( مروج الذهب، ومعادن الجوهر ) المسعودي
صفحة : 640
وقد قدمنا فيما سلف من كتبنا الأخبار عن قلاع فيروز بن كبك الملك ببلاد زابلستان التي ليس في قلاع العالم على ما ظهر للناس من ذوي العناية والتنقير ومَنْ أكثر في الأرض المسيَر أحْصَنُ منها، ولا أمنع ولا أعلى في الجو، ولا أكثر عجائل منها وذكرنا عجائب تلك الديار إلى بلاد الطبسين وبلاد خراسان واتصالها بسجستان، وعجائب المشرقين والمغربين من عامر وغامر، وما في العامرمن الأمم المختلفة الخلق والخُلق.
قدوم أهل البصرة على المعتضد
وقد كان أهل البصرة وردوا على المعتضد في مراكب بحرية بيض مشحمة بالشحم والنورة على ما في بحرهم، ووفد فيها خلق من خطبائهم ومتكلميهم وأهل الرياسة والشرف والعلم: منهم أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي، وكان مولى آل جُمَح من قريش، وكان ولي القضاء بعد ذلك، يشكون إلى المعتضد ما نزل بهم من محن الزمان، وجدبٍ لحقهم، وجَوْرٍ من العمال اعتورهم، وألحوا بالصياح والضجيج في مراكبهم في دجلة، فجلس لهم المعتضد من وراء حجاب، وأمر الوزير القاسم بن عبيد اللّه وغيره من كتاب الدواوين بالجلوس لهم من حيث يسمع المعتضد خطابهم، فيقصون لهم بما يشكونه من حكم الدواوين، ثم أذن للبصريين فدخلوا، وأبو خليفة في أولهم، عليهم الطيالسة الزرق والأقناع على رؤوسهم، ذوو عوارض جميلة وهيئة حسنة، فاستحسن المعتضد ما رأى منهم، وكان المبتدئ منهم بالنطق أبو خليفة؛ فقال: غمر العامر، ودَثَرَ الظاهر، واختلفت العَوَّاء، وخسفت الجوزاء، وأناخت علينا المصائب، واعتورتنا المحن، وقام كل رجل منا في ظلمة، واصطلمت الضياع، وانخفضت القلاع، فانظر إلينا بعين الِإمام، تستقيم لك الأيام، وتنقاد لك الأنام، وإلا فنحن البصريون لا نُدْفَع عن فضيلة، ولا نتنافس عن جليلة. وسَجعَ في كلامه، وأغرق في خطابه، فقال له الوزير: أحسبك مؤدباً أيها الشيخ، فقال له: أيها الوزير، المؤدبون أجلسوك هذا المجلس، قال له الوزير: كم في خمس من الِإبل. قال له أبو خليفة: الخبيرَ سألت؛ في خمس من الِإبل شاة، وفي العشر شاتان؛ ثم مضى في وصف فرائض الِإبل واصفَاً لما يجب فيها، ذاكراً للتنازع في موضعه منها؛ ثم شرع في البقر والغنم، بلسان فصيح وخطاب حسن في إيجاز من خطاب وبيان من الوصف. فبعث المعتضد- وقد أعجبة ما سمع، وأكثر لذلك من الضحك،- بخادم إلى الوزير، فقال له: أكتب لهم عما يريدون، وأجبهم إلى ما سألوه، ولا تصرفهم إلا شاكرين؛ فهذا شيطان قذف به البحر، ومثله فَلْيَفِدْ على الملوك.
أبو خليفة الجمحي
وكان أبو خليفة لا يتكلف الإِعراب، بل قد صار له كالطبْع، لدوام استعماله إياه من عنفوان حداثته، وكان ذا محل من الِإسناد.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق