( مروج الذهب، ومعادن الجوهر ) المسعودي
صفحة : 680
قال: والعجب الثاني دودة تكون من المثقال إلى الثلاثة تضيء بالليل كضوء الشمع، وتطير بالنهار، ويرى لها أجنحة خضراء مَلْساء، ولا جناحين لها، غذاؤها التراب لا تشبع منه قط، خوفاً أن يَفْنَى تراب الأرض فتهلك جوعاً، وفيها خواص كثيرة ومنافع واسعة.
قال: والعجب الثالث أعجب من الطير والدودة، من يكري نفسه للقتل، يعني المرتزقة من الجند.
فاستحسن هذا الخبر مَنْ حضر، فقال أبو العباس الراضي معارضاً لهذا المخبر الذي أخبر بالخبر الأول: قد ذكر عمرو بنِ بحر الجاحظ أن أعجب ما في الدنيا ثلاث؛ البوم لا يظهر بالنهار خوفاً أن تصيبها العين لحسنها وجمالها، ولما قد تصور في نفسها أنها أحسن الحيوان؛ فتظهر بالليل، والعجب الثاني الكركي، لا يطأ بقدميه الأرض، بل بإحداهما، فإذا وطىء بإحداهما لا يعتمد عليها اعتماداً قوياً، ومشى بالتأني، خوفاً من أن تنخسف الأرض من تحته، لثقله، والعجب الثالث الطائر الذي يقعد على بُثُوقِ الماء من الأنهار إذا انخرقت، الذي يعرف بمالك الحزين على شبه الكركي خوفاً من الماء أن يفنى من الأرض فيموت عطشاً.
قال العروضي: فافترق مَنْ حضره وكلُّ متعجب من الراضي مع صباه وصغر سنه كيف تتأتى منه هذه المذاكرات، مع أن من حضره من أهل الرأي والسن والمعرفة.
قال المسعودي: وقد أتينا فيما سلف من كتبنا على عجائب الأرض والبحار وما فيها من عجائب البنيان والحيوان والجماد والمائع والرجراج؛ فأغنى ذلك عن إيرادها في هذا الموضع.
وإنما نذكر أخبار الراضي وما كان من أمر في صباه وما أخبر عنه مؤدبه به، ونظمنا من أخباره ما تأتى لنا ذكره في هذا الكتاب.
الراضي يعد العروضي بمنحة إذا أضحكه
وأخبرنا العروضي قال: سمرت عند الراضي في ليلة شاتية صهَابية؛ فرأيته قلقاً متململاً؛ فقلت له: يا أمير المؤمنين، أرى منك خصالاً لم أعهدها، وضيق صدر لم أعرفه؛ فقال له: دع عنك هذا، وحدثني بحديث فإن أنت أزلت بحديثك ما أجده من الهم فلك ما عليَّ وما تحتي، على أن أشترط عليك إزالة بالضحك، قلت: يا أمير المؤمنين، رَحَلَ رجل من بني هاشم إلى ابن عمه بالمدينة؛ فأقام عنده حولاً لم يدخل مُسْتَرَاحاً؛ فلما كان بعد الحول أراد الرجوع إلى الكوفة، فحلف عليه ابن عمه أن يقيم عنده أياماً أخر، فأقام، وكان للرجل قَيْنَتَانِ، فقال لهما: أما رأيتما ابن عمي وظَرْفَه. أقام عندنا حولاً لم يدخل الخلاء، فقالَتَا له: فعلينا أن نصنع له شيئاً لا يجد معه بداً من الخلاء، قال: شأنكما وذلك، فعمدَتَا إلى خشب العُشَر، فدقتاه، وهو مسهل، وطرحتاه في شرابه، فلما حضر وَقت شرابهما قَدَّمتاه إليه، وَسَقَتَا مولاهما من غيره، فلما أخذ الشراب مأخذه منه تناوم المولى، وتمغص الفتى من جوفه فقال للتي تليه: يا سيدتي، أين الخلاء. فقالت لها صاحبتها: ما يقول لك. قالت: يسألك أن تغنيه:
خَلَا من آل فاطمَةَ الديار فمنزلُ أهلها منها قِفَارُ فغنته، فقال الفتى: أطنهما كوفيتين وما فهمتا عني، ثم التفت إلى الأخرى، فقال لها: يا سيدتي، أين الحُشُّ. فقالت لها صاحبتها: ما يقول لك. قالت: يسألك أن تغنيه:
أوْحَشَ الدقرات فالدير منها فعناها بالمنزل المعمـور فغنته، فقال الفتى: أظنهما عراقيتين وما فهمتا عني، ثم التفت إلى الأخرى فقال لها: أعزك اللّه أين المتوضأ. فقالت لها صاحبتها: ما يقول لك. قالت: يسألك أن تغنيه:
تَوَضأ للصلاة وصَلِّ خمساً وآذن بالصلاة على النبي فغنته، فقال: أظنهما حجازيتين وما فهمتا عني، ثم التفت إلى الأخرى فقال لها: يا سيدتي أين الكنيف. قالت لها صاحبتها: ما يقول لك. قالت: يسألك أن تغنيه:
تكنَّفَنِي الواشون من كل جانب ولو كان واش واحد لكفانـيا فغنته، فقال: أظنهما يمانيتين وما فهمتا عني، ثم التفت إلى الأخرى، فقال لها: يا هذه أين المستراح. فقالت لها صاحبتها: ما قال لك. قالت: يسألك أن تغنيه:
ترك الفكاهة والمزاحا وقَلَا الصبابة واستراحا فغنته، والمولى يسمع ذلك وهو متناوم، فلما اشتد به الأمر أنشأ يقول:
تكنفني السُّلَاحُ وأضجروني على ما بي بتكرير الأغاني
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق