( مروج الذهب، ومعادن الجوهر ) المسعودي
صفحة : 647
ابن المغازلي المضحك
وقد كان ببغداد رجل يتكلم على الطريق، ويقصًّ على الناس بأخبار ونوادر ومَضَاحَك ويعرف بابن المغازلي- وكان في نهاية الحذق لا يستطيع من يراه ويسمع كلامه أن لا يضحك- قال ابن المغازلي: فوقفت يوماً في خلافة المعتضد على باب الخاصة أضحك وأنادر؛ فحضر حلقتي بعضُ خدمة المعتضد، فأخذت في حكاية الخدم، فأعجب الخادم بحكايتي، وأشغف بنوادري، ثم انصرف عني، فلم يلبث أن عاد وأخذ بيدي، قال: إني لما انصرفت عن حلقتك دخلت فوقفت بين يدي المعتضد أمير المؤمنين، فذكرت حكايتك وما جرى من نوادرك فاستضحكت، فرآني أمير المؤمنين، فأنكر ذلك مني، وقال: ويلك مالك. فقلت: يا أمير المؤمنين على الباب رجل يعرف بابن المغازلي يُضْحِك ويحاكي، ولا يدع حكاية أعرابي وتركي ومكي ونجدي ونبطي وزنجي وسندي وخادم إلا حكاها، ويخلط ذلك بنوادر تضحك الثكول وتُصْبي الحليم، وقد أمرني بإحضارك ولي نصف جائزتك، فقلت له وقد طمعت في الجائزة السنية: يا سيدي، أنا ضيف وعليَّ عَيْلَة، وقد مَنَّ اللّه عليَّ بك فما عليك إن أخذت بعضها سدسها أو ربعها، فأبى إلا نصفها، فطمعت في النصف وقنعت به، فأخذ بيدي وأدخلني عليه، فسلمت وأحسنت، ووقفت في الموضع الذي أوقفت فيه، فردَّ عليَّ السلام، وقد كان ينظر في كتاب، فلما نظر في أكثره أطبقه ثم رفع رأسه إليَّ وقال لي: أنت ابن المغازلي. قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: قد بلغني أنك تحكي وتُضحِك، وأنك تأتي بحكايات عجيبة ونوادر طريفة، قلت: نعم يا أمير المؤمنين، الحاجة تَفْتق الحيلة، أجمع بها الناس، وأتقرب إلى قلوبهم بحكايتها، ألتمس برّهم، وأتعيش بما أناله منهم، قال: فهات ما عندك، وخُذْ في فنك، فإن أضحكتني أجزتك بخمسمائة درهم، وإن لم أضحك فما لي عليك. فقلت للحَيْنِ والخذلان: ما معي إلا قَفَاي فاصفعه ما أحببت، وكي شئت، وبما شئت، فقال لي: قد أنصفتَ، إن ضحكت فلك ما ضمنت، وإن أنا لم أضحك صفعتك بهذا الجراب عَشْرَ صفعات، فقلت في نفسي: ملك لا يصفع إلا بشيء يسير، وبشيء خفيف هَيِّن، ثم التفت وإذا أنا بجراب أدَم ناعم في زاوية البيت، فقلصَ في نفسي: ما أخطأ حَزْري، ولا أخْلَفَ ظني، وما عسى أن يكون من جِرَابِ فيه ريح، إن أنا أضحتكه ربحت، وإن أنا لم أضحكه فأمر عشر صفَعات بِجِرَاب منفوخ هَيِّن، ثم أخذت في النوادر والحكايات والنفاسة والعبارة، فلم أدع حكاية أعرابي ولا نحوي ولا مُخَنث ولا قَاضٍ ولا زُطِّي ولا نَبَطِي ولا سندي ولا زنجي ولا خادم ولا تركي ولا شطارة ولا عيارة؛ ولا نادرة ولا حكاية إلا أحضرتها وأتيت بها، حتى نفد جميع ما عندي وتصدَّعَ رأسي وانقطعت وسكت، وَفَتَرْت وَبَرَدْت، فقال لي: هيه، هات ما عندك، وهو مغضب لا يضحك ولا يبتسم ولم يبق ورائي خادم إلا هرب، ولا غلام إلا ذهب لما استَفَزَّهم الضحك وورد عليهم من الأمر، فقلت: يا أمير المؤمنين قد نفد والله ما معي، وتصدَّعَ رأسي، وذهب معاشي، وما رأيت قط مثلك، وما بقيت لي إلا نادرة واحدة، فقال: هاتها، فقلت. يا أمير المؤمنين وعَدْتني أن تصفعني عشراً وجعلتها مكان الجائزة، فأسألك أن تضعف الجائزة وتضيف إليها عشراً، فأراد أن يضحك فاستمسك، ثم قال: نفعل، يا غلام خذ بيده، فأخذ بيدي ومددت قَفَاي فصفعت بالجِرَاب صفعة، فكأنما سقط علىِ قَفَاي قلعة، وإذا فيه حصى مُدَوِّر كأنه صنجات، فصفعت له عشراً كادت أن تنفصل رقبتي وينكسر عنقي طَنت أُذناي، وقدح الشعاع من عيني، فلما استوفيت العشرة صِحْت: يا سيدي، نصيحة، فرفع الصفح عني بعد أن عزم على إيفاء ما كنت سألته من إضعاف جائزتي، فقال: ما نصيحتك. فقلت: يا سيدي، إنه ليس في الديانة أحسن من الأمانة، ولا أقبح من الخيانة، وقد ضمنت للخادم الذي أدخلني عليك نصف الجائزة على قلتها أو كثرتها، وأمير المؤمنين أطال اللّه بقاءه بفضله وكرمه قد أضْعَفَهَا، فقد استوفيت نصفها، وبقي لخادمك نصفها، فضحك حتى استلقى، واستفزه ما كان قد سمعه مني أولاً، وتحامل له وصبر عليه، فما زال يضرب بيده ويفحص برجله ويمسك بمَرَاق بطنه، حتى إذا سكن ضحكه ورجَعَتْ إليه نفسه قال: عليَّ بفلان الخادم، فأني به، وكان طُوَالاً، فأمر بصفعه، فقالَ: يا أمير المؤمنين، أي شيء قضيتي. وأي جناية جنايتي. فقلت له: هذه جائزتي، وأنت شريكي، وقد استوفيت نصفها، وبقي نصيبك من منها،
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق