( مروج الذهب، ومعادن الجوهر ) المسعودي
صفحة : 591
قال البحتري: فتطيرت من بكائه وقلت هذه ثانية؛ فإنا في ذلك إذ أقبل خادم من خدم قبيحة ومعه منديل وفيه خلعة وجهت بها إليه قبيحة، فقال له الرسول: يا أمير المؤمنين تقول لك قبيحة: إني استعملت هذه الخلعة لأمير المؤمنين واستحسنتها ووجهت بها لتلبسها، قال: فإذا فيها دراعة حمراء لم أر مثلها قط، ومُطْرَفُ خز أحمر كأنه ديبقي من رقَّتهِ، قال: فلبس الخلعة والتَحَفَ بالمطرف. قال البحتري: فتصيدت لأبدره بنادرة تكون سبباً لأخذ المطرف فإني على ذلك إذ تحرك المتوكل فيه وقد كان التف عليه المطرف فجذبه جذبة فخرقه من طرفه إلى طرفه، قال: فأخذه ولفه ودفعه إلى خادم قبيحة الذي جاءه بالخلعة، وقال: قل لها احتفظي بهذا المطرف عندك ليكون كفناً لي عند وفاتي، فقلت في نفسي: إنا للّه وأنا إليه راجعون، انقضت واللّه المدة؛ وسكر المتوكل سكراً شديداً، قال: وكان من عادته أنه إذا تمايل عند سكره أن يقيمه الخدم الذين عند رأسه، قال: فبينما نحن كذلك ومضى نحو ثلاث ساعات من الليل إذ أقبل باغر ومعه عشرة نفر من الأتراك وهم متلثمون والسيوف في أيديهم تبرق في ضوء تلك الشمع، فهجموا علينا، وأقبلوا نحو المتوكل حتى صعد باغر ومعه آخر من الأتراك على السرير، فصاح بهم الفتح: ويلكم مولاكم. فلما رآهم الغلمان ومَنْ كان حاضراً من الجلساء والندماء تطايروا على وجوههم، فلم يبق أحد في المجلس غير الفتح وهو يحاربهم ويمانعهم قال البحتري: فسمعت صيحة المتوكل وقد ضربه باغر بالسيف الذي كان المتوكل دفعه إليه على جانبه الأيمن، فَقَمَّه إلى خاصرته، ثم ثنّاه على جانبه الأيسر ففعل مثل ذلك، وأقبل الفتح يمانعهم عنه فَبَعَجَه واحد منهم بالسيف الذي كَان معه في بطنه فأخرجه منِ متنه، وهو صابر لا يتنحَّى ولا يزول، قال البحتري: فما رأيت أحداً كَان أقْوَى نفساً ولا أكرم منه، ثم طرح بنفسه على المتوكل، فماتا جميعاً، فلفا في البساط الذي قتلا فيه، وطرحا ناحية، فلم يزالا على حالتهما في ليلتهما وعامة نهارهما حتى استقرت الخلافة للمنتصر، فأمر بهما فدفنا جميعاً، وقيل: إن قبيحة كفنته بذلك المطرف المخرق بعينه.
وقد كان بُغَا الصغير توحش من المتوكل فكان المنتصر يجتذب قلوب الأتراك، وكان أوتامش غلام الواثق مع المنتصر، فكان المتوكل يبغضه لذلك، وكان أوتامش يجتذب قلوب الأتراك إلى المنتصر، وعبيد الله بن خاقان الوزير والفتح بن خاقان منحرفين عن المنتصر مائلين إلى المعتز، وكانا قد أوْغَرا قلب المتوكل على المنتصر، فكان المنتصر لا يُبْعِدُ المتوكل أحداً من الأتراك إلا اجتذبه، فاستمال قلوب الأتراك وكثيراً من الفراغنة والإشروسية، إلى أن كان من الأمر ما ذكرناه.
وقد ذكر في كيفية قتل المتوكل غير ما ذكرنا، وهذا ما اخترناه في هذا الموضع، إذ كان أحسن ألفاظاً وأقرب مأخذاً، وقد أتينا على جميع ما قيل في ذلك قي الكتاب الأوسط، فأغنى ذلك عن تكراره في هذا الكتاب.
ولم يكن المتوكل يوماً أشد سروراً منه في اليوم. الذي قتل فيه. فلقد أصبح في هذا اليوم نشيطاً فرحاً مسروراً، وقال: كأني أجد حركة الدم. فاحتجم في ذلك اليوم، وأحضر الندماء والملهين، فاشتد سروره وكثر فرحه، فانقلب ذلك الفرح ترحاً والسرور حزناً؛ فمن ذا الذي يغتر بالدنيا ويسكن إليها، ويأمن الغدر والنكبات فيها إلا جاهل مغرور. فهي دار لا يدوم نعيمها، ولا يتم فيها سرور، ولا يؤمن فيها محذور، قد قرنت منها السراء بالضراء، والشحة بالرخاء، والنعيم بالبلوى. ثم يتبعها الزوال، فمع نعيمها البؤس، ومع سرورها الحزن، ومع محبوبها المكروه، ومع صحتها السقم، ومع حياتها الموت، ومع فراحاتها الترحات، ومع لذاتها الآفات، عزيزها ذليل، وقويُّها مَهِين، وغنيها محروب وعظيمهما مسلوب، ولا يبقى إلا الحي الذي لا يموت ولا يزول ملكه وهو العزبز الحكيم.
وفي ذلك يقول البحتري في غدر المنتصر بأبيه وفتكه به، من قصيدة له:
أكَان ولي العهد أضمـر غَـدْرَةً فمن عَجَبِ أو وُلِّيَ العهد غادرُهْ
فلا مُلِّيَ الباقي تراث الذي مضى ولا حملتَ ذاك الدعاء منابـره
وصف أيام المتوكل
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق