( مروج الذهب، ومعادن الجوهر ) المسعودي
صفحة : 583
وفاة جماعة من أهل العلم
وفي السنة التي مات فيها ابن حنبل كانت وفاة محمد بن عبد اللّه بن محمد الِإسكافي، وكان من أهل النظر والبحث ومن عِلْيَةِ أهل العدل، وكانت وفاة جعفر بن المبشر سنة أربع ومائتين، وكان من كبار أهل العَدْلية وأهل الديانة من البغداديين، ومات جعفر بن حرب سنة ست وثلاثين ومائتين، وهو رجل من هَمْدَانَ وَوُجُوه قحطان، وإلى أبيه يضاف شارع باب حرب في الجانب الغربي من مدينة السلام، وهو شيخ البغداديين من المتكلمين ومات عيسى بن طغج سنة خمس وأربعين ومائتين، وكان من حُذاقهم وأهل الديانات منهم، وذكر أبو الحسن الخياط أن أبا الهذيل محمد بن الهذيل كانت وفاته سنة سبع وعشرين ومائتين، ثم تنازع أصحابه في مولده فقال قوم: سنة إحدى وثلاثين ومائة وقال قوم: سنة أربع وثلاثين ومائة، وقد كان أبو الهذيل هذا اجتمع مع هشام بن الحكم الكوفي الحرار، وكان هشام شيخ المجسمة والرافضة في وقته ممن وافقه على مذهبه، وكان أبو الهذيل يذهب إلى نفي التجسيم ورفع التشبيه، وإلى ضد قول هشام في التوحيد والإِمامة، فقال هشام لأبي الهذيل: إذا زعمت أن الحركة ترى فَلِمَ لا زعمت أنها تلمس. قال: لأنها ليست بجسم فيلمس؛ لأن اللمس إنما يقع على الأجسام، فقال له هشام: فقل أيضاً إنها لا ترى؛ لأن الرؤية إنما تقع على الأجسام، فرجع أبو الهذيل سائلًا فقال له: من أين قلت إن الصفة ليست الموصوفَ ولا غيره. قال هشام: من قبل أنه يستحيل أن يكون فعلي أنا يستحيل أن يكون غيري. لأن التغاير إنما أوقِعُهُ على الأجسام والأعيان القائمة بأنفسها، فلما لم يكن فعلي قائماً بنفسه، ولم يجز أن يكون فعلي أنا وجب أنه لا أنا ولا غيري، وعلة أخرى أنت قائل بها: زعمت يا أبا الهذيل أن الحركة ليست مماسة ولا مباينة. لأنها عندك مما لا يجوز عليه المماسة ولا المباينة، فلذلك قلت أنا: إن الصفة ليست أنا ولا غيري، وعتبي في أنها ليست أنا ولا غيري علتًكَ في أنها لا تماس ولا تباين، فانقطع أبو الهذيل ولم يردَ جواباً.
وفاة جماعة من المعتزلة
وكانت وفاة أبي موسى الفَرَّاء سنة ست وعشرين ومائتين، وكان من شيوخ العَدْلية وكبار المتكلمين من البغداديين، ومات واصل بن عطاء- ويكنى بأبي حذيفة- في سنة إحدى وثلاثين ومائة، وهو شيخ المعتزلة وقديمها، وأول من أظهر القول بالمنزلة بين المنزلتين، وهو أن الفاسق من أهل الملة ليس بمؤمن ولا كافر، وبه سميت المعتزلة، وهو الاعتزال، وقد قدَّمنا فيما سلف من هذا الكتاب في أخبار بني أمية قول المعتزلة في الأصول الخمسة، فأغنى ذلك عن إعادته، وكذلك فيما سلف من كتبنا على الشرح والِإيضاح، وقد بينا فيما سلف من هذا الكتاب خبر عمرو بن عُبَيْد ووفاته، وكان شيخ المعتزلة والمقدَّمُ فيها، وأن وفاته كانت سنة أربع وأربعين ومائة، وقد كان عمرو بنِ عُبَيْد اجتمع مع هشام بن الحكم، وهشام يذهب إلى القول بأن الإِمامة نصٌ من اللّه ورسوله على عليّ بن أبي طالب رضي اللّه تعالى عنه، وعلى مَنْ يلي عصره من ولده الطاهرين كالحسن والحسين، ومن يلي أيامهم، وعمرو يذهب إلى أن الإمامة اختيار من الأمة في سائر الأعصار فقال هشام لعمرو بن عبيد: لم خلق اللّه لك عينين. قال: لأنظر بهما إلى ما خلق اللّه من السموات والأرض وغير ذلك فيكون ذلك دليلاً لي عليه، فقال هشام: فلم خلق اللّه لك سمعاً. قال: لأسمع به التحليل والتحريم والأمر والنهي، فقال له هشام: لم خلق اللّه لك لساناً. فقال عمرو: لأعبر به عما في قلبي وأخاطب به من افترض عليّ أمره ونهيه، قال هشام: فلم خلق اللّه لك قلباً. قال عمرو: لتكون هذه الحواسُ مؤدية إليه فيكون مميزاً بين منافعها ومضارها، قال هشام: فكان يجوز أن يخلق الله سائر حواسك ولا يخلق لك قلباً تؤدي هذه الحواسُّ إليه. قال عمرو: لا، فقال هشام: ولم. قال: لأن القلب باعث لهذه الحواس على ما يصبحِ له، فلو لم يخلق الله فيها انبعاثاً من نفسها استحال أن لا يخلق لها باعثاً يبعثها على ما خلقت له إلا بخلق القلب، فيكون هو الباعث لها على ما تفعله، والمميز لها بين مضارها ومنافعها، ويكون الإِمام من الخلق بمنزلة القلب من سائر الحواس إذ كانت الحواس راجعة إلى القلب لا إلى غيره، ويكون سائر الخلق راجعين إلى الِإمام لا إلى غيره، فلم يأت عمرو بفرق يعرف.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق