77
مقدمة
فتوح الشام
أبو عبدالله بن عمر الواقدي (الواقدي )
فقال له وزيره الأرمني: وإن كان العرب يبعثون إلينا صعاليكهم أو مواليهم فنقبض عليهم ونعدهم بالقتل فلا يلتفتون إلى ذلك ويقع الجد منهم في قتالنا ولا يرحلون عنا فكيف تصنع.
قال: فأراهم يوقنا أنه غضب وحول وجهه وقال: وحق المسيح لقد دخل رعب القوم في قلوبكم ولن تفلحوا بعدها أبدًا وحق ما أعتقده لقد قاتلتهم في قلعتي بحلب قتالًا سارت به الركبان إلى سائر البلدان مدة سنة كاملة ولولا أن عبدًا أسود من عبيدهم اسمه دامس أبو الهول وعشرين معه نصبوا حيلة علي ملكوا قلعتي لما قدروا عليها أبدًا وكانوا قد نزلوا علي بجميع عسكرهم وأبطالهم فكيف بكم وما نزل عليكم إلا شرذمة يسيرة وبلدكم حصين ليس عليه قتال إلا من موضعين من صوب الجبل ومن الغرب وما لكم عذر ومن أراد رضا المسيح والأجر قاتل عن دينه وصان أهله وحريمه من هؤلاء العرب وإن خفتم أن القوم يرسلون إلينا مواليهم أو من لا له عندهم قدر ولا شأن فأنا أعرف الناس بهم وبفرسانهم وأبطالهم ومواليهم وخاصة أصحابهم فأنفذوا مع رسولكم كتابًا بأسماء القوم الذين أريد منهم المقداد والنعمان وشرحبيل بن كعب ونوفل وعبد الرحمن بن مالك والأسود مولى قيس وخالد بن جعفر وابن قيس وهمام الحرث ومالك بن نوبة وسلامة بن عامر قال فضحك الوزير الأرمني وقال: وحق ديني إن العرب لا يسمحون بهؤلاء قط إلا أن يطالبوا رهائن منكم فقال يوقنا: ما أفشل رأيكم وأضعف قلوبكم انفذوا إلى القوم فإن فإن أجابوا كانت بركة السيد المسيح وإن طلبوا رهائن أرسلنا أضعفنا من أهل المدينة ومن أولادهم وألبسناهم أفخر الثياب وقلنا هؤلاء أكابرنا من أهل المدينة قال شهرياض: وحق القربان ما نفعل إلا ما أمرتنا.
ثم أنه أمر بطارقته وأرباب دولته أن يأمروا الناس بالتأهب للحرب ففعلوا ولبسوا سلاحهم واستعدوا للقتال وأمر سهل بن عدي أصحابه بالركوب فركبت العرب وخرجت من باب الخندق واستقبلوا العدو بهمم عالية وقالوا اللهم انصرنا عليهم كنصر نبيك يوم الأحزاب وعبوا صفوفهم ثم وعظهم وقال في آخر وعظه: ها أنا حامل نحو طاغية الروم وصليبه فاتبعوني فإن فتح الله بقتله أو أخذ صليبه فالقوم لا ثبات لهم فقالوا: أيها الأمير لقد دعوتنا إلى شيء هو أحب إلينا فاحمل حتى نحمل قال محمد بن عبد الله: فحمل هو ومن معه على عسكر قرقيسيا وكان أمير المسلمين عبد الله بن غسان وسهل بن عدي فلقد قاتلوا قتالًا شديدًا وجاهدوا في الله حق جهاده وبذلوا رماحهم وسيوفهم في أعداء الله والتقى عبد الله بن مالك الأشتر بيورنيك الأرمني فلما عاين زيه علم أنه من ملوكهم فطعنه في صدره فأخرج السنان من ظهره والتقى النعمان بن المنذر بشهرياض وقد طحطح الجموع ولم يعلم النعمان بأنه صاحب البلد بل عرف أنه من الملوك فحمل عليه النعمان وهو يقول هذه الأبيات: وإنا لقوم في الحروب ليوثها وتنفر منا عند ذلك أسودها نحامي عن الدين القويم نصرته ونرغم آناف العدا ونذودها لنا الفخر في كل المواطن دائمًا بأحمدنا الهادي فذاك سعيدها ملكنا بلاد الشام ثم ملوكها إلى أن تبدي بالنكال عدبدها وسوف نقود الخيل جردًا سوابقا إلى شهرياض ذلك شديدها ونملك دارًا ثم جملين بعدها كذا رأس عين والجيوش نقودها ونمضي إلى حران ثم سروجهم كذا الرها للمسلمين نعيدها وإني أنا النعمان ذاك ابن منذر أبيد ليوث الحرب ثم أسودها ثم أطبق عليه وفاجأه بطعنة فألقاه صريعًا فلما نظر جيش قرقيسيا إلى هلاك ملكهم انحرفوا إلى مدينتهم وتحصنوا في بلدتهم وخافت أرمانوسة ودخل الرعب في قلبها.
ثم إنها قالت للعبد الصالح يوقنا: يا عبد المسيح ما بقي لي أحد سواك يسوس ملكنا ويدبر حالنا.
فقال: أيتها الملكة أنا لك وبين يديك.
ثم إنها خلعت عليه وعلى أصحابه وقالت: اعلموا أن هذه المدينة والمملكة لكم.
فقال يوقنا: يجب علينا أن نقوم بحقها ونقاتل بين يديها ثم إنه رتبهم على الأسوار فدنا المسلمون ورجالهم وهم يرمون بالمقاليع فكانت حجارتهم لا تخطئ أبدًا وكان المقدم على الرجال والموالي المنذر بن عاصم ولم يكن بالحجاز ولا باليمن قاطبة أرمى منه بالمقاليع وكان عن قوة ساعده إذا خرج حجره يجاوز البرج الأعظم فلم يزل يرمي فيه كل يوم فيصيب الرجل والرجلين فسمته العرب برج المنذر وكانوا قد ضايقوا أهل قرقيسيا مضايقة شديدة.
فقالت أرمانوسة: أين ما وعدت به الملك شهرياض من تدبيرك.
في هؤلاء العرب فقال: أنا في الأمر متفكر.
ثم إنه صعد على السور مما يلي المسلمين ونادى: يا معاشر العرب قد طال الأمر بيننا وبينكم ولا نسلم لكم إلا أن تهزموا الملك وتملكوا رأس العين ونحن لكم بعد ذلك واطلبوا منا من المال ما تريدون فقد علمنا أنكم إذا قلتم فعلتم ووفيتم قال فلما رآه عبد الله بن غسان وسهل بن عدي والصحابة ونظروا إليه علموا أنه يريد أن ينصب حيلة على أهل قرقيسيا.
فقال سهل بن عدي: يا عدو نفسه مكرت بنا وتممت منصوبك علينا بدخولك في ديننا حتى اطمأننا إليك.
ثم غدرت ورجعت إلى دينك الأول فأين تهرب منا أو تولي عنا ونحن لك في الطلب وسوف نملك هذه المدينة بالسيوف ونضرب عنقك وهذا أيضًا من تمام الحيلة.
فقال: يا معاشر العرب لقد نصحتكم وخدمتكم وما رأيت منكم إلا خيرًا ولكن طالبتني نفسي بديني فرجعت إليه والآن فقد مضى ما مضى وهذه المدينة ما لكم إليها وصول ولا تقدرون عليها لأنها حصينة وفيها رجال الحرب والقوت عندنا كثير ولكن أنفذوا إلينا منكم عشرة من أعز أصحابكم ممن نثق بهم يحلفون لنا ونحلف لهمإذا فتحتم رأس العين سلمنا هذه المدينة إليكم ويكون الصلح بيننا بقية هذه السنة فقد بقي منها أربعة أشهر أولها شهر رمضان.
فقال له عبد اله بن غسان: قد أجبناك إلى ذلك فمن هم العشرة الذين تريدهم حتى نرسلهم إليك فقال: أريد المقداد بن الأسود والأسود مولى قيس وخالد بن جعفر ورواحة بن قيس وهمام بن الحرب وسلامة بن عامر وابن نعيم فهؤلاء نريدهم فإنه لا يقع الصلح إلا بهم.
فقال: فوجه عبد الله هؤلاء الذين ذكرهم له يوقنا.
قال وفتح لهم الباب فقال عبد الله: نحن ما نسمح بأصحابنا بلا رهائن فمضى يوقنا إلى الملكة أرمانوسة وأخبرها أن القوم يريدون رهائن فقالت: أرسل لهم من أولاد السوقة.
قال يوقنا: أيتها الملكة إن الحيل في الحرب من عند العرب خرجت والملوك من شأنها إذا قالت قولًا وفت به واعلمي أنه قد قال حكيم الفرس: إذا كان الغدر طباع قوم فالثقة بكل أحد عجز واعلمي أن أهل بلدك فيهم رؤساء وملوك وهم يعظمون شأنك بعد الملك ولكن ينظرون إليك بعين التأنيث وينظرون إلي بعين الغربة ولا هيبة لي عندهم وربما سمعوا بصلحنا مع العرب فلا يملكونا من ذلك ولا يتم لنا ما نريده وربما يرسلون يستنجدون علينا بمثل ملك الموصل وصاحب الهنكارية ويعظم الأمر.
قالت: فما الذي ترآه من الرأي.
قال: الرأي أن نبعث الرؤساء رهائن عند العرب وإنما فعل ذلك يوقنا حتى لا يتعرض له متعرض في المدينة وإذا سلمهم لا يكون فيها رئيس من رؤسائهم فأجابته إلى ذلك وأنفذت الرؤساء منهم رهائن إلى عبد الله بن غسان فلما وصلوا إليه دخل العشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما حصلوا في المدينة أمر بهم إلى البرج الكبير وهو المعروف ببرج المنذر وإنما فعل ذلك حتى لا يعصى من في البرج لأن فيه مال أهل البلد فلما حصلوا هناك رجع إلى الملكة أرمانوسة وقال: قد حصلتهم في البرج وغدًا نوقفهم بأعلى البرج ونقول لهم: إما أن ترحلوا عنا أو نقتلهم.
قالت: وكيف نصنع برهائننا وإن نحن فعلنا بأصحابهم ما ذكرت يفعلوا بأصحابنا كذلك قال لها يوقنا: إذا كنت تفزعين على أهلي البلد فصالحي القوم.
قالت: دبرنا بحسن رأيك.
فقال: السمع والطاعة وأنا أمضي إلى هؤلاء العشرة مع ما وصاهم به أميرهم وننظر ما الذي يطلبونه منا ثم إنه مضى إلى الصحابة وحدثهم بما عزم عليه من تسليم البلد وقال لهم: إذا سمعتم الضجة فدونكم ومن في البرج ثم رجع إلى أصب أبه ورتبهم على السور ولم يترك معهم أحدًا من أهل البلدة فلما أظلم الليل سار عبد الله يوقنا مع أصحابه المائتين وأعلنوا بالتهليل والتكبير وبادروا إلى الباب ففتحوه وأرسل إلى عبد الله بأن يأتي إليهم بعسكره فأتوا ووضعوا السيف في أهل البلد فما أفاق أهل قرقيسيا إلا والمسلمون قد مكنوا منهم القواضب فقصدوا البرج الأعظم فثار عليهم العشرة الصحابة فعلمت الملكة أرمانوسة أن الحيلة قد تمت عليها من قبل يوقنا وسمعت أهل البلد ينادون الغوث الغوث فأمنهم عبد الله بن غسان وسهل بن عدي واحتووا على ما في المدينة وأخذوا جميع ما كان فيها من الأموال وما في البرج الأعظم من الذخائر فأخرجوا منه الخمس وقسموا الباقي على المسلمين وعرضوا عليهم الإسلام فمن أسلم منهم وهبوا له أهله وماله ومن أبى ضربت عليه الجزية ثم اجتمع الذين أسلموا وأتوا إلى الأمراء وقالوا: نحن قد دخلنا في دينكم فسلموا لنا كرومنا وبساتيننا.
فقال لهم عبد الله بن غسان بن وسهل بن عدي: هي بحكم الإمام يعني عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو الذي يسكن فيها من أراد ويأخذ خراجها من هي في يده فإن حكم الخراج والخمس والجزية بأمر الإمام يأخذ حاجة منه ويصرف الباقي في صالح المسلمين.
قال الواقدي: وأسلمت أرمانوسة ومن كان يلوذ بها فأقرهم عبد الله في أماكنهم وأحسن إليهم غاية الإحسان وجدد لهم الأمان كل ذلك ليتصل الخبر بأهل البلاد فيدخلوا في الإسلام.
قال عطية بن الحرث وكان ممن أدرك ذلك: كان فتح قرقيسيا أول ليلة من شهر رمضان سنة اثنتين وعشرين من الهجرة وبنوا الكنيسة العظمى وهي بيعة جرجيس جامعًا ولم يبرحوا حتى صلوا فيه وأطلقوا الرهائن وتسلم ولايتها شرحبيل بن كعب في مائة وخمسين رجلًا وعولوا على المسير إلى ماكسين والتفت الأمير إلى عبد الله يوقنا وقال: مر ابنتك أن ترجع إلى قلعتها فقد جاءت الوصية إلينا من قبل الأمير عياض.
قال: فرجعت والحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
فتح ماكسين والشمسانية
قال: حدثني زهمان بن رقيم بن الصلت بن مجالد عن القيل بن ميسور.
قال لما ارتحل عبد الله عن قرقيسيا ونزل على ماكسين فتحها صلحًا على أربعة آلاف درهم وكذلك بلادهم وألف حمل طعام حنطة وشعير فقلقوا من ذلك فترك لهم النصف وكذلك أهل المشمسانية ثم نزل على عربان فجاؤوا إليه وصالحوه بما صالح به أهل ماكسين أرتحل إلى المجدل فملكها وأقام ينتظر ما يرد عليه من أخبار أميره عياض بن غنمًا و نازل على نهر البلخ فكتب إليه يعلمه بما فتح الله على يديه فلما وصل الكتاب إليه كتب إليه أن الزم مكانك حتى يأتيك أمري والسلام.
قال سهل بن مجاهد بن سعيد: لما فتح الله على يد عبد الله بن غسان أرض الخابور صلحًا وأقام بالمجدل إنشد قيس بن أبي حازم البجلي هذه الأبيات: أقمنا منار الدين في كل جانب وصلنا على أعدائنا بالقواضب ودان لنا الخابور مع كل أهله بفتيان صدق من كرام العرائب هزمناهم لما التقينا بماسح وثار عجاج النقع مثل السحائب وكل همام في الحروب نخاله يكر بحمل في صدور الكتائب وما زال نصر الله يكنف جمعنا ويحفظنا من طارقات النوائب فلله حمد في المساء وبكرة وما لاح نجم في سدول الغياهب فتوح قلعة ماردين قال: حدثني سوار بن كثير عن يوسف بن عبد الرزاق عن الكامل عن المثنى بن عامر عن جده: قال: لما فتحت مدائن الخابور صلحًا بلغ قتل الملك شهرياض صاحب أرض ربيعة وعين وردة ورأس العين فعظم عليه وكبر لديه فجمع أرباب دولته وهو نازل على أرض الطير وقال لهم: هذه ثلاث مدائن من بلادنا قد ملكت وقلعتان والعرب المتنصرة قد مضت عنا.
فقال له البطريق توتا: أيها الملك إنه لا بد للعرب منا ولا بد لنا منهم ويعطي الله النصر لمن يشاء غير أنه كان من الرأي أنك لو زوجت ابنك عمودا الملكة مارية بنت أرسوس بن جارس صاحب ماردين ومرين لأعانتنا قلعة المرأة.
قال الراوي: وكان السبب في بناء القلعتين المذكورتين أن هذا الرجل أرسوس بن جارس كان من أهل طبرزند وكان بطلًا مناعًا وكان أول من بنى المملكة بأرمينية وكان منفردًا بطبرزند وكان يغير في بلاد الروم حيث شاء حتى كتب أهل تلك البلاد إلى الملك الأعظم يستغيثون به من يده فأرسله الملك هرقل من أنطاكية إلى ديار ربيعة وقال له: ابن لك حصنا تسكن فيه فلما توسط أرض جبل ماردين نزل تحته ونظر وإذا على قلة الجبل موضع نار وكان فيه عابد من عباد الفرس وكان مشهورًا عندهم بالعبادة وكانت الهدايا تقبل إليه من أقصى بلاد خراسان والعراق وكان اسمه دين فلم يمر به أرسوس حتى صادقه وكان يحمل إليه الهدايا والتحف وكان العابد لا يحتجب عنه ولم يزل معه حتى إنه وقع به منفردًا فقتله وغيبه فلما عدمه أهل تلك الأرض قالوا: مات دين ثم إن أرسوس بنى بيت النار وجعله حصنًا وكانت له ابنة يقال لها مارية فلما رأت أباها بنى له مكانًا وتحصن فيه بنت أيضًا قلعة بإزائه وحصنتها وجعلت فيها أموالها وذخائرها ورجالها وكانت كلما خطبها أحد تراه دونها لأنها من بيت المملكة.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق