( مروج الذهب، ومعادن الجوهر ) المسعودي
صفحة : 679
العروضي يحكي عن الراضي وسعة إطلاعه
وذكر العروضي- وهو ممن كان أدَّبَ الراضي وغيره من الخلفاء وأبنائهم- قال: حدثت الراضي ذات يوم خبراً لقتيبة بن مسلم الباهلي في الكبر وغيره من الخصال التي توجد في أهل الرياسات مما يحمد فيهم وما يكره منهم من الأخلاق، فكتب ذلك في حال صباه وعنفوان حداثته ولقد رأيته مواظباً على درسه إلى أن استكمل إتقانه في مجلسه، فداخل عند ذلك طرب وفرح وأريحية لم أعهدها منه، ثم قال لي وقد أقبل عليَّ: لعل الزمان أن يبلغ بي أن أتأدب بهذه الخصال، وأكون في مرتبة من يرتاض بهذه الآداب، وهو أنه قيل لقتيبة بن مسلم وهو وَالٍ على خراسان للحجاج ومحاربٌ للترك: لو وجهت فلاناً- لرجل من أصحابه- إلى حرب بعض الملوك على الجيش، فقال قتيبة: إنه رجل عظيم الكبر، ومَنْ عظم كبره اشتد عجبه، ومن أعجب برأيه لم يشاور كفياً، ولم يؤامر نصيحاً ومَنْ تَبَجّحَ بالإِعجاب وفخر بالاستبداد، كان من الصنع بعيداً، ومن الخذلان قريباً، والخطأ مع الجماعة خير من الصواب مع الفرقة، ومن تكبر على عدوه حَقَره، وإذا حَقَره تهاون بأمره، ومن تهاون بأمر عدوه ووثق بأمر قوته وسكن إلى جميعِ عُدّته قَل احتراسه، ومن قل احتراسه كثر عِثَاره؛ وما رأيت عظيماً تكبر على صاحب حرب قَطُّ إلا كان منكوب ومهزوماً من قَطَاةٍ، وأحذر من عَقْعَق، وأشد إقداماً من أسد، وأوثب من فهد، وأحقد من جمل، وأروغ من ثعلب، وأسخى من ديك، وأشح من ظبي، وأحرس من كركي ، وأحفظ من كلب، وأصبر من ضب، وأجمع من النمل، وإن النفس إنما تسمح بالعناية على قدْر الحاجة، وتتحفظ على قدر الخوف، وتطمع على قدر السبب، وقد قيل على وجه الدهر: ليس لمعجَبٍ رأيٌ، ولا لمتكبر صديق، ومن أحب أن يُحَبَ تحبب
بين معاوية وقيس بن سعد
قال العروضي: وتذاكرنا يوماً بحضرة الراضي باللّه في حال صباه- وقد حضر جماعة من ذوي العلم والمعرفة بأخبار الناس ممن غَبَرَ- فانتهى الأمر إلى خبر معاوية بن أبي سفيان حين ورد عليه كتاب من ملك الروم يرسل إليه سراويل أجْسَم رجل عنده، فقال معاوية: لا أعلمه إلا قيس بن سعد، فقال لقيس: إذا انصرفت فابعث إلي بسراويلك، فخَلَعَهَا ورمى بها، فقال معاوية: هلا بعثت بها من منزلك، فقال قيس:
أردت لكيما يعلم الناسُ أنـهـا سراويلً قيسٍ والوفود شهـود
وأن لا يقولوا: غاب قيس وهذه سراويل عَادٍ قد نمته ثـمـود
فقال قائل ممن حضر: قد كان جَبَلَةُ بن الأيهم أحد ملوك بني غَسَّان طوله اثنا عشر شبراً، فإذا ركب مسحت قدماه الأرض، فقال له الراضي للّه: قد كان قيس بن سعد هذا المذكور إذا ركب تخط قدماه الأرض، وإذا مشى بين الناس يتوهمون أنه راكب، وقد كان جَدِّي عليُّ بن عبد اللّه بن العباس طويلاً جميلاً يتعجب الناس من طوله، وكان يقول: كنت إلى منكب عبد اللّه بن عباس، وكان عبد اللّه إلى منكب جَدِّي العباس، وكان العباس بن عبد المطلب إذا طاف بالبيت يرى كأنه فُسْطَاط أبيض، قال: فتعجب واللّه مَنْ حضر من إيراده هذا الخبر ومن كلامه مع صغر سنه.
طير الكيكم
ثم تذاكرنا عجائب البلدان، وما خصَّ به كل صقع من الأرض من أنواع النبات والحيوان والجماد من أنواع الجواهر وغيرها، فقال لي قائل ممن حضر: إن أعجب ما في الدنيا طير يكون بأرض طبرستان على شاطئ الأنهار شبيه بالبَاشِقِ، وأهل طبرستان يسمونه بالكيكم، وهو صياحه الذي يصيح به، ولا يصيح في السنة إلا في هذا الفصل يعني الربيع فإذا صاح اجتمعت عليه العصافير وصغار الطيور مما يكون في المياه وغيرها؛ فتزقُه من أول النهار، حتى إذا كان في آخره أخذ واحداً مما قرب من الطير فأكله، وكذلك يفعل في كل يوم إلى أن ينقضي هذا الفصل الربيعي فإذا انقضى ذلك انعكست عليه الطيور فلا تزال تجتمع عليه وتضربه وتطرده، وهو يَهْرُبُ منها ولا يسمع له صوت إلى الفصل الربيعي، وهو طير حسن موشى حسن العينين، قال: وذكر علي بن زيد الطبيب الطبري صاحب كتاب فردوس الحكمة أن هذا الطائر ليس يكاد يُرَى، ولم ترَ قط قدماه على الأرض معاً، بل يطأ على الأرض بإحدى قدميه على البدل لا يطأ الأرض بهما معاً في حالة واحدة، قال: وقد ذكر الجاحظ أن هذا الطير من إحدى عجائب الدنيا، وذلك أنه لا يطأ الأرض بقدميه، بل بأحداهما، خوفاً على الأرض أن تنخسف به من تحته.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق