إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 29 سبتمبر 2015

( مروج الذهب، ومعادن الجوهر ) المسعودي صفحة : 674


( مروج الذهب، ومعادن الجوهر ) المسعودي

صفحة : 674


  قال: فتناول الحربة وهَزَّهَا، فرأيت الموت الأحمر في طرفها، ثم برق عينيه مع ذلك فاستسلمت، وقلت: هذا ملك الموت، ولم أشك أنه يقبض روحي، فأهوى بها نحوي، فزُغْتُ منها، فاسترجع وقد أخطأتني، فقال: ويلك أبغضت ما فيه عيناك، ومَلِلْتَ الحياة. قلت: ما هو يا أمير المؤمنين. قال: أخبار أُم جعفر زدني منها، قلت: نعم يا أمير المؤمنين، كان من فعلها وحسن سيرتها في الجد والهزل ما بَرَزَتْ فيه على غيرها، فأما الجد والآثار الجميلة التي لم يكن في الِإسلام مثلها، مثل حفرها العين المعروفة بعين المشاش بالحجاز، فإنها حفرتها، ومهدت الطريق لمائها في كل خَفْض ورفع وسَهْل وجبل ووَعْر، حتى أخرجتها من مسافة اثني عشر ميلاً إلى مكة، فكان جملة ما أنفقت عليها- مما ذكر وأحصى- ألف ألف وسبعمائة ألف دينار، وما قَدَّمت ذكره من المصانع والدور والبرك والآبار بالحجاز والثغور، وإيقافها الأُلوف على ذلك، دون ما كان في وقتها من البذل، وما عم أهل الفاقة من المعروف والخصب، وأما الوجه الثاني- مما تتباهى به الملوك في أعمالهم، وينعمون به في أيامهم ويصونون به دُوَلَهم، ويدون في أفعالهم وسيرهم- فهو أنها أوَّلُ من اتخذ الآلة من الذهب والفضة المكلَّلَة بالجوهر، وصنع لها الرفيع من الوَشْي، حتى بلغ الثوب من الوشي الذي اتخذ لها خمسين ألف دينار، وهي أول من اتخذ الشاكرية من الخدم والجواري، يختلفون على الدواب في جهاتها، ويذهبون في حوائجها برسائلها وكتبها، وأول من اتخذ القباب من الفضة والأبنوس والصندل وكلاليبها من الذهب والفضة ملبسة بالوشي والسمور والديباج وأنواع الحرير من الأحمر والأصفر والأخضر والأزرق، واتخذت الخفاف المرصَّعَة بالجوهر وشمع العنبر، وتشبه الناس في سائر أفعالهم بأم جعفر.

 ولما أفضى الأمر إلى ولدها يا أمير المؤمنين قَدَّمَ الخدَمَ، وآثرهم، ورفع منازلهم، ككوثر وغيره من خَدَمِه، فلما رأت أُم جعفر شدة شغفه بالخدم واشتغاله بهم اتخذت الجواري المقدودات الحسان الوجوه، وعممت رؤوسهن، وجعلت لهن الطًّرَر والأصْدَاغَ والأقفية، وألبستهن الأقبية والقراطق والمناطق، فماست قدودهن، وبرزت أردافهم، وبعثت بهن إليه، فاختلفن في يديه، فاستحسنهن واجتذبن قلبه إليهن، وأبرزهن للناس من الخاصة والعامة، واتخذ الناس من الخاصة والعامة الجواريَ المطمومات؛ وألبسوهن الأقبية والمناطق، وسموهن الغلاميات.

 فلما سمع القاهر ذلك الوصف ذهب به الفرح والطرب والسرور، ونادى بأعلى صوته: يا غلام، قَدَح على وصف الغلاميات، فبادر جَوَارٍ كثيرة قَدُهن واحد، توهمتهن غلماناً بالقَرَاطِقِ والأقبية والطرر والأقفية ومناطق الذهب والفضة، فأخذ الكأس بيده، فأقبلْتُ أتأمل صفاء جوهر الكأس ونورية الشراب، وشعاعه، وحسن أولئك الجواري، والحربة بين يديه، وأسرع في شربه، فقال: هيه.

 وصف المأمون

 فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، ثم أفْضَى الأمر إلى المأمون، فكان في بَدء أمره- لما غلب عليه الفضل بن سهل وغيره- ويستعمل النظر في أحكام النجوم وقضاياها، وينقاد إلى موجباتها، ويذهب مذاهب من سلف من ملوك ساسان كأردشير بن بابك وغيره، واجتهد في قراءة الكتب القديمة، وأمعن في درسها، وواظب على قراءتها، فافتن في فهمها، وبلغ درايتها. فلما كان من الفضل بن سهل في الرياستين ما اشتهر وقَدِمَ العراق انصرف غن ذلك كله، وأظهر القول بالتوحيد والوعد والوعيد، وجالس المتكلمين، وقرب إليه كثيراً من الجدليين المبرزين والمناظرين كأبي الْهُذَيْل وأبي إسحاق إبراهيم بن سَيَّار النّظّام وغيرهم ممن وافقهم وخالفهم، وألزم مجلسه الفقهاء، وأهل المعرفة من الأدباء، وأقدمهم من الأمصار، وأجرى عليهم الأرزاق، فرغب الناسُ في صنعة النظر، وتَعلموا البحث والجَدَلَ، ووضع كل فريق منهم كتباً ينصر فيها مذهبه ويؤيد بها قوله، وكان أكثر الناس عفواً، وأشدهم احتمالاً، وأحسنهم مقدرة، وأجودهم بالمال الرغيب، وأبذلهم للعطايا، وأبعدهم من التسافة واتًبَعه وزراؤه وأصحابه في فعله، وسلكوا سبيله، وذهبوا مذهبه.

 وصف المعتصم
 



يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق