110
مقدمة
فتوح الشام
أبو عبدالله بن عمر الواقدي (الواقدي )
فتوح الإيوان ودخول المسلمين في الدجلة وفتوح إسبانير
وهي المدينة القصوى فلما دلوه على المخاضة أبى وقال: بحر عميق وما كنت أغرر بالمسلمين والله يصنع بهم ما يشاء فبينما هو كذلك إذ أتوه بعلج وأثوابه تقطر بالماء فسأله سعد عن حاله فقال: كيف حالي والملك قد رأى في منامه أن المسلمين قد عبرت إليه وقد استشعر بزوال ملكه وهو معول على الهرب وأن يأخذ أمواله ويمضي إلى خراسان.
قال فلما سمع سعد ذلك جمع المسلمين وحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس عدوكم قد استعصم منكم بهذه السفن وكسرى قد عول على الهرب بأمواله ورجاله وإني قد عوالت على العبور إن شاء الله تعالى واعلموا أنه ليس وراءكم من تخافونه لأن الله قد ملككم معاقلهم وبلادهم وقد رأيت من الرأي أن نقطع هذا البحر إليهم ونقدم عليهم فما أنتم قائلون.
فقالوا جميعًا: قوى الله عزمك على الرشد فافعل ما أراد الله به فعندها قال سعد: رحمكم الله ونصركم أيكم يبتدئ أو يتقدم ويجس لنا المخاضة وبنبش عليها من على الشط حتى تتلاحق به الناس فابتدر لها عاصم بن عمر وانتدب معه ستمائة من أهل النخوة ممن شاع ذكرهم ونما فخرهم وعلمت شدتهم وسار عاصم أمامهم حتى قال الواقدي: حدثنا يونس بن عبد الأعلى عن يوسف بن عمرو.
قال: ابتدر عاصم وشرحبيل وأبو مقرن ومالك بن كعب الهمداني ومثل هؤلاء السادات وركبوا خيولهم واقتحموا الدجلة واقتحم بعدهم الستون والستمائة في أثرهم وأول من نزل في الماء عاصم بن ولاد وأبو مقرن وشرحبيل ومالك بن كعب وغلام من بني الحرث فلما رأتهم الأعاجم قد قربوا منهم وأعدوا للخيل التي تقدمت خيلًا منهم اقتحموا الماء فأول من لقيهم من جيش سعد عاصم بن عمرو فلما لقي خيل فارس في الماء صاح بأصحابه وقال: شرعوا رماحكم إلى الأعلاج واقصدوا أعينهم فلما سمعوا كلام عاصم قصدوا عيون العدا وسقوهم كأس الردى فلما رأت الفرس ثبات العرب في الماء كثباتهم في الأرض للطعن والضرب ولوا الأدبار والمسلمون في أثرهم فقتلوا مخالبهم وما نجا إلى الشط إلا القليل وملك المسلمين جانب الشط من جهة الفرس وتلاحق السلمون فلما علم سعد ذلك أذن للمسلمين بالاقتحام وقال لهم: استعينوا بالله وتلاحق الجند ونزلوا الدجلة وهي ترمي بالموج والناس يجهدون في عومهم وهم لا يكترثون بالموج ولا بتلاطمه وكأنهم على وجه الأرض ونزل بأهل فارس ما لم يكن في حسبهم وقاتلوا قتالًا شديدًا.
قال الواقدي: حدثني من أثق به: إن أول من عبر من الجيش ستون فارسًا خرجوا زمرًا فأولى زمرة تسعة أولهم عاصم والزمرة الثانية ثلاث وثلاثون.
قال عاصم بن عمرو: وقد اقتحمنا الدجلة خيلًا ورجالًا ودواب حتى نزلنا ولا نرى الماء من كثرة الناس وخرجت خيلنا وهي تنفض معارفها وتصهل على الشط إلهامًا من الله.
قال ولما رأى الملك كسرى أن المسلمين قد عدلوا إلى الجانب الثاني أمر شهريار بن ساور أن يبرز للمسلمين ويقف على مقابلتهم ففعل وأخذ كسرى ما قدر على حمله من أمواله من الدر والجواهر واليواقيت وما أشبه ذلك.
قال: وإن سعدًا ليخوض الماء خوضًا وهو يقول: {ذلك تقدير العزيز العليم} [الأنعام: 96].
قال: ولم يغرق من الناس أحد.
قال الواقدي: حدثني النعمان بن عاملة الضبي عن أبيه عثمان أنهم سلموا عن آخرهم وأن رجلا من بارق ويقال له عرقدة زال عن فرسه وكانت شقراء وكأني أنظر إليها وصاحبها غريق فمضى إليه القعقاع بفرسه وأخذ بيده وجره حتى عبر به.
فقالت الناس: عجزت النساء أن تلد مثلك يا قعقاع ولم يذهب للناس في الماء شيء إلا قدحًا كانت علاقته رثة فانقطعت فذهب الماء بالقدح.
فقال صاحبه: والله لأجهدن عليه وما كان الله ليسلبني قدحي من بين العسكر فلما عبروا أتى رجل من الناس ليغتسل وإذا بالأمواج قد رفعت القدح إليه فتناوله وأتى به إلى العسكر فعرفه صاحبه فأخذه.
قال الواقدي: حدثني عمرو بن تميم.
قال: بلغنا أنه لما عبرت المسلمون تحامت الفرس وقاتلت قتالًا شديدًا وحمت أنفسها وعولت على أن تقاتل إلى أن تموت وهم خواص الملك وأصحاب الإيوان والحصون والقلاع ومقدمهم شهريار بن ساور فطعنه خالد بن نمير في عينه ففقأها وانثنى عليه بضربة بالسيف فقتله وإذ فاجأتهم خيالة من نحو الإيوان وقالوا لهم: عمن تقاتلون فإن الملك هرب بأمواله وأهله وخدمه.
قال فلما سعوا ذلك ولوا الأدبار ولم يكن بالمدائن أعجب من عبور المسلمين إليها وسموا يوم عبورهم الدجلة يوم الجراثيم لأنه لم يكن أحد يعبر إلا ظهرت له جرثومة يسير معها وهي من القش المربوط حزمًا.
قال قيس بن أبي حازم: خضنا الدجلة وهي تطفح.
فلما توسطناها كان يصل الماء من الفرس للحزام.
فلما نظرت الفرس إلى ذلك والمسلمون يعبرون من غير مشقة جعلوا يقولون بالفارسية: ديمور يعني جاء الجن وقالوا: والله ما أنتم تقاتلون إنسًا إنما تقاتلون جنًا فانهزموا وأراد المسلمون الدخول إلى الإيوان فمنعهم سعد من ذلك.
وقال لهم: إياكم والعجلة في الأمور فإنها تورث الندامة وإني أخاف أنها من بعض مكايد العجم فلم يدخل إليه أحد.
قال وتقدم سلام المجازي إلى سعد وكان غلامًا.
وقال له: أيها الأمير والله لقد أرضيت اليوم الله ورسوله وقتلت المقدم عليهم.
ثم إنه استشهد بقية رفاقه الستين فلم يشهد له أحد منهم.
فقال للغلام المجازي: والله ما قتلته فنكس الغلام رأسه وأراد أن ينصرف وإذ قد وثب رجل من الصحابة اسمه هاشم بن عتبة.
وقال لسعد: أيها الأمير أنا رأيته وقد قتل مقدم الفرس فصدقه سعد وأعطى الغلام سلبه.
قال الواقدي: حدثنا عبد الله بن بشر.
قال: حدثنا سليمان بن عامر قال: أخبرنا عبد الله أن يزدجرد الملك لما كان بأعلى الإيوان يوم خاض المسلمون الدجلة ورأى عبورهم والخيل لا ترجع والعرب لا تجزع والصحابة يتحدثون وهم في الماء كأنهم على الأرض أيقن بزوال ملكه وذهاب عزه فنزل وهو يبكي وأخذ من بيوت المال والخزائن من الثياب والآنية شيئًا لا قيمة له ولا يعرف له ثمن وترك ما بقي عنده من عدة الحصار من الزاد والبقر والغنم ومن كل الأطعمة والأشربة وكان أول من دخل المدينة القصوى مسكن الملك وهي إسبانير يعقوب الهذلي ومعه الكتيبة الخرساء كتيبة القعقاع بن عمرو فدخلوا يخترقون المدينة ولا يلقون أحدًا.
قال فعزم سعد على الدخول في المدينة القصوى لما أمر زهرة بن الجويرية أن يذهب بعسكره ويتبع المنهزمين وسير كتيبة أخرى مع المرقال فلحق بحاجب بن حجاب بن كسرى فخاطبه بالفارسية.
فقال: إن العرب قد عبرت إلينا ولم يعرفه فطعنه المرقال فقتله وأخذ غلمانه أسرى وموجودهم وأتى به إلى سعد.
ويقال أحد مرازبة كسرى الكبار كان يوم دخول العرب المدينة داخلها وكان غير مكترث بهم فخرج إلى ظاهر داره ورجع يريد منزله وإذا بغلمانه وهم خارجون من الدار يهرعون وقد أخرجوا الأمتعة فقال: ما لكم.
قالوا: إن الزنابير قد غلبت على منازلنا فأخرجتنا قوة.
قال واشتد الصياح والبكاء والعويل من أهل المدينة وهم يلطمون على وجوههم.
فلما رأى المرزبان ذلك أخرج لامة حربه ولبسها وأتوه بجواده فشده وأسرجه فانقطع ثلاث مرات فمر به فارس من العرب فطعنه.
وقال: خذها وأنا ابن المخارق ومضى عنه ولم يلتفت إلى سلبه.
قال ودخل سعد يطلب الإيوان.
فلما دخل المدينةدخلها وهو يقرأ {وأورثناها قومًا آخرين} [الدخان: 128].
فلما دخل الإيوان ترتجل وصلى فيه صلاة الفتح ثمان ركعات لا يفصل بينهما واتخذه مسجدًا.
قال وكان في الإيوان تماثيل وصور فتركوها على حالها.
قال وأتمم سعد الصلوات من يوم دخل الإيوان.
فإنه أراد المقام بها وجمع وكانت أول جمعة صليت بالعراق وبالمدائن في شهر صفر.
ثم إن سعدًا تحول من الإيوان بعد ثلاثة أيام إلى القصر الأبيض وأقام سعد على قبض أموال الغنائم عمرو بن عمرو بن مقرن وأموه أن يجمع ما في القصور والإيوان والخزائن والدور والأسواق وأن يحصيها وكان أهل المدائن لما رأوا العرب في أرض واحدة خرجوا فرارًا وأخذوا معهم ما قدروا على حمله وما انفلت أحد منهم بشيء إلا وأخذه منهم المسلمون وأتوا به إلى سعد نتسلمه عمرو وصيرها في جملة ما جمعوه من الأموال وكان أول شيء جمعوه يومئذ بالقصر الأبيض ثم منازل كسرى وسائر دور المدائن.
قال جهد بن صبار: دخلنا المدائن فمرركا بأبيار عليها أغطية من رصاص فظننا أنها طعام ففتحناها.
فإذا هي أوان من ذهب وفضة ورأينا كافورًا كثيرًا فحسبناه ملحًا فما اعتبرناه وقال: وخرج زهرة في طلب المنهزمين فانتهى إلى جسر النهروان وإذا عليه كثير من الفرس بأعظم عدة وأحسن زينة وهم يزدحمون على الجسر.
قال ووقع بغل في الماء فتكاثروا عليه وصاح بعضهم على بعض.
قال ووقع منهم بغل آخر فصاروا في هرج ومرج.
فلما رآه المسلمون قال زهرة: إن لهذا البغل لشأنًا وما تكالب عليه القوم وصبروا مع ما في قلوبهم من الخوف إلا لأمر عظيم.
وقال: احملوا عليهم وابذلوا فيهم السيوف.
قال: فحملنا عليهم حملة صادقة فقتلنا منهم أناسًا كثيرة وولى الباقي منهزمين وأخذنا البغل وإذا عليه حلة كسرى وثيابه ودرعه ووشاحه التي كان فيها الجوهر وكان يجلس بها للمباهاة.
قال: فأتينا بها قال سهل بن سابق: لما أخذنا البغل وأتينا به لم ندر ما عليه وعن يعقوب عن جده.
قال كنت مع من خرج في طلب المنهزمين وإذ نحن ببغلين مع اثنين وهما يرميان كل من يقربهما بالنشاب ولم يجسر أحد أن يدنو منغمًا فقصدتهما وحملت عليهما وقتلتهما وأتيت بالبغلين إلى صاحب الأقباض وهو يكتب كل ما تأتي به العرب من سائر العراق.
فلما أتيته بالبغلين قال لي: على رسلك حتى ننظر ما معك.
فحطيت عنهما.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق