( مروج الذهب، ومعادن الجوهر ) المسعودي
صفحة : 615
الأتراك والمعتز
ولما رأى الأتراك إقْدام المعتز على قتل رؤسائهم، وإعمالَهُ الحيلَةَ في فنائهم، وأنه قد اصطنع المغاربة والفراغنة دونهم صاروا إليه بأجمعهم، وذلك لأربع بقين من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين، وجعلوا يقرعونه بذنوبه، ويوبخونه على أفعاله، وطالبوه بالأموال، وكان المدبر لذلك صالح بن وصيف مع قُوَّاد الأتراك، فلجَّ وأنكر أن يكون قبله شيء من المال، فلما حصل المعتز في أيديهم بعث إلى مدينة السلام في محمد بن الواثق الملقب بالمهتدي، وقد كان المعتز نَفَاه إليها واعتقله فيها، فأتي به في يوم وليلة إلى سامرا، فتلقَّاه الأولياء في الطريق، ودخل إلى الجوسق، وأجاب المعتز إلى الخلع، على أن يعطوه الأمان أن لا يُقْتَلَ وأن يؤمنوه على نفسه وماله وولده، وأبى محمد بن الواثق أن يقعد في سرير الملك أو يقبل البيعة حتى يرف المعتز ويسقى كلامه، فأتي بالمعتز وعليه قميص مدنس وعلى رأسه منديل، فلما رآه محمد بن الواثق وَثَبَ إليه فعانقه، وجلسا جميعاً على السرير، فقال له محمد بن الواثق: يا أخي، ما هذا الأمر. قال المعتز: أمر لا أطيقه، ولا أقوم به، ولا أصْلُح له، فأراد المهتدي أن يتوسَّط أمره، ويصلح الحال بينه وبين الأتراك، فقال المعتز: لا حاجة لي فيها، ولا يَرْضَوْننِي لها، قال المهتدي: فأنا في حلّ من بيعتك، قال: أنت في حل وَسَعَةٍ، فلما جعله في حل من بيعته حَوَلَ وجهه عنه، فأقيم عن حضرته، ورُدَّ إلى محبسه، فقُتِلَ في محبسه بعد أن خلع بستة أيام، على ما قدمنا في صدر هذا الباب.
وقد قالت الشعراء في خلع المعتز وقتله فأكثرت، ورثته فأحسنت، فمن ذلك قول بعض أهل ذلك العصر من قصيدة له:
عَيْنُ لا تـبـخـلـي بـسـفـــح الـــدمـــوع وانـدبـي خـير فـاجــع مـــفـــجـــوع
خانه الناصح الشفيق ونالته أكُفُّ الردى بحَتْفٍ سـريع
بَكَرَ الترك ناقمين عليه خالـعـيه أفــديه مـــن مـــخـــلـــوع
قَتَـلُـوهُ ظـلـمـاً وجــوراً فـــألـــفـــو ه كـــريم الأخـــلاق غـــير جَـــــزُوع
كان يغـشـى بـحـسـنـه بـهـجة الـــبـــد ر فـتـلـقـاه مُـظْـهِـراً لـلـخـــضـــوع
وترى الشمس تستكين فلا تشرق إمَّا رأته وقت الطلوع
لم يهابوا جيشاً ولا رهبوا السيف، فَلَهْفِي على القتيل الخليع
أصبح الترك مالكي الأمر والعا لم مـا بـــين ســـامـــع ومـــطـــيع
وتـرى الــلّـــه فـــيهـــمُ مـــالـــك الأمـر سـيخـزيهـــمُ بـــقـــتـــل ذريع وقال فيه آخر من قصيدة طويلة:
أصْـبَـحَـتْ مـقـلـتـي بـدَمْـع سـفـوحـــا حين قـالـوا: أضـحـى الِإمــام ذبـــيحـــا
قتـلـوه ظـلـــمـــاً وجـــوراً وغـــدراً حين أهْـدَوْا إلـيه حـتــفـــاً مُـــرِيحَـــا
نَضَـرَ الـلّـه ذلـك الـوجـــه وجـــهـــاً وسـقـى الـلّـه ذلـــك الـــروح روحـــا
أيها الترك سوف تلقون للدهر سيوفا لا تستبل الجريحا
فاستعدُّوا للسيف عاقبه الأمر فقد جئتم فعالا قبيحا وقال آخر من قصيدة طويلة أيضاً:
أصـبـحـت مـقـلـتـي تَـسُـحُّ الـدمـوعـا إذ رأت لـسـيد الأنــام خـــلـــيعـــا
لهـف نـفـسـي عـلـيه مـا كـان أعـــلا ه وأسْـرَاه تـابـعـاً مـتـــبـــوعـــا
ألـزمـوه ذَنْـبـاً عـلـى غـــير جـــرم فثـوى فـيهـم قـتـــيلاً صـــريعـــا
وبـنـــو عـــمـــه وعَـــمِّ أبـــيه أظـهـروا ذلة وأبـدوا خــضـــوعـــاً
ما بهذا يصحَّ مُلْك ولا يغرى عدو ولا يكون جميعا وكان المعتز أول خليفة أظهر الركوب بحلية الذهب، وكان مَا سلف قبله من خلفاء بني العباس- وكذلك جماعة من بني أًمية- يركبون بالحلية الخفيفة من الفضة والمَنَاطق وأنجاد السيوف والسُّروج واللُّجم، فلما ركب المعتز بحلية الذهب اتبعه الناس في فعل ذلك.
وكذلك المستعين قبله أحْدَثَ لبس الأكمام الواسعة، ولم يكن يعهد ذلك، فجعل عرضها ثلاثة أشبار ونحو ذلك، وصَغَّر القلانس، وكانت قبل ذلك طوالاً كأقباع القضاء.
وفي سنة خمس وخمسين ومائتين ظهر بالكوفة علي بن زيد وعيسى بن جعفر العلوي، فسرح إليهما المعتز سعيد بن صالح المعروف بالحاجب في جيش عظيم، فانهزم الطالبيان لتفرق أصحابهما عنهما.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق