أجناس: الركباني، والسناد الثقيل، والهزج الخفيف.
أول الغناء في العرب
وكان أول من غَنَى من العرب الجرادتان، وكانتا قينتين على عهد عاد لمعاوية بن بكر العملقي، وكانت العرب تسمي القينة الكربنة، والعود المزهر، وكان غناء أهل اليمن بالمعازف وإيقاعها جنس واحد، وغناؤهم جنسان: حنفي، وحميري، والحنفي أحسنهما، ولم تكن قريش تعرف من الغناء إلا النصب، حتى قدم النضر بن الحارث بن كلَدَة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي من العراق وافداً على كسرى بالحِيرَةِ؛ فتعلم ضرب العود والغناء عليه. فقدم مكة فعلّم أهلها، فاتخذوا القينات.
أثر الغناء
والغناء يرق الذهن، ويلين العريكة، ويبهج النفس ويَسُرُّهَا، ويشجع القلب، ويسخي البخيل، وهو مع النبيذ يعاونان على الحزن الهادم للبدن، وُيحْدِثان له نشاطاً، ويفرجان الكرب، والغناء على الانفراد يفعل ذلك، وفضل الغناء على المنطق كفضل المنطق على الخَرَس والبرء على السقم، وقد قال الشاعر:
لا تبعثن على همومك إذ ثَوَتْ غير المدام ونغمة الأوتـار فللَّه در حكيم استنبطه، وفيلسوف استخرجه، أي غامض أظهرة. وأي مكنون كَشَفَ. وعلى أي فن دَلَّ. وإلى أي علم وفضيلة سبق. فذلك نسيجُ وَحْلِىِ وقريع دهره.
وقد كانت الملوك تنام على الغناء ليسري في عروقها السرور، وكانت ملوك الأعاجم لا تنام إِلا على غناء مطرب، أو سمر لذيذ، والعربية لا تنوم وَلَدَهَا وهو يبكي، خوْفَ أن يسري الهم في جسده، ويدب في عروقه، ولكنها تنازعه وتضاحكه حتى ينام وهو فَرِحٌ مسرور، فينمو جسده، ويصفو لونه ودمه، ويشف عقله، والطفل يرتاح إلى الغناء، ويستبدل ببكائه ضحكاً.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق