( مروج الذهب، ومعادن الجوهر ) المسعودي
صفحة : 682
بين القاهر والراضي
وكان القاهر قد عمد إلى كثير من الأموال عند قتله لمؤنس وبليق وابنه علي وغيرهم فغيَّبَهَا، فلما قبض عليه وسُمِلت عيناه وأفضت الخلافة إلى الراضي طولب القاهر بالأموال، فأنكر أن يكون عنده شيء من ذلك، فأوذي وعُذِّب بأنواع من العذاب، وكل ذلك لا يزيده إلا إنكاراً، فأخذه الراضي وقربه وأدناه، وطالت مجالسته وإياه، وإكرامه له، وأعطاه حق العمومية والسن والتقدم في الخلافة، ولاطفه وأحسن إليه غاية الإِحسان، وكان للقاهر في بعض الحصون بستان نحو من جريب قد غرس فيه النارنج وقد حمل إليه من البصرة وعمان مما حمل من أرض الهند، قد اشتبكت أشجاره، ولاحت ثماره كالنجوم من أحمر وأصفر، وبين ذلك أنواع الغروس والرياحين والزمر، وقد جعل مع ذلك في الصحن أنواع الأطيار من القَمَاري والدباسي والشحارير والببغاء، مما قد جلب إليه من الممالك والأمصار، وكان ذلك في غاية الحسن، وكان القاهر كثير الشرب عليه، والجلوس في تلك المجالس، فلما أفْضَتِ الخلافة إلى الراضي اشتد شغفه بذلك الموضع، فكان يداوم الجلوس والشرب فيه، ثم إن الراضي رَفَقَ بالقاهر، وأعلمه بما هو فيه من مطالبة الرجال بالأموال والحاجة إليها، ولا شيء قِبَلَه منها، وسأله أن يُسْعفه بما عنده منها إذ كانت الدولة له، وأن يدبر تدبيره، ويرجع في كل الأمور إلى قوله، وحلف له بالأيمان الوكيدة أن لا يسعى في قتله ولا الإضرار به ولا بأحد من ولده، فأنعم له القاهر بذلك، وقال: ليس لي مال إلا في بستان النارنج؛ فصار الراضي إلى البستان وسأله عن الموضع، فقال له القاهر: قد حجب بصري فلست أعرف موضعه، ولكن مر بحفرة فإنك تظهر على الموضع ولا يخفى عليك مكان ذلك، فحفر البستان، وقلع تلك الأشجار والغروس والأزهار حتى لم يبق منه موضع إلا حفره، وبولغ في حفره فلم يجد شيئاً، فقال له الراضي: فما هاهنا شيء مما ذكرت، فما الذي حملك على ما صنعت. فقال له القاهر: وهل عندي من المال شيء. إنما كانت حَسْرَتِي على جلوسك في هذا الموضع وتمتعك به، وكان لذتي من الدنيا، فتأسفت على أن يمتع به بعدي غيري، فتأسف الراضي على ما توجَّهَ عليه من الحيلة في أمر ذلك البستان، وندم على قبوله منه، وأبعد القاهر، فلم يكن يدنو منه خوفاً على نفسه أن يتناول بعض أطرافه.
خلق الراضي وعاداته
وكان الراضي كثير الاستعمال للطيب، حسن الهيئة، سخياً، جواداً، حسن المذاكرة بأخبار الناس وأيامهم، مقرباً لأهل العلم والأدب والمعرفة، كثير الدنو منهم، فائضاً بجوده عليهم، ولم يكن ينصرف عنه أحد من ندمائه في كل يوم إلا بصلة أو خلعة أو طيب، وكانوا عدة ندماء: منهم محمد بن يحيى الصولي، وابن حمدون النديم، وغيرهما، فعوتب على كثرة إفضاله على مَنْ يحضره من الجلساء، فقال: أنا أستحسن فعل أمير المؤمنين أبي العباس السفاح؛ لأنه كانت فيه فضائل لا تكاد تجتمع في أحد، لا يحضره نديم ولا مغن مُلْهٍ ولا قَيْنَة فينصرف إلا بصلة أو كسوة قَلّتْ أو كثرت، وكان لا يؤخر إحسان محسن لغد، ويقول العجب من إنسان يفرح إنساناً فيتعجل السرور ويؤخر ثواب مَنْ سره تسويفاً وعِدَةً، فكان أبو العباس في كل ليلة أو يوم يقعد لشغله لا ينصرف أحد ممن حضره إلا مسروراً، ونحن إن لم تتأت لنا الأُمور كتأتيها لمن سلف فإنا نواسي جلساءنا، بل إخواننا، ببعض ما حضرنا، وكان سخياً على سائر الأشياء لا يستكثر لأحد من ندمائه كثرة ما يصل إليه على طول الأيام، حتى كان بعضهم ربما يتأخر عن الحضور لما يترادف عليه من فضله، وكان الغالب عليه من الخدم وزيرك، ومن الغلمان ذكي وغيره.
الراضي باللّه وبجكم التركي
وحدث أبو الحسن العروضي مؤدب الراضي قال: اجتزت في يوم مهرجان بدجلة بدار بَجْكم التركي؛ فرأيت من الهرج والملاهي واللعب والفرح والسرور ما لم أر مثله، ثم دخلت إلى الراضي بالله فوجدته خالياً بنفسه قد اعتراه هَمّ؛ فوقفت بين يديه، فقال لي: ادن، فدنوت؛ فإذا بيده دينار ودرهم، في الدينار نحو من مثاقيل ، وفي الدرهم كذلك، عليهما صورة بَجْكم شاك في سلاحه وحوله مكتوب:
إنما العز فأعْلَـم للأمِير المُعَظَّـم
لسيد الناس بَجْكم
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق