( مروج الذهب، ومعادن الجوهر ) المسعودي
صفحة : 581
مقيم الظَنِّ عندك والأمانـي وإن قَلِقَتْ ركَابي في البلاد
المتوكل يشتهي قدراً طبخها ملاحون
وحكي عن الفتح بن خاقان قال: كنت عند المتوكل وقد عزم على الضَبُوح بالجعفري، وقد وَجَّه خلف الندماء والمغنين، قال: فجعلنا نطوف وهو متكئ علي وأنا أحادثه، حتى وصلنا إلى موضع يشرف منه على الخليج، فدعا بكرسي فقعد عليه، وأقبل يحادثني، إذ بصر بسفينة مشدودة بالقُرْب من شاطئ الخليج، ومَلّاح بين يديه قدر كبيرة يطبخ فيها سكباج من لحم بقر، وقد فاحت روائحها، فقال: يا فتح رائحة قدر سكباج واللّه، ويحك، أما ترى ما أطيب رائحتها، عليَّ بها على حالها، فبادر الفراشون فانتزعوها من بين يدي الملاحين، فلما عاين الملاحون أصحاب السفينة ما فعل بهم ذهبت نفوسهم فَرَقاً وخوفاً، وجاءوا المتوكل بالقدر تفور كهيئتها، فوضعت بين أيدينا، فاستطاب ريحها واستحسن لونها، ودعا برغيف فكسر منه كسرة ودفعها إليَّ، وأخذ هو منه مثلها، وأكل كل واحد منا ثلاث لُقم، وأقبل الندماء والمغنون، فجعل يلقم كل واحد منهم لقمة من القدر، وأقبل الطعام ووضعت الموائد، فلما فرغ من أكله أمر بتلك القدر ففرغت وغسلت بين يديه، وأمر أن تملأ دراهم، فجيء بَبَدره ففرغت فيها، فَفَضَلَ من الدراهم مقدار ألفي درهم، فقال لخادم كان بين يديه: خذ هذه القدر فامض بها حتى تدفعها لأصحاب السفينة، وقل لهم: هذا ثمن ما أكلنا من قدركم، وادفع إلى مَنْ طبخها ما فضل من هذه البَدْرَة منِ الدراهم هِبَةً له على تجويده طبخها، قال الفتح: فكان المتوكل كثيراً ما يقول إذا ذكر قدر الملاح: ما أكلت أحسن من سكباج أصحاب السفينة في ذلك اليوم.
وأخبرنا أبو القاسم جعفر بن محمد بن محمد بن حمدان الموصلي الفقيه بجهينة، وكان من حديثة الموصل: قال: حدثنا أبو الحسن الصالحي، قال: قال الجاحظ: ذُكرتُ لأمير المؤمنين المتوكل لتأديب بعض ولده، فلما راني استبشع مَنْظَرِي، فأمر لي بعشرة آلاف درهم وَصَرَفَنِي، وخرجت من عنده، فلقيت محمد بن إبراهيم وهو يريد الإِنصراف إلى مدينة السلام، فعرض علي الخروج معه والإِنحدار في حَرَّاقته، فركبنا فيها، فلما أتينا كم نهر القاطول وخرجنا من سامرا نصب ستارته وأمر بالغناء، فاندفعت عَوَّادة فغنت:
كلَّ يوم قطـيعة وعـتـاب ينقضي دهرنا ونحن غِضَاب
ليت شعري أنا خُصِصْتُ بهذا دون ذا الخلق أم كذا الأحباب وسكتت، فأمر الطنْبُورية فغنت:
وارحمتا للعاشـقـينـا ما إنْ أرى لهمُ مُعِينـا
كم يُهْجَرُونَ ويصرمو ن ويقطعون فيصبرونا قال: فقالتَ لها العَوَادة: فيصنعون ماذا. قالت: هكذا يصنعون، وضربت بيدها إلى الستارة فهتكتها وبَرَزَتْ كأنها فلقة قمر فزجَتْ بنفسها إلى الماء، وعلى رأس محمد غلامٌ يضاهيها في الجمال وبيده مِذَبّة، فلما رأى ما صنعت ألقى المِذَبة من يده وأتى الموضع ونظر إليها وهي تمر بين الماء فأنشأ يقول:
وأنا الذي غرقتنـي بعد القضا لو تعلمينا فزج بنفسه في أثرها، فأدار الملاح الحراقة فإذا هما معتنقان، ثم غاصا فلم يُرَيَا، فهال ذلك محمداً واستعظمه، وقال: يا عمرو لتحدثني حديثاً يسليني عن فقد هذين وإلا ألحقتك بهما، قال: فحضرني حديث يزيد بن عبد الملك، وقد قعد للمظالم وعرضت عليه القصص، فمرت به قصة فيها: إن رأى أمير المؤمنين أعزه اللّه أن يخرج جاريته فلانة حتى تغنيني ثلاثة أصوات فعل، فاغتاظ يزيد، وأمر من يخرج إليه ويأتيه برأسه، ثم أمر بأن يتبع الرسول برسول آخر يأمره أن يُدْخِلَ إليه الرجل، فلما وقف بين يديه قال له: ما الذي حملك على ما صنعت. قال: الثقة بحلمك والاتكال على عفوك، فأمره بالجلوس حتى لم يبق أحد من بني أمية إلا خرج، ثم أمر فأخرجت الجارية ومعها عُودُهَا، فقال لها الفتى: غني:
أفاطم مَهْلاً بعـض هـذا الـتـدلـل وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي فغنته، فقال له يزيد: قل، قال: غني:
تألقَ البَرْقُ نجديّاً، فقلـت لـه: يا أيها البرق إني عنك مشغول
يكفيك عني عدو ثائر حـنـق في كفه صارم كالملح مسلول
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق