( مروج الذهب، ومعادن الجوهر ) المسعودي
صفحة : 649
حرب هارون الشاري
وفي سنة ثلاث وثمانين ومائتين نزل المعتضد تكريت، وسار الحسين بن حمدان في الأولياء لحرب هارون الشاري، فكانت بينهم حرب عظيمة كانت للحسين بن حمدان عليه، فأتى به المعتضد أسيراً بغير أمان، ومعه أخوه فدخل المعتضد بغداد، وقد نُصِبَتْ له القباب، وزينت له الطرقات، وَعَبَّأ المعتضد باللّه جيوشه بباب الشماسية أحسن ما يكون من التعبئة وأكمل هيئة، فاشتقوا بغداد إلى القصر المعروف بالحسني، ثم خلع المعتضد على الحسين بن حمدان خِلَعاً شَرَّفَه بها، وطوقه بطوق من ذهب، وخلع على جماعة من فُرْسَانه ورؤساء أصحابه وأهله، وشهرهم في الناس كرامة لما كان من فعلهم وحسن بلائهم، ثم أمر بالشاري فأركب فيلاً وعليه دُرَّاعَة ديباج، وعلى رأسه برنس خز طويل، وخلفه أخوه على جمل فالج وهو ذو السنامين، وعليه دُرَّاعة ديباج وبرنس خز، وسيرهما في أثر الحسين بن حمدان وأصحابه، ثم دخل المعتضد في أثره عليه قَبَاء أسود وقلنسوة محدودة على فرس صناي عن يساره أخوه عبد اللّه بن الموفق، وخلفه بدر غلامه، وأبو القاسم عبيد اللّه بن سليمان بن وهب وزيره وابنه القاسم بن عبيد اللّه، فأكثر الناسُ الدعاء له، وتكاثف الناس في منصرفهم من الجانب الشرقي إلى الغربي، فأنخسف بهم كرسي الجسر الأعلى، وسقط على زورق مملوء ناساً، فغرق فيِ هذا اليوم نحو من ألف نفس ممن عرف عون من لم يعرف، واستخرج الناس من دجلة بالكلاليب وبالغَاصَةِ، وارتفع الضجيج، وكثر الصُّرَاخ من الجانبين جميعاً، فبينما الناس كذلك إذ أخرج بعض الغَاصَةِ صبيّاَ عليه حلى فاخرة من ذهب وجوهر، فبصر به شيخ من النظارة طَرَّار، فجعل يلطم وجهه حتى أدمى أنفه، ثم تمرغ في التراب، وأظهر أنه ابنه، وجعل يقول: يا سيدي، لم تَمُتْ إذ أخرجوك صحيحاً سيويّاً لم يأكلك السمك، ولم تمت، حبيبي ليتني كحلت عيني بك مرة قتل الموت، وأخذه فحمله على حمار ثم مضى به، فما برح القوم الذين رأوا من الشيخ ما رأوا حتى أقبل رجل معروف باليسار مشهور من التجار حين بلغه الخبر وهو لا يشك إلا أن الصبي في أيديهم، وليس يهمه ما كان عليه من حلى وثياب، وإنما أراد أن يكفنه ويصلي عليه ويدفنه، فخبره الناس بالخبر، فبقي هو ومن معه من التجار متعجبين مبهوتين، وسألوا عنه واستبحثوا، فإذا لا عين ولا أثر، وعَرَفَ تَوَابُو هذا الجسر هذا الشيخ المحتال فأيأسوا أبا الغريق منه، وذكروا أنه شيخِ قد أعياهم أمره وحيرهم كيده، وأنه بلغ من حيله وخبثه ودهائه أنه أتى يوماً من أول الصباح إلى باب بعض العُدُول الكبار المشهورين بالرياسة واليسار ومعه جرة فارغة قد حملها على عاتقه وفأس وزنبيل، فقام في ثوب خَلَقٍ، ولم يتكلم حتى وضع الفأس في الدكاكين التي على باب ذلك العَدْلِ فهدمها، وجعل ينقي الآجر ويعزله، فسمع ذلك العدل بهدمها، ووقع الفأس والهدم، فخرج لينظر فإذا الشيخ دائب يهدم دكاكينه التي على باب دارِهِ، فقال: يا عبد اللّه، أي شيء تصنع. ومَنْ أمرك بهذا. فجعل الشيخ يعمل عمله، ولا يلتفت إلى العدل، ولا يكلمه، فاجتمع الجيران وهما في المحاورة، فأخذوا بيد الشيخ، فوكزه هذا، ودفعه هذا، فالتفت إليهم، فقال: مالكم. ويلكم أي شيء تريدون مني. أما تستحون. تعبثون بي وأنا شيخ كبير. فقالوا: ما لنا والعَبَثَ بك. وَيْحَك مَنْ أمرك بهذا. قال: وَيْحَكم أمرني صاحِبُ الدار، فقالوا: هذا صاحب الدار يكلمك، قال: لا واللّه ما هو هذا، فلما سمعوا كلامه وغفلته رحموه، وقالوا: هذا مجنون أو مخدوع خَدَعَهُ بعض جيران هذا العدل ممن قد حسده على ما أنعم اللّه تعالى به عليه، وهم الذين حملوا هذا الشيخ على هذا الفعل؛ فلما منعوه من الهدم مضى إلى الجرة التي جاء بها- وقد كان وضعها إلى جانب الباب- فأدخل يده فيها كأنه خبأ ثيابه بها، فصرخ وبكى، فلم يَشُكَّ العدلُ أن محتالاً خدعة وأخذ ثيابه، فقال: وأي شيء ذهب لك. قال: قميص جديد اشتريته أمس وَمِلْحَفَة لبيتي وسَرَاويل، فرقوا له جميعاً، ودَعاه العَدْلُ فكساه ووهب له دراهم كثيرة، ووهب له الجيرانُ دراهم كثيرة، وانصرف غانماً، وهذا الشيخ كان يُعْرف بالعقاب، ويكنى بأبي الباز، وله أخبار عجيبةَ وحيل لطيفة وهو الذي احتال للمتوكل، حين بايعه بختيشوع الطبيب أنه إن سرق من داره شيئاً يعرفه في ثلاث ليال ذكرت من ذلك الشهر فعليه أن
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق