( مروج الذهب، ومعادن الجوهر ) المسعودي
صفحة : 621
وذكر صالح بن علي الهاشمي قال: حضرت يوماً من الأيام جلوس المهتدي للمظالم، فرأيت من سهولة الوصول إليه ونفوذ الكُتب عنه إلى النواحي فيما يتظلم به إليه ما استحسنته، فأقبلت أرْمُقُهُ ببصري إذا نظر في القصص، فإذا رجع طرفه إليَّ أطرقْتُ، فكأنه علم ما في نفسي، فقال لي: يا صالح، أحْسَبُ أن في نفسك شيئاً تحب أن تذكره، قلت: نعم يا أمير المؤمنين، فأمَسك، فلما فرغ من جلوسه أمرني أن لا أبرح ونهض فجلَسْت جلوساً طوَيلاً، ثم دعاني فدخلت إليه وهو على حصير الصلاة، فقال لي: يا صالح، أتحدثني بما في نفسك أو أحدثك به. قلت: بل هو من أمير المؤمنين أحسن، فقال: كأني بك قد استحسنت ما رأيت من مجلسنا، فقْلتَ: أي حليفة إن لم يكن يقول بخلق القرآن، فقلت: نعم، فقال: قد كنت على ذلك برهة من الدهر حتى أقدم على الواثق شيخ من أهل الفقه والحديث من أهل أذَنَه من الثغر الشامي مقيد طُوَال، حسن الهيئة، فسلم عليه غير هائب، ودعا فأوجز، فرأيت الحياء منه في حماليق عين الواثق والرحمة له، فقال له: يا شيخ أجب أبا عبد اللّه أحمد بن أبي دؤاد فيما يسألك عنه، فقال:. يا أمير المؤمنين، أحمد يقلّ ويضعف عن المناظرة، فرأيت الواثق قد صار في مكان الرقة والرحمة له غضباً، فقال له: أبو عبد اللّه يضعف عن المناظرة؛ فقال له: هَوَن عليك يا أمير المؤمنين، أتأذن في كلامه. فقال له الواثق: قد أذنت لك، فأقبل الشيخ على أحمد فقال له: يا أحمد ماذا دعوت الناس إليه. فقال: إلى القول بخلق القرآن، فمال الشيخ: مقالتك هذه التي دَعَوْتَ الناس إليها من القول بخلق القرآن، داخلة في الدين فلا يكون الدين تاماً إلا بالقول بها. قال: نعم، قال الشيخ: رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دعا الناسَ إليها أو تركهم. قال: تركهم، قال: فعلمها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أو لم يَعْلَمْهَا. قال: علمها، قال: فلم دعوت الناس إلى ما يَدْعُهم إليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وتَرَكَهم منه. فأمسك أحمد، فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، هذه واحدة، ثم قال له بعد ساعة: يا أحمد، قال اللّه في كتابه العزيز: اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكمِ نعمتي، ورضيت لكم الِإسلام دينَاً فقلت أنت: لا يكون الدين تاماَ إلا بمقالتكم بخلق القرآن، فاللهّ أصدق في إكماله وإتمامه أو أنت في نقصانك. فأمسك، قال الشيخ: يا أمير المؤمنين وهذه ثانية، ثم قال له بعد ساعة: أخبرني يا أحمد عن قول الله عزّ وجلّ في كتابه: يا أيها الرسول بَلِّغْ ما أنزل إليك من ربك الآية فمقالتك هذه التي دعوت الناسَ إليها بَلّغه الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة أم لا. فأمسك، فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، وهذه ثالثة، ثم قال بعد ساعة: أخبرني يا أحمد لما علم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من مقالتك هذه التي دعوت الناس إليها وإلى القول بها من خلق القرآن أوَسِعَهُ أن أمْسَكَ عنهم أم لا. قال أحمد: بل اتسع له ذلك، فقال: وكذلك لأبي بكر وعمر، وكذلك لعثمان، وكذلك لعلىِ، رضي اللهّ عنهم قال: نعم، فصرف وجهه إلى الواثق وقال: يا أمير المؤمنين، وإذا لم يتسع لنا ما اتسع لرسول اللهّ صلى الله عليه وسلم ولأصحابه فلا وَسَّع الله عينا، فقال الواثق: نعم لا وَسَّعَ اللهّ علينا إن لم يتسع لنا ما اتسع لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولأصحابه، ثم قال الواثق: اقطعوا قيده، فلما فكوا قيده عنه جاذب عليه، فقال الواثق: دعوه، ثم قال للشيخ: لم جاذبت عليه. قال: لأني عقدت في نيتي أن أجاذب عليه، فإذا أخذته أوصيت أن يجعل بين كفني وبدنىِ حتى أقول: يا رب، سَلْ عبدك هذا لم قَيَّدنِي ظلماً وأراع فيَّ أهلي، فبكى الواثق، وبكى الشيخ وكل من حضر، ثم قال له الواثق: يا شيخ، اجعلني في حِلٍّ فقال: يا أمير المؤمنين، ما خرجت من منزلي حتى جعلتك في حل إعظاماً لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولقرابتك منه، فتهلّلَ وجه الواثق وسره، ثم قال له: أقم عندي آنس بك، فقال: مكاني في ذلك الثغر أنفع، أنا شيخ كبير، ولي حاجة، قال: سَلْ ما بدا لك، قال: يأذن أمير المؤمنيِن لي في الرجوع إلى الموضع الذي أخرجَنِي منه هذا الظالم، قال: قد أذنت لك، وأمر له جائزة، فلم يقبلها، فرجعت من ذلك الوقت عن تلك المقالة. وأحسب أن الواثق رَجَعَ عنها.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق