( مروج الذهب، ومعادن الجوهر ) المسعودي
صفحة : 593
وذكر علي بن الجهم قال: لما أفْضَتِ الخلافة إلى أمير المؤمنين جعفر المتوكل على الله أهدى إليه الناس على أقدارهم، وأهدى إليه ابن طاهر هدية فيها مائتا وصيفة ووصيف، وفي الهدية جارية يقال لها محبوبة كانت لرجل من أهل الطائف قد أدبها وثقفها وعلمها من صنوف العلم وكانت تقول الشعر وتلحنه وتغني به على العود وكانت تحسن كلِ ما يحسنه علماء الناس، فحسن موقعها من المتوكل، وحَلّتْ من قلبه محلاً جليلاً لم يكن أحد يعد لها عنده، قال علي: فدخلتُ عليه يوماً للمنادمة، فلما استقر بي المجلس قام فدخل بعض المقاصير، ثم خرج وهو يضحك، فقال لي: ويلك يا علي، دخلت فرأيت قَيْنَة قد كتبت في خدها بالمسك جعفراً فما رأيت أحسن منه، فقل فيه شيئاً، فقلت: يا سيدي، وحدي أو أنا ومحبوبة، قال: لا، بل أنت ومحبوبة، قال: فدعت بدواة وقرطاس، فسبقتْنِي إلى القول، ثم أخذت العود فتزنمت، ثم خفقت عليه حتى صاغت له لحناً وتضاحكت منه ملياً، ثم قالت: يا أمير المؤمنين، تأذن لي. فأذن لها، فغنت:
وكاتبة في الخد بالمسك جـعـفـرا بنفسي محطُّ المسك من حيث أثرا
لئن أودَعَتْ خطا من المسك خَدَّهَـا لقد أودعت قلبي من الوجد أسطرا
فيا من لمملـوك يظـل مـلـيكُـه طيعاً له فيمـا أسًـرَ وأجـهـرا
ويا من لعيني مَنْ رأى مثل جعفـر سقى اللَه صوبَ المستهلات جعفرا قال علي: وتبلدت خواطري حتى كأني ما أحسن حرفاً من الشعر، قال: فقال لي المتوكل: ويلك يا علي ما أمرتك به، فقلت: يا سيدي أقِلْنِي فواللّه لقد عَزَبَ عن ذهني، فلم يزل يضرب به على رأسي ويعيرني به إلى أن مات.
قال علي: ودخلت عليه أيضاً لأنادمه، فقال لي: ويلك يا علي، علمت أني غاضبت محبوبة، وأمرتها بلزوم مقصورتها، ونهيت الحشم عن الدخول إليها، وأنفت من كلامها. فقلت: يا سيدي، إن كنت غاضبتها اليوم فصالحها غداً، ويديم اللّه سرور أمير المؤمنين، ويمدُّ في عمره، قال: فأطرق مليّاً، ثم قال للندماء: انصرفوا، وأمر برفع الشراب، فرفع، فلما كان من غد دخلْتُ إليه، فقال: ويلك يا علي، إني رأيت البارحة في النوم أني قد صالحتها، فقالت جارية يُقال لها شاطر كانت تقف أمامه: واللّه لقد سمعت الساعة في مقصورتها هينمة لا أدري ما هي، فقال لي: قم ويلك حتى ننظر ما هي، فقام حافياً وقمت أتبعه حتى قربنا من مقصورتها، فإذا هي تخفق عوداً وتترنم بشيء كأنها تصوغ لحناً، ثم رفعت عقيرتها وتغنت:
أدور في القصر لا أرى أحـداً أشكو إلـيه ولا يكـلـمـنـي
حتى كأني أتَـيْتُ مـعـصـيةً ليس لها توبة تخـلـصـنـي
فَمَنْ شفيعٌ لـنـا إلـى مـلـك قد زارني في الكَرَى وصالحني
حتى إذا ما الصباحُ عـاد لـنـا عاد إلى هجره وصَارَمَـنـي قال: فصفق المتوكل طرباً، فصفقت معه، فدخل إليها فلم تزل تقبِّل رجل المتوكل وتمرغ خديها على التراب حتى أخذ بيدها، ورجعنا وهي ثالثتنا.
قال علي: فلما قتل المتوكل ضمت هي وكثير من الوصائف إلى بُغَا الكبير، فدخَلْتُ عليه يوماً للمنادمة، فأمر بهَتْكِ الستارة، وأمر بالْقَينات فأقبلن يرفلن في الحلي والحلل، وأقبلت محبوبة حاسرة من الحلى والحلل، عليها بياض، فجلَسَتْ مُطْرِقة منكسة، فقال لها وصيف، غني، قال: فاعتّلتْ عليه، فقال: أقسمت عليك، وأمر بالْعُود فوضع في حجرها، فلما لم تجد بُدّاً من القول تركَ العود في حجرها، ثم غنت عليه غناء مرتجلاً:
أي عـيش يَلَـــذُّ لـــي لا أرِى فـيه جـعـفـــرا
ملـــك قـــد رأيتـــهُ في نـجِـيعٍ مُـعَـفّـــرا
كل مـن كـان ذا خَـبَـــا ل وسـقـم فـقـد بَـــرَا
غير مـحـبـوبة الـتـــي لوً ترى الـمـوت يُشـتَـرَى
لاشترته بما حوته يداها لِتُقبرا قال: فغضب عليها وصيف وأمر بسجنها، فسجنت، وكان آخر العهد بها.
قال المسعودي: ومات في خلافة المتوكل جماعة من أهل العلم ونقلة الأثر وحفاظ الحديث: منهم علي بن جعفر المديني بسامرا يوم الاثنين لثلاث بَقِينَ من في الحجة سنة أربع وثلاثين ومائتين، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة وأشهر.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق