إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

السبت، 28 يونيو 2014

141 والاخيرة مقدمة فتوح الشام أبو عبدالله بن عمر الواقدي (الواقدي )


141 والاخيرة

مقدمة

فتوح الشام

أبو عبدالله بن عمر الواقدي (الواقدي )


  قال الراوي
‏:‏ وأقام المسلمون ثلاث سنين إلا أنهم يشنون الغارات على السواد والسواحل ومضى القعقاع بن عمرو وهاشم وأبو أيوب وعقبة بن نافع الفهري بألفي فارس وأغاروا على حد برقة ثم عادوا وهذا أحد الآراء في فتح المغرب‏.‏
قال الواقدي رضي الله عنه‏:‏ ولما طال الحصار والمكث على أهل البهنسا اجتمعت المسلمون عند خالد واستشاروه فيما يفعلونه وما يكون من الرأي فوثب عبد الرزاق الأنصاري وعبد الله بن مازن الداري وكعب بن نائل السلمي وأبو مسعود البدري وأبو سعيد البياضي وقالوا‏:‏ يا قوم قد وهبنا أنفسنا لله عز وجل ولعل أن يكون للإسلام فرج فاصنعوا منجنيقًا واملؤوا غرائر قطنا وقالوا يأخذ كل واحد منا سيفه وحجفته ويدخل في غرارة قطن فإذا كان الليل ونامت الحراس فألقونا على أعلى السور واحدًا بعد واحد والمعونة من الله في فتح الباب كما فتحتم قصر الشمع بمصر ودير النحاس وكما فعلتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فاستصوبوا رأيهم فلما أصبحوا قطعوا الأخشاب وصنعوا منجنيقًا وصنعوا له حبالًا وأحضروا غرائر وملؤوها قطنًا والرجال داخلها وصبروا إلى الليل ودخل هؤلاء السادات رضي الله عنهم بعد أن ضربوا بالمنجنيق حجرًا بعد حجر فسقط على أعلى السور والبرج فشرعوا في رميهم منهم أبو مسعود البدري وعبد الرزاق إلى أن رموهم جميعهم وصاروا فوق أعلى السور ورتب خالد أصحابه على الأبواب وأما عبد الرزاق وأصحابه فلما صاروا بأعلى الجدار نزلوا إلى البرج فإذا هو مغلق والحراس نيام فنزلوا إلى الدهليز بين البابين فوجدوهما مغلقين موثقين فذبحوا البوابين عن أخرهم ووجدوا المفاتيح تحت رأس كبيرهم في جانب سريره فأخذوها وفتحوا الأبواب وإذا بالباب الثاني الذي ينتهي إلى القصر مسدود بالحجارة فاحتالوا على قلع حجر بعد حجر فقلعوها ورموا الأحجار وفتحوا الأبواب وكل ذلك في أقل من ساعة بمعونة الله عز وجل وصعدوا إلى البرج فعالجوه وفتحوه وقتلوا جماعة واستيقظ جماعة وثاروا عليهم وخافوا على الباب أن يؤخذ منهم وأن يحال بينهم وبينه وهو باب السور الذي بظاهر المدينة ففتحوه فصاحت الروم واستيقظ البطليوس وركب جواده وكان على حذر وركب المسلمون ودخلوا الباب وخرجت البطارقة والبطليوس من قصره وزحفت الروم إلى الباب وكان أول من قتل في ذلك اليوم عبد الرزاق وعنان بن مازن وكعب بن نائل السلمي بداخل الباب‏.‏
قال‏:‏ حدثنا قيس بن مازن الحميري عن عبادة بن سالم السكاكي عن أبي مسعود البدري وكان أول من فتح الباب‏.‏
قال ليس هو على هذه الصفة وأخبرنا سالم بن حامد عن أبي عبد الله عن أبي محمد الأنصاري عن عبد الله البدري قال‏:‏ كان أبو محمد الحسني يقرأ هذه الفتوح بالجامع الغزي العمري على الشيخ أبي عبد الله حتى بلغ إلى هنا وذكر الفتوح وفتح الباب وأن الرجال وضعت في الغرائر‏.‏
قال‏:‏ يا بني ليس الأمر كذلك فقد روي عن أبي مسعود وهو الصحيح عن فتح الباب قال‏:‏ إنهم قطعوا أخشابًا ونصبوا سلمًا للتسلق عاليًا علو جدار المدينة وصبروا إلى الليل وأسندوه إلى الجدار وتسلق منهم أربعون رجلًا ومنهم السبعة المذكورون وفتحوا الباب كما ذكرنا واستيقظ الروم وخرجوا إليهم بعد فتح الباب فكان السابق إليهم عبد الرزاق رضي الله عنه فقتلوه وقتلوا معه من ذكرنا أولًا وتسابق المسلمون إلى الباب فكان أول من دخل ضرار بن الأزور وهو يزعق ويقول هذه الأبيات‏:‏ الجن تفزع يوم الحرب من فزعي إذا أتيت الهيجا بلا جزع يا ويل من صنع الأرصاد يخدعنا ونحن جرثومة الأمكار والخدع لأرضين إلهي في جهادهم وقتل أبطالهم بالسيف والدرع يا ويل كلب العدا البطلوس إن وقعت عيني عليه لأرديه إلى النزع عيب علي إذا ما ألتقيه هنا وأفلق الرأس منه مرتدع ثم دخل من بعده خالد وهو يقول‏:‏ يا ويل بطلوس كلب البهنساء إذا لاقيته بطليق الحد معتدل إن لم أذقه بكاسات المنون هنا فلا سلمت ولا بلغت من أملي قال‏:‏ ثم دخل من بعده ذو الكلاع الحميري وهو يقول‏:‏ إني لمن حمير العالمين في النسب أهل الثنا والوفا والجود والحسب أسد غضافرة سود جحاجحة نردى الكماة غدًا في الحرب بالقضب الحرب عادتنا والطعن همتنا وذو الكلاع أنا عال على الرتب تبت يد الروم ما يدرون أن لنا صوارمًا تترك الأعضاء كالقصب قال‏:‏ ثم دخل من بعده الزبير بن العوام وهو يقول‏:‏ أيا بطليوس يا كلبًا لعينًا ويا نسل الطغاة الأرذلينا أتتك حماة دين الله حقًا وأولاد الجياد الخيرينا خيار الناس نسل بني نزار كرامًا في الأعادي قاطعينا إذا احتبك العجاج بهم تراهم بحولك كالسباع الضاربينا ولا منهم جبان قط يهزم ولا نذل فتلقاه حزينا أتيينا البهنساء بكل قرم شديد العزم في يوم النزال وجيش فاق في الآفاق طرا على الأعداء بالسمو العوالي قال‏:‏ ثم دخل من بعده عبد الله بن جعفر وهو يقول‏:‏ اليوم طاب الطعن في اللئام والضرب في الأعناق بالحسام وانصر الإسلام باهتمام ولم أزل عن سادتي أحامي أنا الشجاع الفارس الهمام مردى الأعداء في الحمام قال‏:‏ ثم دخل بعده الفضل بن العباس وهو يقول‏:‏ ألا إننا السادات من آل هاشم ليوثًا ذوي بطش شديد العزائم لنا تشهد الأبطال في كل معرك وتذكر عنا أهل كل المواسم إذا اشتدت الأهوال واستبق القنا رأيت لنا في ذاك فعل الضراغم قال‏:‏ ثم دخل من بعده الفضل بن أبي لهب وهو يقول‏:‏ لنحوك يا بطلوس عزمي قد طلب بحد حسام كالشهاب إذا انتدب يطير شرار النار من لمعانه بكف شجاع الخيل ابن أبي لهب لا أنثني يوم الهيج عن العدا بمهندي الصمصام إلا إذا قطع فالويل للبطلوس من سطواتنا لأفرقن بحد سيفي ما جمع قال‏:‏ ثم دخل من بعده المقداد بن الأسود وهو يقول‏:‏ أنا الكندي كالليث الشجاع وإني في العدا قد طال باعي وتشهد لي الرجال بكل حرب وللهيجاء منقاد الطباع فواثارات عبد الله إني عليه ذاهل حيران ناعي قال‏:‏ ثم دخل من بعده أبان بن عثمان وهو يقول‏:‏ نحن الليوث ذوو المعروف والكرم وفي المعامع يوم الحرب والهمم مجندلون العدا في كل معترك وقاهرون لهم كل مصطدم لا يعجبنك يا بطلوس جيشك في هذا المقام فمعنا الكل كالرخم قال‏:‏ ثم دخل من بعده مسلم بن عقيل وهو يقول‏:‏ ضناني الحرب والسهر الطويل وأقلقني التسهد والعويل فواثارات جعفر مع علي وما أبدى جوابك يا عقيل قال‏:‏ ثم دخل من بعده شرحبيل بن حسنة ثم القعقاع بن عمرو التميمي ثم مالك الأشتر ثم عبادة بن الصامت ثم أبو ذر الغفاري ثم أبو هريرة الدوسي ثم ابنه عبد الرحمن ثم معاذ بن جبل ثم شداد بن أوس ثم قيس بن هبيرة ثم أبو دجانة الأنصاري ثم جابر بن عبد الله ثم البراء بن عازب ثم النعمان بن بشير ثم سحب بن زيد أحد العشرة الكرام رضي الله عنهم‏.‏
قال‏:‏ ثم الأنصار يتلو بعضهم بعضًا بهمم وعزائم‏.‏
قال‏:‏ ثم خرجت الروم وقاتلت قتالًا شديدًا وتواثبت جماعة من الأمراء مثل الزبير بن العوام وابنه عبد الله وعبد الرحمن بن أبي بكر إلى باب البحر واقتتلوا قتالًا شديدًا وتقدم عبد الرحمن والزبير إلى الباب والروم على أعلى السور ونزل عن جواده وصلى ركعتين والحجارة تتساقط عليه وهو لا ينزعج لذلك وتقدم هو والفضل وعبد الرحمن بن أبي بكر إلى الباب وجعلوا السلاسل من فوق وصعدوا إلى أعلى إلبرج وهدموا الشرافات ووضعوا السيف في الحراس وفتحوا الباب ووثب شرحبيل بن حسنة والفضل بن العباس وأبو ذر الغفاري وأبو أيوب الأنصاري إلى باب قندوس ووثب المسيب بن نجيبة الفزاري والقعقاع بن عمرو والأمير عياض بن غانم الأشعري إلى باب الجبل وفتحوا الأبواب واقتتلوا قتالًا شديدًا وقاتلت الروم قتال الموت إلى أن طلعت الشمس وارتفعت وقاتل عدو الله البطليوس قتالًا شديدًا وقتل رجالًا وجندل أبطالًا واقتتلوا في الأزقة والشوارع وبين الأبواب وتقدم خالد وهو يصيح‏:‏ واثارات سليمان وطعنه طعنة صادقة في صدره فأطلع السنان يلمع من ظهره فوقع يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار وبئس القرار فلما رأى الروم ذلك ولوا الأدبار وتبعهم المسلمون يقتلون وبأسرون وينهبون وقتل من الروم نحو ثلاثين ألفًا بوسط البلد وأسر منهم عشرون ألفًا وأنشد خالد يقول‏:‏ وبالبهنسا الغرا أبيدت جيوشنا ثلاث سنين بابها ليس يفتح ثماني آلاف عداد جيوشنا وكل همام عن ثمانين يرجح فما فتحت إلا وقد صار جيشنا ثلاثة آلاف عداد تسحسح ولم أر في أرض الصليب كمثلها ولا جيشها لما على السور يسرح ولا مر لي يوم كمثل حروبها لأن بها البطلوس ليث مبجح وكان له جيش وعدة جيشه ثمانون ألفًا بالحديد توشحوا وكف غلبناهم ثمانين مرة يخادعنا البطليوس عنهم فنصفح ثلاث مرار نحن نفتح بابها وترتد للكفر الذميم وتجنح وقد تعب الهندي يوم فتوحها وكلت أيادينا وفي الروم نذبح إلى أن ملأنا البر والبحر منهم وقد شبعت أسد الفلا وترنحوا وولت ثلاثون الألوف شواردًا وعشرون ألفًا منهم قد تجرحوا فمنهم قضى نحبًا ومنهم بها طغى ومنهم أناس في المقابر روحوا وبطلوسهم ذاك النهار قتلته وقد كان مقدام الجيوش مرجح فبادرته في الحال حتى تركته صريعًا عليه الغانيات تنوح وعاجلته في الرأس مني بضربة فأضحى بها شطرين ملقى ومطرح وعاد بسيف ابن الوليد مجندلًا تمر به كل الحوادث تفلح ولما فني بطلوسهم صار جمعهم كما شبه أغنام وغاب المسرح وقد كان في بحر الهياج مغلغلًا تولى سرايا قومنا منه مرح فلله ما أعداه قد كان فارسًا يفوق على جيش عظيم ويرجح وقد فرحت أكبادنا وترنمت لعمرك والأكباد بالنصر تفرح أقمنا بأرض البهنسا بعد فتحها ثلاثين يومًا للمساجد نصلح ورحنا فتحنا الهند والسند كله وأسيافنا في الغمد لله تسبح وفي كل أرض عسكر قد تركته يقسمون دين الحق والحق يوضح وهذا كلام ابن الوليد الذي جرى فكن سامعًا معنى الذي لك أشرح فما مثله في معمع الحرب سيد ولا مثله في جوهر النظم أفصح ومن بعد ذا صلوا على أشرف الورى نبي له كل البرية تجنح عليك سلام الله ما لاح بارق وما غرد القمري إذ الصبح يطفح وأصحابه والآل والعترة التي أقاموا لدين الله والشرك زحزحوا قال الراوي‏:‏ وصار المسلمون يصعدون إلى البيت ويأخذون الرجال من بين حريمهم من الروم ويقتلونهم حتى كلت سواعدهم من الذبح وجرى الدم في الأزقة وصارت القتلى في الشوارع والأسواق مطروحين وخرجت إليهم النصارى والقبط وهم يبكون ويقولون‏:‏ نحن أهل ذمتكم ونحن عوام وتجار وسوقة وكلنا مغلوبون على أمرنا وقتل خيارنا بأسيافكم وبقية الأمراء ويقولون هؤلاء قد صاروا رعيتنا وليس لهم بطش فتركوهم وقالوا بشرط أن تدلونا على من أخفى نفسه في المغاير والمخابي ومن فر من الباب الشرقي وغرق في الماء فدلوهم على الجميع ولم يزالوا يقتلون ذلك اليوم كله وفي اليوم الثاني استدعوا بنجارين يعملون عربات لحمل القتلى من المسلمين وأخذوا دواب أهل السواد من البقر تسحب العربات والفلاحون عملوا عليها وصاروا يضعون كل ثمانية وستة وعشرة في حفيرة ويردون عليهم الرمل حتى صاروا تلالًا وشهروا قبورهم ووضعوهم بدروعهم وثيابهم وعمائهم رضي الله عنهم وأخذوا ألواح رخام وكتبوا عليها أسماءهم وأنزلوها في مدافن قبورهم ورجعوا إلى قتلى أهل البلد فواراهم أهلهم في قبورهم وكان جملة من قتل من المسلمين في ذلك اليوم نحو أربعمائة وأزيد الأعيان منهم صاغر بن فرقد وعبد الله بن سعيد وعبد الله بن حرملة وعبد الله بن النعمان وعبد الرزاق الأنصاري وعبد الرحيم اللخمي وأبو حذيفة اليماني وأبو سلمة الثقفي وأبو زياد اليربوعي وأبو سليمان الداراني وابن أبي دجانة الأنصاري وأبو العلاء الحضرمي وأبو كلثوم الخزاعي وأبو مسعود الثقفي وهاشم بن نوفل القرشي وعمارة بن عبد الدار الزهري ومالك بن الحرث وأبو سراقة الجهني والبقية من أخلاط الناس وقتل عند سوق التمارين نحو عشرين ودفنوا هناك وعند سوق الصابون جماعة كثيرة وقريبًا من العطارين في جانب القبور نحو أربعين وقريبًا من البحر اليوسفي جماعة عند السور رضي الله عنهم‏.‏
قال الراوي‏:‏ ولما وارى المسلمون شهداءهم صعدوا إلى قصر البطليوس وإلى قصور البطارقة ودورهم ومقاصيرهم فوجدوا فيها من آنية الذهب والفضة ما لا يوصف ومن المتاع والحلي والحلل واللآلئ والنمارق والجواهر والبسط والوسائد والمساند واقتتلت الروم على بغلة محملة عند باب السر فغلبهم المسلمون عليها وأخذوها فإذا عليها صندوقان فيهما أحجار معادن فاشترى رجل من المسلمين من بيت المال حجرًا بستة آلاف دينار فباعه على غشوميته بمائة ألف دينار وأخذوا بساط البطليوس وكان مثل بساط كسرى سداه حرير وذهب مرضع بالمعادن فأرسلوه مع الخمس إلى المدينة فجعل لعلي بن أبي طالب فيما حصل له من البساط عشرون ألف دينار وغنمت المسلمون غنائم كثيرة من أواني الذهب والفضة وغير ذلك‏.‏
قال الراوي‏:‏ حدثنا عون بن عبيدة عن عبد الحميد بن أبي أمية‏.‏
قال‏:‏ هدم المسلمون القصر والكنيسة وتلك الدور وفتحوا خزائن البطليوس واستخرجوا جميع ما فيها من الذهب والفضة وغير ذلك ولم يتركوا فيها شيئًا أبدًا وقسم خالد الغنيمة بين المسلمين فكان للفارس عشرة آلاف مثقال من الذهب وألف أوقية من فضة ومن الثياب والملبوس وغير ذلك ما لا يوصف ولما دخلوا الكنيسة ورأوا تصاويرها وقناديلها الذهب والفضة والستور والحرير المنقوشة والأعمدة وغير ذلك تعجبوا وقرأ خالد ‏{‏ما اتخذ الله من ولد‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 116‏]‏‏.‏ الآية وقال‏:‏ لا إله إلا الله محمد رسول الله فصاح المسلمون بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير وقرأ عياض الأشعري ‏{‏كم تركوا من جنات وعيون‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 25‏]‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وأورثناها قومًا آخرين‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 28‏]‏‏.‏ وأخربوا تلك البيعة وجعلوا بجانبها مسجدًا على أعمدة من الرخام مسقوف عليها بتلك الأخشاب وهو الجامع الأول قبل بناء حسن بن صالح هذا الجامع الآن وبقية الأخشاب والحجارة جعلوا منها مساجد وربطًا‏.‏
قال الواقدي‏:‏ حدثنا عبد الحميد عن قيس بن مهران عن أبي جعدة‏.‏
قال‏:‏ بمدينة البهنسا أربعون رباطًا ومن المساجد ما لا يعد وأخربت الصحابة تلك المعالم وبنوا دورًا لأنفسهم واختطوا بها أماكن وشوارع وأقام خالد ومن معه بمدينة البهنسا يصلحون المساجد والربط ويخرجون المعالم شهرًا كاملًا ثم أخرج الخمس وأرسله لعمرو بن العاص ومن معه من المسلمين وهو نازل بمصر على قدر سهامهم وقال له‏:‏ أرسل الخمس مع أبي نعيم الأنصاري والفضل بن فضالة وأبي دجانة إلى عمر بن الخطاب وهو بالمدينة فلما ورد الكتاب إلى عمرو بن العاص فرح بذلك فرحًا شديدًا ثم كتب عمرو لعمر كتابًا مع أبي نعيم صحبة كتاب خالد وسير معه ثلاثين صحابيًا حتى دخل المدينة ودخل على عمر بن الخطاب فوجد عنده جماعة وقد أخرج لهم قصعًا ومناسف من ثريد فلما رآنا عانقنا وتهلل وجهه فرحًا وجلسنا كلنا نأكل وهو قائم على رؤوسنا متكئ على عصا رسول الله فلما فرغنا من الأكل ناولته الكتابين فقرأهما وفرح فرحًا شديدًا ونادى في الناس الصلاة جامعة فخطب وحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏
وقرأ عليهم الكتابين واستدعى بالصحابة وقسم عليهم الغنيمة ولم يترك لأهله درهمًا ولا دينارًا ولا ثوبًا رضي الله عنه وأخذني ومضى إلى بيته بيت أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأدخلني إليه فإذا فيه فراش من أدم حشوه ليف ووسائد من صوف وقطيفة واحدة فجلست‏.‏
فقال لأم كلثوم‏:‏ هل عندك شيء من التمر‏.‏
قالت‏:‏ لا إلا اللبن الحامض‏.‏
قال‏:‏ ذلك لي وإن عندنا ضيفًا فحضرت بعكة من سمن وقليل من عسل وفطير مع جارية فأكلت قليلًا من المذكور وأخرجت الباقي لأصحابي وشرعت أحدثه عن البطليوس وهو تارة يبكي وتارة يضحك من فعله ويبكي على من قتل من المسلمين والأمراء وخرجنا إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك وجاءت الناس يهرعون ويسألون عن أهاليهم منا فأخبرنا عمن مات ومن قتل فضج الناس وأهل المدينة بالبكاء وعلت الأصوات على من قتل وجاء الناس لعلي ولعقيل ولبني هاشم يعزونهم فيمن قتل وأقمنا بالمدينة سبعة أيام ورجعنا إلى مصر بكتاب عمر إلى خالد فأمره بالمسير إلى الصعيد‏.‏
قال الراوي‏:‏ هذا ما جرى لهؤلاء‏.‏
وأما خالد رضي الله عنه فإنه بعد شهر ترك أناسًا من الصحابة بأرض البهنسا من جميع القبائل وخرج بألفي فارس إلى أرض ألصعيد وكانت القبائل من بني هاشم وبني المطلب وبني مخزوم وبني زهرة وبني نزار وبني جهينة وبني مزينة وبني غفار والأوس والخزرج ومذحج وفهر وطيء وخزاعة وكان الأمير عليهم مسلم بن عقيل وأحاطوا بالمساكن وجعلوا بالمدينة أسواقًا وشوارع وسكن أكثر الصحابة في جانب البحر اليوسفي وخلوا من الآخر إلى الجانب الغربي شارعًا واحدًا لأجل أن تسبح دوابهم في البحر وأقام مسلم بن عقيل واليًا عليها إلى خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه فتولى محمد بن جعفر بن أبي طالب بعده ومضى مسلم وترك أولاده وإخوته بها ولم يزل في المدينة حتى قتل في خلافة الحسن في الكوفة رضي الله عنه وأقام محمد بن جعفر إلى خلافة علي رضي الله عنه وتولى عليها بعده علي بن عبد الله بن العباس رضي الله عنه إلى خلافة معاوية وكان عبد العزيز بن مروان الأموي واليًا وتولى بعده طاهر بن عبد الله وكانت قريش والأشراف بالجهة الغربية ويقال لها حارة الأشراف وكان لكل قبيلة حارة‏.‏
قال أبو المنهال‏:‏ لما فتحت مدينة البهنسا حانت آهلة بالجند فاجتمعت السوقة والمتسببون من أهل البلد وكانوا أربعين ألفًا‏.‏
قال الواقدي‏:‏ حدثنا حامد بن المزيد عن أبي صالح عن ابن نوفل المرادي‏.‏
قال‏:‏ كان بمدينة البهنسا أربعمائة بقال حين فتحها يبيعون البقل وغيره وكانت مدينة عظيمة فلما وقع بين بني أمية وبني هاشم ما وقع أخرجوا منها جماعة واختل أكثرها‏.‏
قال‏:‏ وتسلسل إليها جماعة من العربان حتى جاء الحسن وإخوته في خلافة بني العباس فعمر جامعًا وأكثر من الزوايا والربط وأقام بها حتى مات‏.‏
قال‏:‏ ورجعنا إلى سياق الحديث وخرج خالد بمن معه إلى الصعيد ولم يزل يفتح مدينة بعد مدينة إلى آخر الصعيد إلى عدن وسواكن وليس مقصدنا في هذا الكتاب إلا فتوح البهنسا خاصة التي عليها مدار فضائل السادة الشهداء لأن بتربتها خمسة آلاف صحابي وحضر فتح البهنسا نحو سبعين بدريًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي زيارتها تعظم الأجور وقد زارها جماعة من العراق مثل بشر الحافي وسري السقطي ومالك بن دينار وسحنون وزارها من أقصى المغرب أبو مدين وشعيب وأبو الحجاج وأبو عبد الله وزارها الفضيل بن عياض وروي أن إقليم البهنسا أكثر بركة من جميع الأرض كلها وكان عمرو بن العاص رضي الله عنه يقول‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ليس بعد مكة والمدينة والأرض المقدسة والطور أرض مباركة إلا أرض مصر والبركة هي في الجانب الغربي‏)‏‏.‏
قال‏:‏ ولعلها البهنسا وكان علي بن الحسن يقول‏:‏ إنه ليس بأرض مصر بالوجه القبلي أرض مباركة ولا أكثر بركة من أرض البهنسا وكان أبو علي النوري إذا أتى أرض البهنسا وأتى الجبانة ينزع ثيابه ويتمرغ في الرمل ويقول‏:‏ يا لك من بقعة طالما ثار غبارك في سبيل الله وكان أبو علي الدقاق إذا مر بجبانة البهنسا يقول‏:‏ يا لك من بقعة ضمت أعضاء رجال وأي رجال طالما عرقت وجوههم في سبيل الله وقتلوا في سبيل الله ومرضاته‏.‏
وقيل الحسن بن صالح‏:‏ لم اخترت هذه البلدة على غيرها‏.‏
قال‏:‏ كيف لا آوي إلى بلد أوى إليها روح الله وكلمته وينزل على جبانتها كل يوم ألف رحمة ولما ولى عبد الله بن طاهر مصر تجهز وأتى إلى البهنسا فلما قرب من الجبانة ترتجل عن جواده وترجل من معه وكان الوالي عليها عبد الله بن الحسن الجعفري فخرج ماشيًا وسلم عليه ولما وصل إلى الجبانة قال‏:‏ السلام عليكم يا أحياء الدارين وخير الفريقين ثم التفت إلى أصحابه وقال‏:‏ إن هذه الجبانة ينزل عليها كل يوم مائة رحمة لو أنها تزف
بأهلها إلى الجنة ومن زارها تتساقط عنه ذنوبه كما يتساقط الورق من على الشجر في يوم ريح عاصف فكان عبد الله بعد ذلك كل يوم يخرج حافيًا فيزورها حتى مات ودفن رحمه الله‏.‏
قال الراوي‏:‏ حدثني رجل من أرض البهنسا من أهل الخير والصلاح يسمى عبد الرحمن بن ظهير‏.‏ قال‏:‏ كان لي جار مسرف على نفسه ومات ودفن قريبًا من الشهداء الذين بالجانب الغربي فبينما أنا نائم تلك الليلة فرأيته وإذا عليه ثياب من السندس الأخضر وعليه تاج من الجواهر وهو في قبة من نور وحوله جماعة لم أر أحسن منهم وجهًا ولا ثوبًا متقلدين بسيوف وهو بينهم فسلمت عليهم وقلت له‏:‏ يا هذا لقد سرني ما رأيت من حالك‏.‏ فقال‏:‏ يا هذا لقد نزلت بجوار قوم يحمون النزيل في الدنيا من العار وكيف لا يحمونه في الآخرة من النار وقد استوهبوني من العزيز الغفار غافر الذنوب والأوزار وأسكنني جنات تجري من تحتها الأنهار‏.‏
قال ذو النون المصري رضي الله عنه‏:‏ كنت في كل سنة آتي إلى البهنسا وأزور الجبانة لما رأيت في ذلك من الأجر والثواب فحصل لي في سنة من السنين عارض منعني من زيارتها فبينما أنا نائم ليلة من الليالي إذ رأيت رجالًا لم أر أحسن منهم وجوها ولا أنقى ثيابًا على خيول شهب وبأيديهم رايات خضر ووجوههم تتلألأ أنوارًا فسلموا علي وقالوا‏:‏ قد أوحشتنا يا ذا النون في هذه السنة وإن لم تزرنا زرناك‏.‏ فقلت لهم‏:‏ من أنتم‏.‏ فقالوا‏:‏ نحن الشهداء الأخيار أصحاب محمد المختار بالبهنسا كنا بأرض الروم لنصرة المسلمين على أعداء الله الكافرين فمررنا بك لنسلم عليك وننظر ما سبب انقطاعك عنا‏.‏ قال‏:‏ في أي أرض أنتم‏.‏ قالوا‏:‏ نحن سكان جبانة البهنسا ولك علينا حقوق الزيارة لأنك من أهل الإشارة‏.‏ فقال لهم‏:‏ يا سادتي إني لا أعود وحبل الوصال بيننا ممدود وما كنت أعلم أنكم تعلمون من زار وما كنت أظن في نفسي أنني بهذا المقدار‏.‏ قالوا‏:‏ يا ذا النون أما تعلم ‏أن الشهداء {أحياء عند ربهم يرزقون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 69‏]‏‏.‏ وبهذا نطق الكتاب المكنون ثم تركوني ومضوا فاستيقظت وفي قلبي لهب النار فطوبى لمن قال المؤلف‏:‏ ولقد وضعت في هذا الكتاب كل نادرة عجيبة وحكاية غريبة وهو كتاب كامل المعاني والبيان عظيم القدر والشأن لا يفهمه إلا ذوو البصائر والألباب ولا يعقله إلا أهل الخطاب ولا يقرؤه إلا أهل الذوق والمعرفة فهو كالزهر في الرياض لمن اقتطفه نفع به مالكه وكاتبه وقارئه ومستمعه والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين‏.


أنتهى

يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق