( مروج الذهب، ومعادن الجوهر ) المسعودي
صفحة : 588
المتوكل في دمثسق
وذكر سعيد بن نكيس قال: كنت واقفاً بين يدي المتوكل في مَضْرِبه بدمشق إذ شَغَبَ الجند واجتمعوا وضَجُّوا يطلبون الأعْطِيَةَ، ثم خرجوا إلى تجريد السلاح والرمي بالنشاب، وأقبلت أرى السهام ترتفع في الرواق، فقال لي: يا أبا سعيد، ادع لي رجاء الحضاري، فدعوته، فقال له: يا رجاء، أما ترى ما خرجِ إليه هؤلاء. فما الرأي عندك. فقال: يا أمير المؤمنين، قد كنت مُشْفقاَ في هذا السفر من مثل هذا، فأشرت بما أشرت من تأخيره، فمال أمير المؤمنين إليه، وقال: دَعْ ما مضى وقل الآن مما حضر برأيك، فقال: يا أمير المؤمنين، توضع الأغطية، فقال له: فهذا ما أرادوا، وفيه مع ما خرجوا إليه ما يعلم، قال: يا أمير المؤمنين، مُرْ بهذا فإن الرأي بعده، فأمر عبيد اللّه بن يحيى بوضع الأعطية فيهم، فلما خرج المال وبدئ بإنفاقه دخل رجاء فقال: مُرِ الآن يا أمير المؤمنين بضرب الطبل للرحيل إلى العراق، فإنهم لا يأخذون مما أخرج إليهم شيئاً، ففعل ذلك، فترك الناس الأعطية فرجعوا حتى إن المُعْطِيَ ليتعلق بالرجل ليعطيه رزقه فلا يأخذه.
الأتراك يدبرون وقيعة
قال سعيد: وقد كان الأتراك قد رأوا أنهم يقتلون المتوكل بدمشق، فلم يمكنهم فيه حيلة بسبب بُغَا الكبير، فإنهم دبِّرُوا في إبعاده عنه، فطرحوا في مضرب المتوكل الرقاع يقولون فيها: إن بُغَا دبر أن يقتل أمير المؤمنين، والعلامة في ذلك أن يركب في يوم كذا في خيله ورجله، فيأخذ عليه أطراف عسكره، ثم يأخذ جماعة من الغلمان العجم يدخلون عليه فيفتكون به، فقرأ المتوكل الرقاع فبهت مما تضمنته، ودخل في قلبه من بُغَا كل مدخل، وشكَا إلى الفتح ذلك، وقال له في أمر بًغَا والإِقدام عليه، وشاوره في ذلك، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الذي كتب الرقاع قد جعل للأمر دلائل في وقت بعينه سَمّاه له من ركوب الرجل بالأطراف من العسكر وتوكيله بنواحيه، وبعد ذلك يتبين الأمر، وأنا أرى أن تمسك، فإن صح هذا الدليل نظرنا كيف نفعل، وإن بطل ما كتب به فالحمد للّه، وأقبلت الرقاع تطرح في كلِ وقت على جهة التنصح، وأن في أعناق من كتبها بيعة لم يجد معها بداً من النصح والصدق، فلما علموا بما علم به الخليفة وتمكن به ما عندهم من الأمر كتبوا رقاعاً فطرحوها في مضرب بُغَا يقولون فيها: إن جماعة من الغلمان والأتراك قد عزموا على الفتك بالخليفة في عسكره، ودبَّرُوا ذلك، واتفقوا عليه، وتعاقدوا على أن يأتوه من نواحي كذا، ونواحي كذا، فاللّه اللّه إلا ما احترست لأمير المؤمنين، وحرسته في هذه الليلة من هذه المواضع، وحَصَّنتها بنفسك ومن تثق به، فإنا قد نصحنا وصدقنا، وأكثروا طرح الرقاع بهذا المعنى والتوكيد في حراسة الخليفة، فلما وقف بُغَا عليها وتتابعت عليه لم يأمن أن يكون ما كتب إليه فيها حقاً، مع ما كان وقع عليه من الأمر قبل ذلك، فلما كانت الليلة التي ذكروها جمع جيوشه وأمرهم بالركوب بالسلاح وركب بهم إلى المواضع التي ذكرت، فأخذها على المتوكل وحرسها، واتصل الخبر بالمتوكل فلم يشك أن ما كتب له حق، فأقبل يتوقع مَنْ يوافيه فيفتك به، وسهر ليلته، وامتنع من الأكل والشرب، فلم يزل على تلك الحال إلى الغَدَاة، وبُغَا يحرسه، والأمر عند المتوكل على خلاف ذلك، وقد اتهم بُغَا، واستوحش من فعله، فلما عزم المتوكل على الانصراف قال له: يا بُغَا، قد أبت نفسي مكَانك مني، و رأيت أن أقلدك هذا الصقع وأقر عليك ما كان لك من رزق وحِبَاء ونُزُد ومعونة وكل سبب، فقال: أنا عبدك يا أمير المؤمنين فافعل ما شئت وأمرني بما أحببت، فخلفه بالشام وانصرف، فأحدث الموالي عليه ما أحدثوا، فلم يعلم المتوكل وجه الحيلة، ولم يعلم كل واحد منهما الحيلة في ذلك إلى أن تمت الحيلة.
تدبير المؤامرة ضد المتوكل
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق