78
مقدمة
فتوح الشام
أبو عبدالله بن عمر الواقدي (الواقدي )
وكان بالقرب من قلعتها دير بسفح الجبل وفي الدير راهب قد انقطع فيه وكان من أجمل الناس وجهًا وكان اسمه فرما قال: فأتت إليه زائرة فلما رأته وقعت محبته في قلبها فلم تزل تتردد إليه وتتجاسر عليه إلى أن صارت بينهما صحبة فسلمت نفسها إليه فحملت منه فلما تكامل حملها ولدت في خفية ولدًا ذكرًا فسلمته إلى دايتها وقالت لها: انظري كيف تفعلين بهذا الغلام فإني أحبه ولا أريد قتله لأنه إن علم أبي بقصتي قتلني ثم أخرجت له ذخائر نفيسة وجعلتها في قماطه وخيطت عليها وقالت: من وقع به ينفقها على تربيته ثم إنها افتقدت بدنه وإذا على خذه الأيمن شامة سوداء بقدر الظفر ورأت أذنه اليمنى وفيها زيادة قال: فأخذته الداية ونزلت به ليلًا ومعها خادم وكان مطلعًا على أسرار الملكة فأتت به إلى أسفل القلعة في الطريق الأعظم وهناك عمود من رخام وغالبه غائص في الأرض وهو قائم على رأس ذلك العمود قاعدة من الرخام فوضعت ذلك المولود على القاعدة خوفًا عليه من الوحش أن يقربه فيأكله ثم رجعت هي والخادم إلى القلعة.
قال الراوي: وكان من قضاء الله وقدره: أن صاحب الموصل الملك الأنطاق قد بعث رسولًا لشهرياض ثم أرسوس بن جارس صاحب ماردين فجاز سحرًا في الطريق الذي فيه العمود فسمع بكاء الطفل فدنا منه وهو على جواده فنظر عصابة الذهب فأخذه وسلمه إلى جارية كانت معه في السفر وقال لها: احتفظي على هذا المولود فلا شك أن له شأنًا ثم أوصل الرسالة إلى صاحب ماردين وارتحل إلى رأس العين وأعاد الجواب على الملك شهرياض وأجرى الله على لسانه بأن حدث الملك شهرياض بقصة الطفل الذي وجد على العمود.
فقال: أعطني إياه فإنه ليس لي ولد يرثني ويخلفني في ملكي فدفعه إليه فأخذه الملك ودفعه إلى الحواضن والدايات فربوه إلى أن ركب الخيل ونشأ وترعرع فسماه الملك عمودا وسماه الناس ولد الملك وتربى في النعمة وتعلم طريقة الملوك من ركوب الخيل والرماية والقتال والمعالجة والصراع إلى أن سما ذكره وانتشر في الناس فخره وكان لا يأوي إلى عين ورعة بل أكثر زمانه في الصيد والقنص وبنى له قصرًا على رأس المغارة يأوي إليه وسمي القصر باسمه عمودا وليس عند أمه مارية خبر بما فعل الزمان به وانقضت الأيام واندرجت الأعوام حتى قدم عسكر المسلمين يريد فتح أرض الجزيرة فلما شاور الملك أرباب دولته في أمر العرب أشار عليه توتا أنا يزوج ولده عمودا من الملكة فإنها لا تصلح إلا له.
.
.
وهي بكر ولها من العمر ثلاثون سنة وقد خطبها الملوك وأبناؤهم فلم ترض بهم لأنها تراهم دونها وأنت إذا طلبتها لولدك لم يمتنع من ذلك أبوها ويفرح بمصاهرتك فأجابه إلى ذلك وبعث إلى أرسوس بن جارس هدية عظيمة وقال لتوتا: كن أنت الواسطة في ذلك فسار توتا إلى أرسوس وسلم عليه ودفع إلية الهدية فقبلها وتحدث معه فيما ذكرناه فأجابه إلى ذلك وطلب منه الصداق مائه ألف دينار والبارعية وجملين وعشرين أميرًا من العرب ليقتلهم قربانًا للمسيح ليلة زفافها فأجابه توتا إلى ذلك فركب أرسوس إلى قلعة ابنته ودخل عليها وأعلمها بالخبر فرضيت فخرج من عندها وجمع القسوس والشمامسة وزوج ابنته لعمودا وليس عندهم خبر من أحكام القدر.
قال الراوي: ورجع توتا إلى الملك شهرياض وأعلمه أن الأمر قد انبرم وأعلمه بما اشترط عليه أرسوس من القلعتين الباوعية وجملين ومائة ألف دينار وعشرين أميرًا من العرب ليقربهم ليلة زفافها ففرح بذلك وأنفذ الأموال وقال: إذا زفت إليه سلمت إلى أبيها القلعتين ثم إنه طلب عمودا وأخبره أنه قد زوجه ابنة أرسوس بن جارس وقال له: اعلم يا بني أن من جملة الصداق عشرين من فرسان العرب فتجهز وخذ العسكر واقصد العرب وأمر أن يخرج معه توتا الوزير ورودس صاحب حران وقال لهم: إن قدرتم أن تكبسوا العرب فافعلوا ومضوا في عشرين ألفًا.
قال الراوي: وأتت عياضا عيونه وأخبرته بما جرى وأنهم قد أقبلوا إليك وهم رودس صاحب حران وصاحب كفر توتا وعمودا ابن الملك في عشرين ألفًا وهم يريدون كبسكم في الليل فاستيقظوا لأنفسكم.
قال: فجمع عياض وجوه الصحابة واستشارهم.
فقال خالد بن الوليد: اكتب من وقتك إلى عبد الله بن غسان وسهل بن عدي أن يسيروا إلينا من وقتهم ويعلمهم بما قصد العدو فيكونون منهم على حذر.
فإذا قربوا منهم يكمنون لهم حتى يعبروهم ويصير أصحابنا من ورائهم ونكمن نحن عن يمينهم وشمالهم ثم نطبق عليهم.
فقالوا كلهم: هذا هو الرأي المصيب وخرج خالد في ألفين وكتب في الحال إلى عبد الله وسهل يأمرهما باللحوق بعسكر خالد ويوصيهما بما يفعلان وبعث الكتاب مع سراقة بن دارم فوصل إليهما في يومه على ناقة له فلما وصل وقرأ الكتاب ارتحلوا من ساعتهم وأطلع الصحابة على الخبر فركبوا وانفذ عبد الله عيونه يتجسسون له خبر العدو.
قال الراوي: وأما خالد فإنه انفصل من عياض في ألفين ولم يأخذ بهم على الجادة بل أرسل ألفًا عن يمين الطريق وأمر عليهم ابن سعدا وألفًا عن يسار الطريق مع خالد وأمر سعدًا أن لا يبعد قال الواقدي: إنه لما سار عمودا وتوتا ورودس في العشرين ألف فارس لم يزالوا سائرين إلى أن بقي بينهم وبين عسكر عياض بن غنم عشرة فراسخ.
.
فنزلوا في مكان يستريحون ويعلقون على خيلهم ويلبسون لامة الحرب.
قال الواقدي: وسار جيش عبد الله بن غسان من ورائهم وسار خالد بن الوليد عن يمينهم ونجيبة بن سعد عن يسارهم وليس عند الروم خبر من ذلك فلما علم خالد أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أحدقوا بالقوم أرسل يعلم المسلمين أن يتأهبوا إلى وقوع الصوت.
قال: فتأهبوا ثم إن خالدًا أخذ خمسمائة من أبطال المسلمين وترك خمسمائة مع عدي بن سالم الهلالي وقال له: إذا رأيت الحرب قد اشتعل نارها وتطاير شرارها فاخرج من كمينك ثم إن خالدا لما قصد جيش العدو بمن معه وتظاهر لهم رفعوا أصواتهم بالتهليل والتكبير قال: فسمعت الروم أصواتهم فلبسوا سلاحهم ولم يركب منهم سوى رودس وأصحابه وهم خمسة آلاف ولم يكن فيهم مستيقظ سواه وتوتا مشغول مع عمودا.
قال: وإن صاحب حران استقبل خالدًا واستصغر شأنه لما رآه في شرذمة قليلة طمع فيه واشتغلت الروم بالنظر إليهم وقالوا: رودس يكفينا أمرهم.
قال: فبينما هم ينظرون إذ صاح خالد بعدو الله رودس وانحط عليه انحطاط السحاب وهو يقول هذه الأبيات: سيوف دخرناها لقتل عدونا وإعزاز دين الله من كل خائب قتلنا بها كل البطارق عنوة جلاء لأهل الكفر من كل جانب إلى أن ملكنا الشام قهرًا وغلظة وصلنا على أعدائنا بالقواضب أنا خالد المقدام ليث عشيرتي إذا همهمت أسد الوغى في المغالب وفاجأ رودس بطعنة فألقاه على وجه الأرض فأوثقه غلامه همام وحمل في أصحابه هو ومن معه.
قال: فهم في ذلك إذ خرج عليهم نجيبة بن سعد وعدي بن سالم وأشرف من بعدهم عبد الله بن غسان فامتلأت الأرض بالزعقات وارتخت سائر الجهات وصدموهم على الخيل العربيات ونادوا باسم جبار الأرض والسموات وأطبقوا عليهم من كل جانب وكان التوفيق للصحابة مصاحبًا فما لحقت الروم أن تركب على خيلها إلا والسيف يعمل فيهم فطحطحوهم وفرقوا مواكبهم واستوثقوا منهم أسرى وأخذوا عمودا وتوتا فكانت الأسارى أربعة آلاف والقتلى ألفًا وسبعمائة وستة وستين وولى الباقي الأدبار فوصلوا إلى الملك شهرياض فأعلموه بما وقع فضاقت عليه الأرض بما رحبت وعلم أن دولته قد انقرضت وأن أيامه قد اضمحلت ومضت فأحضر من بقي من أرباب دولته فاستشارهم فيما يفعل.
فقالوا: أيها الملك إن مقامنا على رأس العين سفه فإن بينه وبين حران والرها وسروج بعيد يطمع العرب في بلادنا بل الرأي أن نرحل ونتوسط البلاد وتكون قلاعنا أقرب منا والميرة تصل إلينا من كل جانب فإن كانت لنا وانهزمت العرب أخذنا عليهم سائر الطرقات وإن كانت علينا انهزمنا إلى ماردين وقلعة مازن وكفر توتا وقصدنا جملين وتل توتا والبارعية وتل سماوي وتل القرع والصور ودجلة الجبل ونأمن على أنفسنا.
قال: فأجابهم إلى ذلك وارتحل من برج الطير وقصد رأس العين ورتب آلة الحصار وترك في المدينة عشرة آلاف فارس مع مرتودس وكان من الفرسان المشورة وهو متزوج بابنة الملك شهرياض فلما رتب أمره رحل إلى مرج رغبان.
حدثنا أبو يعلى عن طاهر المطوعي عن أبي طالب بن مليحة عن وهبان بن بثر بن هزارد.
قال: قرأت الفتوح من أوله إلى آخره بجامع الرصافة على أحمد بن عامر الحوفي وأحمد قرأ على سعدان بن صاحب وابن صاحب قرأ على يحيى بن سعيد المروزي ويحيى قرأ على أبي عبد الله بن محمد الواقدي وهو يومئذ قاضي الجانب الغربي.
قال: لما نزل الملك شهرياض على مرج رغبان بجيوشه ارتحل عياض في أثره بعدما كتب بخبر الوقعة وفتح زبا وزلوبيا والخابور إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسأله الدعاء وبعث الكتاب والخمس وما أخذه من القلاع وأرسله مع حبيب بن صهبان وضم إليه مائة فارس فسار إلى المدينة وأما عياض بن غنم ومن معه من عساكر المسلمين فإنهم تبعوا شهرياض إلى أن نزلوا مع العدو بمرج رغبان قال: فنزلوا في مقابلتهم قال واتصلت الأخبار بأرسوس بن جارس صاحب ماردين بأسر عمودا فأحضر ابنته إليه وقال لها: أي بنية اعلمي أن بعلك قد أسر وهو ابن الملك ونحن نخاف العار بأن يقال مارية بنت أرسوس ما كانت موافقة على ابن الملك وأنه لما تزوج بها أسر وقد حرت في أمري.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق