( مروج الذهب، ومعادن الجوهر ) المسعودي
صفحة : 568
وحدث محمد بن يزيد المبرد، عنِ الحسن بن رجاء، قال: صار إليَ أبو تمام وأنا بفارس، فأقام عندي مقاماً طويلاً، ونمي إليَّ من غير وجه أنه لا يصلي، فوكلت به مَنْ يراعيه، ويتفقده في أوقات الصلاة، فوجدت الأمر على ما اتصل بي عنه، فعاتبته على فعله ذلك، فكان من جوابه أن قال: أتراني أنشط للشخوص إليك من مدينه السلام وأتجشم هذه الطرقاتْ الشاقة، وأكسل عن ركعات لا مئونة عليَّ فيها، لو كنت أعلم أن لمن صلاها ثواباً أو على مَنْ تركها عقاباً، قال: فهممت واللّه بقتله، ثم تخوَّفْتُ أن يصرف الأمر إلى غير جهته، وهو القائل:
وأحق الأنَام أن يَقْضِيَ الدَّيْنَ امْرُؤ كَانَ لِلإِله غَـرِيمَـاً وهذا قول مباين لهذا الفعل، والناس في أبي تمام في طرفَيْ نقيض: متعصب له يعطيه أكثر من حقه، ويتجاوز به في الوصف قدره، ويرى أن شعره فوق كل شعر، أو منحرف له معاند، فهو ينفي عنه حسنه، ويعيب مختاره، ويستقبح المعاني الظريفة التي سَبَقَ إليِها وتفرد بها.
وذكر عبد اللّه بن الحسن بن سعد، أن المبرد قال: كنت في مجلس القاضي أبي إسحاق إسماعيل بن إسحاق، وحضر جماعة سَمَّاهم منهم لحارثي الذي قال فيه علي بن الجهم الشامي:
لم يَطْلـعـا إلا لآبـدة الحارثِيُّ وَكَوْكَب الذنب فجرى ذلك الشعر وإن كان الكلام تسلسل إلى ذكر أبي تمام وشعره، وأن الحارثي أنشد لأبي تمام معاتبة أحسن فيها، وأن المبرد استحيا أن يستعيد الحارثي الشعر، أو يكتبه منه لأجل القاضي، قال ابن سعد: فأعلمت المبرد أني أحفظ الشعر، فأنشدته إياه، فاستحسنه واستعاده مني مراراً حتى حفظه مني، وهو:
جعلت فداك عبد اللَّه عنـدي بعقب النأي عنه والـبـعـاد
له لُمَة من الفـتـيان بـيض قَضَوْا حق الصداقة والـوداد
دعوتهُم عليك وَكُنْتُ ممن أنَادِيه علـى الـنّـوَبِ الـشــداد قال: وسألته عن أبي تمام والبحتري أيهما أشعر. قال: لأبي تمام استخراجات لطيفة، ومعان ظريفة، وجيدة أجود من شعر البحتري، ومن شعر مَنْ تَقَدَّمه من المحدَثِينَ، وشعر البحتري أحسن استواء من شعر أبي تمام، لأن البحتري يقول القصيدة كلها، فتكون سليمة من طعن طاعن أو عيب عائب، وأبو تمام يقول البيت النادر ويتبعه البيت السخيف، وما أشبهه إلا بغائص البحر يخرج الحرة والمَخْشلبة فيجعلهما في نظام واحد، وإنما يؤتي هو وكثير من الشعراء من البخل بأشعارهم، وإلا فلو أسقط من شعره على كثرة عدده ما أنكر منه لكان أشعر نظرائه، فدعاني هذا القول منه إلى أن قرأت عليه شعر أبي تمام، وأسقطت خواطئه وكل ما ذُمَّ من شعره، وأفردت جيده، فوجدت ما يتمثل به ويجري على ألسنة العامة وكثير من الخاصة مائة وخمسين بيتاً، ولا أعرف شاعراً جاهليّاً ولا إسلاميّاً يتمثل له بهذا المقدار من الشعر، ثم قال المبرد: وبالبحتري يُخْتَمُ الشعر، وأنشدني له بيتين زعم المبرد أنهما لو أضيفا إلى شعر زهير لجازا فيه، وهما:
وما سَفَهُ السفيه وإن تَعَدَى بأنْجَعَ فيك من حلم الحلـيم
متى أحْفَظْتَ ذا كرمٍ تَخَطّى إليك ببعض أفعال اللـئيم قال: وكان مما ذكرناه من شعر البحتري في هذا المجلس وَقدمّه محمد بن يزيد على نظرائه قولُه في أبني صاعد بن مخلد:
وإذا رأيت مخايل ابْنَيْ صَاعِدٍ أدَتْ إليك مخايل ابني مَخْلَـدِ
كالفرقدين إذا تأمـل نـاظـر لم يَعْلُ موضع فرقد من فرقد وقوله:
مَنْ شاكِرٌ عني الْخَلِيفَةَ لِلـذِي أولاهُ مِنْ بِرٍّ وَمِنْ إحسـان.
حتى لقد أفْضَلْتُ من إفْضَالِـه وأريت نهج الجود حيث أراني
أغْنَتْ يداه يدي، وَشَـر جـوده بخلي فأفقرني كما أغنـانـي
ووثقت بالخلق الجميل معجـلا منه وأعطيت الذي أعطانـي وقوله:
وددتُ بياضُ السيفِ يوم لقيتننـي مكان بياض الشيب كان بمفرقي وقوله:
دنوتَ تواضعاً وعلوت قدراً فَشأنَاكَ انحدار وارتـفـاع
كذاك الشمس تَبْعُدُ أن تًسَامى ويدنو الضوء منها والشعاع وقوله في الفتح بن خاقان، وقد نزل إلى أسَد فقتله:
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق