130
مقدمة
فتوح الشام
أبو عبدالله بن عمر الواقدي (الواقدي )
ذكر فتوح البهنسا ونزول الصحابة
قتل البطريق قال الراوي: ولما أصبح المسلمون صلوا صلاة الصبح ثم تبادروا إلى خيولهم فركبوها فلم يجدوا لأعداء الله خبرًا ولا أثرًا وتيقنوا أنهم انهزموا ومضوا إلى مدينتهم فسارت المسلمون إلى أن قربوا من البهنسا فلاحت لهم المضارب والخيام والسرادقات والأعلام.
قال الراوي: حدثنا قيس بن منهال عن عامر بن هلال عن ابن زيد الخيل.
قال: لما أشرفنا على مدينة البهنسا ورأينا تلك المضارب.
قال عياض رضي الله عنه: اللهم اخذلهم وانصرنا عليهم.
اللهم احصهم عددًا واقتلهم بددًا ولا تبق منهم أحدًا واخزهم {إنك على كل شيء قدير} [آل عمران: 26]. وأمن المسلمون على دعائه.
قال: فلما أقبلنا على مدينة البهنسا كبرنا وهللنا فخرجوا إلى ظاهر الخيام وبأيديهم السيوف والدرق والقسي والنبال ورأينا خلقًا كثيرة على الأبراج وأراد جماعة من العرب الحملة عليهم فمنعهم الأمير وبقية الأمراء من ذلك وقالوا: لا حملة إلا بعد إنذار ثم إنهم لم يأتوا إلينا ولا ناوشونا بقتال واستقلونا في أعينهم.
قال الواقدي: ونزل المسلمون بجانب الجبل عند الكثيب الأصفر قريبًا من البياض الذي على المغارة نحو المدينة هنا ما جرى لهؤلاء وأما أبو ذر الغفاري وأبو هريرة الدوسي ومعاذ بن جبل ومسلمة بن هاشم ومالك الأشتر وذو الكلاع الحميري فإنهم ساروا حتى نزلوا قريبًا من القوم وباتوا تلك الليلة فلما أصبحوا خرج أعداء الله للقائهم.
فقال مالك الأشتر: يا قوم إن أعداء الله خرجوا للقائكم فأشغلوهم بالقتال وأرسلوا جماعة منكم يملكون الجسر واستعينوا بالله فعندها خرج المرزبان ومعه ثلثمائة فارس حتى وصلوا إلى الجسر والحجارة تتساقط عليهم من أعلى السور حتى ملكوا الجسر وجعلوا في أماكن المخاضات حراسًا بسيوف محدودة واقتتل المسلمون وأعداء الله قتالًا شديدًا وثبتوا في القتال سبعة أيام وكلما أتوا إلى مكان المخاضة وجدوه مربوطًا بالرجال وصار كل ليلة تهرب منهم جماعة من الروم ويهيمون على وجوههم يريدون الصعيد فتلقاهم رافع بن عميرة الطائي ومعه سرية من أصحاب قيس بن الحرث عند البلد المعروف بادقار وكانوا حوالي البحر اليوسفي يشنون الغارات على تلك السواحل فبينما هم كذلك يسيرون إذ سمعوا دوي حوافر الخيل فظنوا أنهم مسلمون فكلموهم فلم يرد عليهم أحد فلحقوهم وحملوا عليهم وكانوا ستمائة فارس ففروا من بين أيديهم فقتلوا منهم نحو مائتين وهرب الباقون وقتل من المسلمين ثلاثة وهرب الروم نحو المخاضة فغرق منهم مائة وأسروا منهم مائتين وهرب الباقون وسألوهم عن سبب خروجهم فأخبروهم أنهم يرودون فعند ذلك أوثقوهم كتافًا وأتوا بهم مكتفين مع نفر من المسلمين إلى أن أوصلوهم إلى عياض بن غانم الأشعري فأعلنوا بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير وأقبلوا نحوهم ففرحوا بالأسارى ثم عرضوهم على الأمراء المتقدم ذكرهم فعرضوا عليهم الإسلام فأبوا فضربت أعناقهم والروم ينظرون إلى ذلك ثم زحفت عليهم الصلبان واقتتلوا قتالًا شديدًا وحمي الحرب وكثر الطعن والضرب من ارتفاع الشمس إلى وقت العصر وفشا القتل في الروم فلما رأوا ذلك ولوا الأدبار وركنوا إلى الفرار وصعدوا على القلعة وغلقوا الأبواب واستعدوا للحصار ونصبوا آلات القتال.
نقص صفحة 256 قال الواقدي: فعندها ترجل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خيولهم وأمسكوها لعبيدهم وأقبلوا يتبخترون في مشيهم ويجرون حمائل سيوفهم ويخترقون صفوف الكفار وهم لا يهابونهم إلى أن وصلوا إلى سرير الملك فدخلوا إلى أن وصلوا إلى النمارق والفرش والديباج والملك جالس على سريره ولما نظر المسلمون إلى ذلك عظموا الله تعالى وكبروه فارتج السرادق وتغيرت ألوان القوم وصاح بهم الحجاب: قبلوا الأرض للملك فلم يلتفتوا إليهم.
قال المغيرة: لا ينبغي السجود إلا للملك المعبود ولعمري كانت هذه تحيتنا قبل فلما بعث الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم نهانا عن ذلك فلا يسجد بعضنا لبعض.
قال: فسكتوا.
قال: فأمر الملك بكراسي من ذهب وفضة فنصبت لهم فلم يجلسوا عليها وكانوا من حين دخلوا أمروا بعض عبيدهم أن يطووا البسط من تحت أرجلهم إلى أن وصلوا إلى فرش الديباج فشالوها على جنب فقالت لهم البطارقة: قد أسأتم الأدب معنا إذ لم تسجدوا للملك ولم تمشوا على فرشنا فقال المغيرة: إن الأدب مع الله تعالى أفضل من الأدب معكم والأرض أطهر من فرشكم لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا) وقال الله تعالى: {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} [طه: 55].
قال الواقدي: لم يكن بين البطليوس والصحابة ترجمان لأنه كان أعرف أهل زمانه بلسان العربية فعند ذلك أمرهم بالجلوس فقال المغيرة: إما أن تنزل عن سريرك وتكون معنا على الأرض أو تأذن لنا بالجلوس معك على السرير لأن الله تعالى شرفنا بالإسلام.
قال فأشار لهم بالجلوس معه على السرير بعد أن أزالوا تلك الفرش وجلس المغيرة إلى جانبه فالتفت البطليوس لعنه الله إليهم وقال لهم: أيكم المتكلم عن أصحابه.
فأشاروا إلى المغيرة رضي الله عنه والصحابة جلوس وأيديهم على مقابض سيوفهم فالتفت البطليوس إلى المغيرة وقال له: ما اسمك.
فقال: عبد الله المغيرة فقال: يا مغيرة إني أكره أن أبدأك بالكلام فقال المغيرة: تكلم بما شئت فإن عندي لكل كلام جوابًا.
ثم إن البطليوس أفصح في كلامه وقال: الحمد لله الذي جعل سيدنا المسيح أفضل الأنبياء وملكنا أفضل الملوك ونحن خير سادة فقطع عليه المغيرة فقالت الحجاب والنواب: لقد أسأت الأدب مع الملك يا أخا العرب فأبى المغيرة أن يسكت وقال: الحمد لله الذي هدانا للإسلام وخصنا من بين الأمم بمبعث محمد عليه أفضل الصلاة والسلام فهدانا به من الضلالة وأنقذنا به من الجهالة وهدانا إلى الصراط المستقيم فنحن خير أمة أخرجت للناس نؤمن بنبينا ونبيكم وبجميع الأنبياء وجعل أميرنا الذي هو متولي علينا كأحدنا لو زعم أن ملك وجار عزلناه عنا فلسنا نرى له فضلًا علينا إلا بالتقوى وقد جعلنا الله نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونقر بالذنب ونستغفر منه ونعبد الله وحده لا شريك له ولو أذنب الرجل منا ذنوبًا تبلع مثل الجبال فتاب قبلت توبته وإن مات مسلمًا فله الجنة قال: فتغير لون البطليس.
ثم سكت قليلًا وقال: الحمد لله الذي ابتلانا بأحسن البلاء وأغنانا من الفقر ونصرنا على الأمم الماضية ولقد كانت جماعة منكم قبل اليوم يأتون إلى بلادنا فيمتارون البر والشعير وغيره ونحسن إليهم وكانوا يشكرونا على ذلك وأنتم جئتمونا بخلاف ذلك تقتلون الرجال وتسبون النساء وتغنمون المال وتنهبون المدائن والحصون والقلاع وتريدون أن تخرجونا من بلادنا وديارنا وأنتم لم تكن أمة من الأمم أضعف حالًا منكم لأنكم أهل الشعير والدخن وجئتم بعد ذلك تطمعون في بلادنا وأموالنا وحولنا جنود كثيرة وشوكتنا شديدة وعصابتنا عظيمة ومدينتنا حصينة والذي جرأكم علينا أنكم ملكتم الشام والعراق واليمن والحجاز وارتحلتم إلى بلادنا وأفسدتم كل الفساد وخربتم المدائن والقلاع ولبستم ثيابًا فاخرة وتعرضتم لبنات الملوك والبطارقة وجعلتموهن خدمًا لكم وأكلتم طعامًا طيبًا ما كنتم تعرفونه وملأتم أيديكم بالذهب والفضة والمتاع الفاخر واللآلئ والجواهر ومعكم متاعنا وأموالنا التي من قومنا وأهل ديننا ونحن نترك لكم ذلك جميعه ولا ننازعكم عليه ولا نؤاخذكم بما تقدم من فعلكم من قتل رجالنا ونهب أموالنا والآن فارحلوا عنا واخرجوا من بلادنا.
فإن فعلتم فتحنا خزائن الأموال وأمرنا لكل رجل منكم بمائة دينار وثوب حرير وعمامة مطرزة بالذهب ولأميركم هذا ألف دينار وعشرة عمائم وعشرة ثياب ولكل أمير منكم كذلك وللخليفة عليكم عشرة آلاف دينار ومائة ثوب حرير ومائة عمامة بعد أن نستوثق منكم بالأيمان أنكم لا تعودون إلى الإغارة على بلادنا هذا كله والمغيرة ساكت فلما فرغ البطليوس من كلامه قال له المغيرة: قد سمعنا كلامك فاسمع كلامنا.
ثم قال: الحمد لله الواحد القهار الفرد {الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد} [الإخلاص: 2 - 4]. فقال له البطليوس: نعم ما قلت يا بدوي فقال المغيرة: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المرتضى ونبيه المجتبى فقال له البطليوس لعنه الله: لا أدري أن محمدًا رسول الله ولعله كما يقال حبيب الرجل دينه ثم التفت إلى المغيرة وقال: يا عربي ما أفضل الساعات.
فقال: ساعة لا يعصى الله فيها قال: صدقت يا أخا العرب لقد بان لي رجحان عقلك فهل في قومك من له رأي مثل رأيك وحزم مثل حزمك.
قال: نعم في قومنا وعسكرنا أكثر من ألف رجل لا يستغنى عن رأيهم ومشورتهم وخلفنا أمثال ذلك وهم قادمون إلينا عن قريب.
فقال البطليوس: ما كنا نظن ذلك منكم وإنما بلغنا عنكم أنكم جماعة جهال لا عقول لكم فقال المغيرة: كنا كذلك حتى بعث الله فينا محمدًا صلى الله عليه وسلم فهدانا وأرشدنا.
فقال البطليوس: لقد أعجبني كلامك فهل لك في صحبتي.
فقال المغيرة: يسرني ذلك إذا فعلت ما أقول لك.
قال: ما هو قال: تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله.
قال البطليوس: لا سبيل إلى ذلك ولكن أردت أن أصلح الأمر بيني وبينكم.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق