83
مقدمة
فتوح الشام
أبو عبدالله بن عمر الواقدي (الواقدي )
قال الواقدي: فلما جن الليل تزيا يرغون ابن عمها بزي الغلام سوسى وسار إلى سرادق الجارية فلما رأته ظنت أنه سوسى فوثبت إليه قائمة وسلمت عليه وصقعت له وكانت قد أبعدت الحرس عنها والغلمان والحجاب حتى لا يطلع أحد على سرها قال ثم إنها تحققت أنه ابن عمها فاستحيت منه ووجلت فلم يمكنها إلا أن تخدمه بأعظم خدمة.
فقال لها: يا طاريون أظننت أني لا أقف على سرك ولا أبحث عن أمرك.
يا ويحك أي مناسبة بين الروم والأرمن حتى أنك ملت إلى ابن ملك الغساسنة وتركت مثلي ثم إنه مال عليها بشدته وقبض عليها وألقمها أكرة وكتفها وخرج بها إلى عسكره فوجد أصحابه قد لبسوا وركبوا ورموا المضارب وشالوا ثقلهم فلما وصل إليهم حملها على بغل وساروا ونظر أصحاب سوسى إلى رحيل يرغون فقال لهم: أمهلوا أنتم بالرحيل إلى أن يطلع الفجر فإن هذا طريق ضيق تزدحم فيه الخيل والبغال قال ففعلوا ذلك وجد يرغون في السير فما أصبح إلا وهو على مرج السور فنزل هناك وأما الغلام سوسى فإنه لم يمض إلى الجارية ولا سأل عنها ولا سار إليها لأنه خاف أن يكون ذلك منها مكرًا به فتقبض عليه فلما أصبح أمر غلمانه بالرحيل وركب وأتى إلى سرادق الجارية طاريون فوجد قومها ينتظرون خروجها من سرادقها فدخل عليها خادمها وخرج وقال لهم: إن الملكة ما كان من أمرها ولا سبب لغيبتها.
قال فماج أصحابه وأرادوا الرجوع فقال لهم صاحبها: إن عدنا إلى الملك فلا نأمن أن يرمي رقابنا ويقول كيف غفلتم حتى أخذت ابنتي من بينكم وما عندكم خبر وما أخذ الملكة إلا يرغون ابن عمها لأن في قلبه شيئًا ثم إنهم ركبوا وجدوا في طلبه.
قال وإن يرغون لما نزل في مرج السور واستراح وهم بالمسير إذا بالقوم قد أشرفوا عليه وهم يزعقون: يا ويلك اترك الملكة من يدك قبل حلول منيتك فاستقبلهم هو ومن معلى من بني عمه وأقاربه فعندها قال لبني عمه: اعلموا أن العرب ما نصروا على أعدائهم إلا بالصدق في دينهم وقتالهم عن دين الله واعلموا أن هؤلاء القوم الذين طلبناهم لا يبخلون لا سيما إذا علموا أننا قصدناهم وأردناهم من غير قهر لكن من طريق العقل أن دينهم أفضل من ديننا لأنهم يشيرون إلى الله بالوحدانية ونحن نسجد للصلبان والصور ونقول إن للخالق زوجة وولدًا وهو واحد أحد فرد صمد وقد بلغني أنهم يقولون إنه من قتل منهم صار إلى الجنة ومن قتل منا صار إلى النار لأننا عندهم من الكفار فإن كنتم تريدون النصر على أعدائكم فأقروا الله بالوحدانية وقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
قال فأعلنوا بكلمة التوحيد فدوت من أصواتهم الجبال والتلال والرمال والشجر والحجر فلما سمع أعداء الله ما نطقوا به علموا أنهم دخلوا في دين الإسلام فتقدم سوسى وقد داروا بيرغون وأصحابه وقالوا له: يا ويلك يا يرغون أما كفاك أن تكون غادرًا حتى تكون بدين النصرانية كافرًا.
أتظن أن برجوعك إلى دينهم ينصرونك علينا وأين العرب وما يصل صائحك إليهم إلا ونحن فرغنا منك.
وقتلناكم أشر قتلة عن آخركم.
فقولوا لمحمد ينصركم ثم إنهم حملوا على يرغون ومن معه فاستقبلوهم بنية صادقة وهمم متوافقة وأعلنوا بكلمة الحق والصلاة على سيد الخلق وبذلوا صوارمهم في العدا وأوردوهم شراب الردى وقصدوا نحو أعدائهم وطلبوا بجهادهم منازل الجنة وطفقوا الدنيا ثلاثًا وكانوا يمشون في ظلمات ثلاث فانقدحت نار شوقهم بزناد صدقهم فأحرق زرع الكفر {فأصبح هشيمًا تذروه الرياح} [الكهف: 45]. فلما أضاءت لهم الأفكار ولاحت لهم لوائح الأنوار لم يجدوا من يشار إليه بالوحدانية ويوصف بالإلهية وينعت بالأزلية إلا الواحد القهار فركضوا في ميدان الاعتذار ونادوا بلسان الإقرار: آمنا بالله الواحد القهار فلما سرحوا خواطر الأفتكار في أسرار الاعتبار.
قالوا: كيف عبدنا سواه وما ثم لنا معبود إلا إياه فواخجلتنا إذا وقفنا بين يديه يوم العرض عليه فبأي عمل نلقاه وبأي بضاعة نقصد رضاه فأشار إليهم منادي الإيمان من القرآن {وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا عسى الله أن يتوب عليهم} [التوبة: 102] فلما رحلوا في عسكر الطاعة وخافوا من هول يوم الساعة وجعلوا رواحل رجائهم في ركب إقبالهم وساروا في موكب عزهم وجلالهم أشرقت شموس إسلامهم في ذلك استسلامهم وانقضت بازات أفراحهم من جو أتراحهم ومنادي جهادهم يناديهم: يا أخيار {سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} [الرعد: 24].
قال الواقدي: ودارت بهم الأوغاد وشرعوا نحوهم الصعاد وأشرف يرغون وأصحابه على الهلاك وإذ باب السور قد فتح وخرج منه مائة فارس كالليوث العوابس وقد رفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير ونادوا: يا من تعلقوا بكلمة التوحيد أبشروا بالنصر والتأييد ها نحن قد لبينا دعوتكم وخرجنا لنصرتكم وسوف نخلصكم من الأمر المهول فنحن أصحاب الرسول.
قال الواقدي: وكان هذا السور حصنا من الحصون وكان قد سلمه ميتًا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قد أرسل عياض بن غنم عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق في مائة فارس ليأتوه بالميرة وكان فيهم المقداد بن الأسود وضرار بن الأزور وسعد بن غنيم الأسدي ومعمر بن ماجد السلمي وباري بن مزة الغنوي وهلال بن عامر الأنصاري وعيينة بن رافع الجهني وخضر بن يعشور الفزاري ومثل هؤلاء السادات رضي الله عنهم أجمعين فلما وصلوا إلى السور تلقاهم طالوت صاحب الحصن وأنزلهم وأكرمهم وأمر لهم بالطعام وأقاموا عنده ثلاثة أيام حتى جاء يرغون وكان من أمره ما كان فلما سمعوهم يكبرون قالوا: هؤلاء قد دخلوا في ديننا وقد وجب علينا نصرتهم فخرجوا كما ذكرنا وحملوا على أعداء الله ونصروا يرغون ومن معه وانهزموا في الليل إلى مرج رغبان إلى الملك شهرياض فأخبروه بما جرى عليهم.
قال فأيقن بذهاب ملكه.
قال: فلما أصبح يرغون أتى إلى الصحابة وشكر الله إذ نجاه ومن معه على أيديهم وقد أزدادوا إيمانًا وحدث الصحابة بما كان من أمرهم وسار معهم إلى عياض بن غنم فما جازوا على ماردين نزل إليهم ميتًا وكان قد بلغه ما جرى فسلم عليهم وهنأهم بالسلامة وقال ليرغون وأصحابه: إن كنتم تريدون الثواب الجزيل من الملك الجليل فتمموا إسلامكم بما ألقيه عليكم.
فقال يرغون: وكيف العمل قال ميتا: انزل ههنا أنت ومن معك فإذا غربت الشمس فسيروا على بركة الله وعونه واقصدوا كفر توتا.
فإذا جئتم إليها ليلًا فقولوا لأهلها: نحن قد وتجهنا الملك إليكم لحفظ المدينة.
فإذا صرتم داخلها فثوروا على اسم الله وبركة نبيه.
قال ففعل ذلك يرغون وجلس إلى أن جن الليل وارتحل بجيشه وثقله وودعوا الصحابة وساروا بالميرة وسار يرغون إلى أن وصل إلى كفر توتا وكان آخر الليل والفجر بدر فلما وصل إليها أمر أصحابه أن يرفعوا أصواتهم بذكر شعارهم حتى لا ينكر عليهم القوم وجاءت الأثقال والبغال وسمع أهل كفر توتا ضجة العسكر فأشرفوا عليهم من أعلى السور وسألوهم من أنتم.
قالوا: نحن من عسكر الملك شهرياض وقد بعثنا لنكون عونًا لكم.
قال الواقدي: وأعجب ما في هذه القصة أن الملك شهرياض قد بعث إليهم يعرفهم أني مرسل إليكم جيشًا مع الحاجب فإذا وصلوا إليكم فافتحوا لهم الباب فإن العرب في آثارهم.
قال فلما وصل إليهم يرغون ومن معه وقالوا لهم نحن من عسكر الملك فتحوا لهم ودخلوا ولم يتكلم حتى أنه نزل في دار الإمارة فلما استقر به الجلوس وثق من الأبواب وصعد إلى السور وقال لأهل البلد: استريحوا لأن الملك قد وصاني بالحرس على البلد فقالوا: أيها السيد إن كتاب الملك قد جاءنا بغير ما قلته بأن لا يتولى حفظ البلد إلا الحاجب.
قال فلما سمع يرغون قولهم علم أن الملك يريد أن يرسل لهم جيشًا فقال لهم: انصرفوا إلى منازلكم وإياكم أن يظهر منكم أحد في الليل فإني إن وقعت بأحد منكم قتلته قال فانصرفوا ولم يبق عنده سوى الوالي الذي كان من قبل توتا هو وغلمانه فقبض عليهم يرغون وضرب رقابهم وتركهم في بعض الأبراج المهجورة وقال لأصحابه: كونوا على حذر فإن شهرياض يريد أن يرسل جيشًا إلى هذه المدينة فإذا رأيتموهم قد وصلوا فانزلوا وافتحوا لهم درقة الباب الواحدة وكلما دخل فارس فأبعدوا به عن الباب وأنزلوه عن فرسه وخذوا عدته وكتفوه وألقوه في البرج.
قال فبينما هو يوصيهم إذ وصل الجيش وهم ألف فارس والمقدم عليهم صاحب الملك الكبير فصاحوا عليهم: افتحوا لجيش الملك فتبادرت أصحاب يرغون ففتحوا درقة الباب الواحدة وقالوا: لا نمكن أحد يدخل إلا واحدًا واحدا مخافة من يوقنا وأصحابه فإنا نخاف أن يدخلوا في جملتكم فبقي كلما دخل فارس رجلوه بعد أن يبعدوا به عن الباب ويأخذوا سلاحه وجواده ويكتفوه إلى أن أدخلوا الألف والحاجب بعدهم فلما اجتمعوا نادوا بأعلى أصواتهم الله أكبر الله أكبر فتح الله ونصر وجاءنا بالظفر.
قال فارتج كفر توتا ووقع الرعب في قلوب أهلها وعلموا أنهم ملكوا بلدهم فلم يجسر أحد منهم أن يظهر في المدينة ومن ظهر قتل فلما أصبح طلب يرغون أكابر البلد ومشايخها وبطارقتها فلما حصروا قبض عليهم وأنفذ إلى عياض بن غنم يعلمه بما صنع فلما وصلت إليه الرسالة سجد لله شكرًا وكان عبد الرحمن بن أبي بكر وأصحابه لما وصلوا بالميرة أخبروا المسلمين والأمير بما وقع وأن يرغون مضى إلى كفر توتا فكان منتظرًا لما يأتي إليه من خبره فلما جاء الخبر بالفتح حمد الله تعالى وتفاءل بالنصر.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق