118
مقدمة
فتوح الشام
أبو عبدالله بن عمر الواقدي (الواقدي )
فتح البهنسا وما فيه من الفضائل
وما وقع فيه للصحابة رضي الله عنهم قالت الرواة بأسانيد صحيحة عمن حضر الفتح من أصحاب السير والتواريخ مثل الواقدي وأبي جعفر الطبراني وابن خلكان في تاريخ البداية والنهاية ومحمد بن إسحق وابن هشام وكل منهم دخل حديثه الآخر لما في ذلك من اختلاف الرواة ممن حضر الفتوحات وشاهد الوقعات من الصحابة رضي الله عنهم.
قالوا: وحضر ذلك معظم الصحابة وكبراؤهم مثل عبد الله بن عمرو بن العاص أمير الجيوش على مصر وأخيه محمد وخالد بن الوليد وابنه سليمان وقيس بن هبيرة المرادي والمقداد بن الأسود الكندي وميسرة بن مسروق العبسي والزبير بن العوام الأسدي وابنه عبد الله وضرار بن الأزور ومن بني عم النبي صلى الله عليه وسلم مثل الفضل بن العباس وجعفر بن عقيل ومسلم بن عقيل وعبد الله بن جعفر ومن أبناء الخلفاء مثل عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عمر بن الخطاب وأبان بن عثمان رضي الله عنهم وقد اختصرنا في أسمائهم خوف الإطالة وكلهم حدثوا بما عاينوا من الفتوح وما شاهدوا من الوقعات وحدثوا بذلك أبناءهم رضي الله عنهم وقد أخذنا هذه الفتوح على قاعدة الصدق لإثبات فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم إذ لولاهم ما كانت البلاد للمسلمين ولا انتشر علم هذا الدين ولقد نفذت سراياهم في الأرض شرقًا وغربًا حتى ولت الأعداء منهم هربًا وسكبوا دماءهم في الأرض سكبًا واستباحوا أموال الكفار نهبًا وسلبًا والله قد جعل منهم في قلوب أعدائه خوفًا ورعبًا فهم نجوم الهداية وأهل الولاية قد شرعوا الشرائع ورتلوا القرآن ترتيلا.
قال الله في حقهم تعظيمًا وتبجيلًا: {فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا} [الأحزاب: 23].
قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن المحدث المصري غفر الله له: اطلعت على فتوحات كثيرة فوجدت فيها زيادة ونقصانًا وكذلك تواريخ منقولة وكنت قدمت المدينة - يعني البهنسا - لزيارة جبانتها لما رأيت في ذلك من الفضائل والفضل والأجر والخير والحبور.
فإن زيارتها تمحص الذنوب وتكشف الكروب وتحسن الأخلاق وتدر الأرزاق وتورث النصر على الأعداء وتكفي البأس والردى لما فيها من السادات الشهداء ممن باع نفسه لله وقتل في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله ممن قال في حقهم من له الفضل والمنة: {إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} [التوبة: 111] فهم {أحياء عند ربهم يرزقون} [آل عمران: 169] فزرنا الجبانة في ساعة الأسحار.
ورأينا ما فيها من الأنوار وبزيارة قبور السادة والأخيار نرجو من الله أن يحط عنا الذنوب والأوزار فلما قضينا الزيارة ولاحت لنا تلك الإشارة أخبرنا عن تلك السادة الأمجاد وما كان لهم من الصبر على الغزو والجهاد فسألني بعض الأصحاب عن سبب فتح مدينة البهنسا ليدفع البأس والردى فحرك لذلك خاطري حتى أسهرت لذلك ناظري وطالعت التواريخ والفتوحات وتجنبت المزاحات حتى انتخبت هذا الكتاب فهو كالدرة اليتيمة التي لا يعرف لها قيمة ترتاح عند سماعه النفوس ويزول لهم البؤس ويشجع على الجهاد ويعين على إقامة العدل في البلاد ابتغاء لوجه الله الكريم راغبًا في ثواب الله العميم وذلك بعد الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين ونحن نبتدئ.
بسم الله الرحمن الرحيم.
قال: حدثني من أثق به من الرواة ممن تقدم ذكرهم.
قال: لما فتح عمر بن الخطاب رضي الله عنه مصر والإسكندرية والبحيرة والوجه البحري كله جميعًا كان بالصعيد نوبة وبربر وديلم وصقالبة وروم وقبط وكانت الغلبة للروم كان أكثرهم روما.
ثم استشار عمرو بن العاص أصحابه أي جهة يقصد وهل يسير بالجيوش شرقًا أو غربًا وما يصنع فأشاروا عليه بمكاتبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنهم فكتب إليه يقول: بسم الله الرحمن الرحيم.
من عبد الله عمرو بن العاص عامل أمير المؤمنين على مصر ونواحيها إلى عبد الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه سلام عليك ورحمة الله وبركاته: أما بعد فإني أحمد الله وأثني عليه وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والسلام على من بالمدينة من المهاجرين والأنصار والحمد لله قد فتحت لنا مصر والوجه البحري والإسكندرية ودمياط ولم يبق في الوجه البحري مدينة ولا قرية إلا وقد فتحت وأذل الله المشركين وأعلى كلمة الدين وقد اجتمعت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من السادات والأمراء والأخيار المهاجرين والأنصار يطلبون الإذن من أمير المؤمنين هل يسيرون إلى الصعيد أو إلى الغرب والأمر أمرك يا أمير المؤمنين فإنهم على الجهاد قلقون وباعوا نفوسهم لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم وكتب هذه الأبيات: صوارمنا تشكو الظمأ في أكفنا وأرماحنا تشكو القطيعة كالهجر إليك افتقاد الحرب يا طيب الثنا ويا من أقام الدين بالعز والنصر فقد ولعت خير الكرام إلى العدا بنو شيبة الحمد السري وبنو فهر وصالت لؤي مع معد وعالب وسادات مخزوم الكرام عوى المفخر تروم مسيرًا للأعادي على شفا تمكن من أعلاهم البيض كالسمر بكل كميت صاعق الرعد صائل يرى درعه الزاهي تمكن بالصبر نرى الموت في وقع الوقائع مغنمًا ونكسب من قتل العدا غاية الأجر قال الواقدي: فلما فرغ عمرو بن العاص من الكتاب عرضه على أصحابه ثم طوى الكتاب وختمه واستدعى برجل يقال له سالم بن بجيعة الكندي وسلم إليه الكتاب ودفع له ناقة عشارية فاستوى على كورها وخرج يريد المدينة وهو يقول: أسير إلى المدينة في أمان وأرجو الفرز في غرف الجنان وأرجو أن يقرب لي اجتماعي وأعطي ما أريد من الأماني ألا يا ناقتي جدي وسيري إلى نحو النبي بلا امتهان وأقرئيه السلام وأنشديه كلامًا صادقًا حسن البيان ألا يا أشرف الثقلين يا من به شرف المدينة والمكان فكن لي في المعاد غدًا شفيعًا إذا ما قيل هذا العبد عاني قال الواقدي: ولم يزل سائرًا ليلًا ونهارًا حتى قدم المدينة الطيبة الأمينة بعد صلاة العصر فدخل وأناخ ناقته على باب المسجد وعقلها بفضل ذمامها ودخل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم على قبره الشريف وصلى ركعتين بين القبر والمنبر ثم تقدم فوجد عمر بن الخطاب فسلم عليه.
قال: فرد علي السلام وصافحني وكان لما رآني أقبلت وأنا فرحان قال: سالم جاء بكتاب من مصر مرحبًا به.
ثم التفت وعن يمينه علي بن أبي طالب وعن شماله عثمان بن عفان وحوله من السادات والمهاجرين والأنصار مثل العباس بن عبد المطلب وعبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد وطلحة بن عبد الله وبقية الصحابة رضي الله عنهم حوله ثم ناولته الكتاب.
فقال: ما وراءك يا سالم فأنت سالم في الدنيا والآخرة إن شاء الله تعالى.
فقلت: الخير والبشرى والأمن يا أمير المؤمنين فلما قرأ الكتاب فرح واستبشر وكانت تلك الغنائم قد وصلت إلى المدينة قبل ذلك بأيام وقسمت على الصحابة رضي الله عنهم ثم إنه استشار عمر رضي الله عنه علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن حضر فأشار عليه علي بن أبي طالب أن عمرو بن العاص لا يسير بنفسه ليكون أهيب له في قلوب أعدائه وأن يجهز جيشًا عشرة آلاف فارس ويؤمر عليهم خالد بن الوليد رضي الله عنه فإنه سيف الله.
فقال عمر: صدقت وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خالد سيف الله تعالى).
وفي رواية: (إن خالدًا سيف لا يغمد عن أعدائه).
ثم بات سالم تلك الليلة.
فلما أصبح صلى الصبح في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم أقبل على أمير المؤمنين عمر يسأله الجواب.
فعندها استدعى عمر رضي الله عنه بدواة وقرطاس ثم كتب كتابًا يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله بن عمر بن الخطاب إلى عامله على مصر ونواحيها عمرو بن العاص سلام عليك ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو وأصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والسلام عليك وعلى من معك من المهاجرين والأنصار ورحمة الله وبركاته وقد قرأت كتابك وفهمت خطابك فإذا قرأت كتابي هذا فاستعن بالله واربط الخيل وأرسل الأمراء لكل بلد أمير ليقيموا شرائع الدين ويعلموا الأحكام.
ثم انتدب عشرة آلاف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقر عليهم خالد بن الوليد وأرسل معه الزبير بن العوام والفضل بن العباس والمقداد بن الأسود وغانم بن عياض الأشعري ومالكًا الأشتر وجميع الأمراء وأصحاب الرايات ينزلون على المدائن ويدعون الناس إلى الإسلام فمن أجاب فله ما لنا وعليه ما علينا ومن أبى فليأمروه بأداء الجزية وإن عصى وامتنع فالحرب والقتال وأمرهم إذا حاصروا مدينة أن يشنوا الغارات على السواد وإن بمصر مدينتين كما بلغني إحداهما يقال لها أهناس قريبة من مصر والثانية يقال لها البهنسا أمنع وأحصن وبلغني أن بها بطريقًا طاغيًا سفاكًا للدماء يقال له البطليوص وهو أعظم بطارقة مصر كما بلغني وأنه ملك الواحات فلا تقربوا الصعيد حتى تفتحوا هاتين المدينتين وعليك بتقوى الله في السر والعلانية أنت ومن معك وأنصف المظلوم من الظالم وأمر بالمعروف وانه عن المنكر وخذ حق الضعيف من القوي ولا تأخذك في الله لومة لائم وأقم أنت بمصر وأرسل الأجناد وإن احتجت إلى مدد فأرسل وكاتبني وأنا أرسل لك المدد والمعونة من الله عز وجل وأسأل الله تعالى أن يكون لكم بالنصر والمعونة والفتح والحمد لله رب العالمين.
ثم طوى الكتاب وختمه بخاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفعه إلى سالم فأخذه وودع الصحابة وودع قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن توضأ وصلى ركعتين وسار ولم يزل سائرًا حتى قدم مصر فوجد عمرًا والصحابة نازلين بأرض الجيزة وكان زمن الربيع وهو جالس في خيمته وأصحابه عنده وهذه الخيمة كانت لملك القبط من الحرير الأزرق والأحمر والأصفر سعتها ثلاثون ذراعًا وقد فرش فيها فرشًا كان للقبط وهو جالس يتحدث مع المقداد وخالد والفضل وغانم والأمراء جميعهم رضي الله عنهم وهو كأحدهم.
قال سالم: فأنخت ناقتي فسمعت عمرًا يقول وأنا خلف الخيمة: قد أبطأ سالم.
فقال خالد: كأنك به وقد أقبل فهويت فأحس خالد بي من داخل الخيمة ولم يرني بعينه ولا غيره ولا علم بي فقال: سالم فقلت: لبيك يا أبا سليمان فقال: مرحبًا بك يا سالم وحياك الله.
ثم تقدمت وسلمت على عمرو وخالد وعلى بقية الأمراء.
ثم ناولته الكتاب فقرأه إلى آخره وفهم ما فيه.
فلما سمع الأمراء ما فيه فرحوا بذلك فرحًا شديدًا.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق