( مروج الذهب، ومعادن الجوهر ) المسعودي
صفحة : 645
فحكى أبو بشر الدولابي عن أبي عبد اللّه النجاري- وكان شيخاً من أهل العراق، وكان يقرأ في دور آل طولون وَمَقَابرهم- أنه كان في تلك الليلة ممن يقرأ عند القبر، وقد قدم أبو الجيش ليُدَلّى في القبر، ونحن نقرأ جماعة من القراء سبعة سورة الدخان، فأحدر من السرير، ودلِّيَ في القبر، وانتهَيْنَا من السورة في هذا الوقت إلى قوله عز وجل: خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم، ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم، ذق إنك أنت العزيز الكريم قال: فخفضنا أصواتنا وأدغمنا حياء ممن حضر.
من حزم المعتضد
ومما ذكر من خبر المعتضد وحزمه في الأُمور وحيله أنه أطلق من بيت المال لبعض الرسوم في الجند عشرِ بدَرٍ، فحملت إلى منزل صاحب عطاء الجيش ليصرفها فيهم، فنقب منزله في تلك الليلة، وأخذت العشر البدر، فلما أصبح نظر إلى النقب ولم ير المال، فأمر بإحضار صاحب الحرس، وكان على الحرس يومئذٍ مؤنس العجلي، فلما أتاه قال له: إن هذا المال للسلطان والجند، ومتى لم تأت به أو بالذي نقبه وأخذ المال ألزمك أمير المؤمنين غرمه، فجد في طلبه، وطلب اللص الذي جَسَرَ على هذا الفعل، فصار إلى مجلسه، وأحضر التوابين والشرط، والتوابون: هم شيوخ أنواع اللصوص الذين قد كبروا وتابوا، فإذا جرت حادثة علموا مِنْ فِعْل مَنْ هي، فدلُّوا عليه، وربما يتقاسمون اللصوص ما سرقوه، فتقدم إليهم في الطلب، وتهدَّدهم، وأوعدهم، وطالبهم، فتفرق القوم في الدروب والأسواق والغرف والمواخير ودكاكين الرواسين ودور القمار. فما لبثوا أن أحضروا رجلاً نحيفاً ضعيف الجسم رث الكسوة هين الحالة فقالوا: يا سيدي هذا صاحب الفعلة وهو غريب من غير هذا البلد، وأطبق القوم كلهم على أنه صاحب النقب ولص المال، فأقبل عليه مؤنس العجلي فقال له: ويلك مَنْ كان معك. وَمن أعانك. وأين أصحابك. ما أظنك تقدر على عشر بدر وحدك في ليلة، ما كنتم إلا عشرة سة، فأقر لي بالمال إن كان مجتمعاً، وعلىِ أصحابك إن سم، فما زاده على الِإنكار شيئاً، فأقبل يترفقُ به ويَعِدُه أن ظم جائزته، ويعده بكل جميل على رده والِإقرار به، ويتوعده مكروه وهو على جحوده وإنكاره، فلما غاظه ذلك وأنكره ويئس من إقراره أخذ في عقوبته ومساءلته، فضربه بالسوط والقلوس والمقارع والدرة على ظهره وبطنه وقفاه ورأسه وأسفل رجليه وكعابه وعضله، حتى لم يكن للضرب فيه موضع، وبلغ به ذلك إلى حالة لا يعقل فيها ولا نطق، فلم يقر بشيء، فبلغ ذلك المعتضد، فأحضر صاحب الجيش، فقال له: ما صنعت في المال. فأخبره الخبر، فقال له: ويلك تأخذ لصاً قد سرق من بيت المال عشر بدر فتبلغ به الموت والتلف حتى يهلك الرجل ويضيع المال، فأين حيل الرجال قال: يا أمير المؤمنين ما أعلم الغيب، ولم تكن لي في أمره حيلة غير ما فعلت، قال: أحضرني الرجل فأتي به وقد حمل في جل، فوضع بين يديه وقد قل، فسأله فأنكر، فقال له: ويلك إن مُت لم ينفعك، وإن برئت من هذا الضرب ونجوت لم أدعك تصل إليه، فلك الأمان والضمان على ما تصلح به حالتك ويحمد به أمرك فأبى إلا الإنكار، فقال: علي بأهل الطب، فأحضروا، فقال: خذوا هذا الرجل إليكم فعالجوه بأرفق العلاج، وواظبوا عليه بالمراهم والغذاء والتعاهد، واجتهدوا أن تبرئوه في أسرع وقت، فأخذوه إليهم، وأخرج مالاً مكان المال وأمر بتفريقه على الجند، فيقال: إنه بريء وصلح في أيام يسيرة، ثم واظبوا عليه بالطعام والشراب والوطاء والطيب حتى صَحَّ وقوي جسمه وظهر لونه ورجعت إليه نفسه، ثم ذكر به، فأمر بإحضاره، فلما حضر بين يديه سأله عن حاله، فدعا وشكر، وقال:
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق