89
مقدمة
فتوح الشام
أبو عبدالله بن عمر الواقدي (الواقدي )
قال مالك يوم الدين {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} [الحجر: 2]. فإذا ورد مقامه أطال فيه هناك قيامه وبسط كف ابتهاله وبالغ في طلبه وسؤاله ويقول: أسألك قبول شفاعتي في العصاة من أمتي.
وإذا بالنداء: وعزتي وجلالي لا أخلف لك وعدًا ولا أنقض لك عهدًا ولأرين أهل الموقف علو شأنك ورفيع مكانك ولأعطيتك حتى ترضى {ولسوف يعطيك ربك فترضى} [الضحى: 5].
قال: فازداد عاصم إيمانًا فلما كان وقت السحر وثبت الصحابة على أقدام الحزم والعزم وخرجوا على أهل المدينة فاستعانوا بالله وقالوا: اللهم انصرنا كنصر نبيك يوم الأحزاب وقال خالد: إياكم أن تفترقوا فتذهب ريحكم واتقوا الله الذي إليه مصيركم واعلموا أن الأعداء يجتمعون عليكم والنساء يرجمنكم والشباب يقاتلونكم وإياكم أن تطمعوا أحدًا في بحار الحرب بل اصبروا على مر الكرب والضرب وإنما يتبين صبر الرجال عند ملاقاة الأهوال وما نحن ممن يفزع بهجوم الآجال لأنا قد تحققنا أن لكل منا أجلًا لا يتعداه ومن خاطر بعظيم نال عظيمًا وهذه اسمها عظيم والجمع فيها أعظم وهي قصور ديار بكر وربيعة وقد حصلنا في وسط مدينة القوم فإن كنتم طالبين الظفر فاصبروا ولا تعجلوا فالصبر مقرون بالظفر والعجلة مقرونة بالزلل والصبر عاقبته النصر واعلموا أن هذه البيعة هي بيعتكم المعظمة ولا بد لهم من القدوم إلى الصلاة فإذا حصل واليهم ههنا ومقدم عساكرهم أطبقنا عليهم من كل جانب وقصدناهم بالقواضب فإنه إذا قتلت الملوك وعظماء البطارقة فما يجسر بعدهم أحد أن يرفع يده وأما العوام فلا اعتبار بهم.
فقال عاصم بن رواحة: لله درك أيها الأمير ما أخبرك بالأمور والحرب ولقد تكلمت بالصواب وأحسنت في الخطاب فليقر كل واحد منكم في مكانه وأخفوا سلاحكم في أعبابكم فإذا اشتغل القوم في صلاتهم ثرنا عليهم ومددنا أيدينا إليهم فاستصوبوا رأيه.
قال: وكانت الصحابة في بيت كبير في البيعة كان برسم النذور وفيه شيء من الأمتعة لا يثمن لكثرته.
قال الراوي: حدثنا عبد الله بن يانس عن جده فياض بن زيد وكان من جملة من ذكرناهم من الصحابة وحضر فتوح رأس العين.
قال: هكذا كانت قصتنا وكنا قد دبرنا هذا التدبير ثم رجعنا عنه وكان من لأمر المقدر أن ذلك اليوم الذي رجحنا فيه لم يقاتل فيه أحد من جند رأس العين وكان له سبب نذكره.
قال الواقدي: كان منقضاء الله السابق في خلقه أنه كان للوالي أخ عاقل لبيب له رأي وتدبير وكان يعرف من الحكمة التي وصاه بها فهرايس أحد حكماء اليونانيين وقد عرف من علم الملاحم وكان صاحب سر شهرياض فما كان يفعل شيئًا إلا بمشورته وكان قد نهاه عن قتال العرب وقال له: ما أرى لك في قتالهم خيرًا والأمر عليك لا لك فلما كأن من الملك ما كان وقتل جيشه ورجع الأمر إلى مرسيوس.
قال له أخوه الحكيم وكان اسمه أسالوس معناه حكيم زمانه: اعلم يا أخي أنه ليس ينبغي للعامل اللبيب الفاضل الأديب أن يرمي نفسه في غير مراميها ولا ينقاد بزمام شهوة النفس فإنه من أطاع نفسه هوى في مهاوي الذل ونسب إلى الجهل فإن الشهوة عرض واتباع الهوى مرض والاستمتاع بالملذات سبب الهلكات ولا خير في لذة تؤذي إلى الفناء وتورث صاحبها العناء الشهوة حين والأمل شين والاستمتاع بين والتمتع دين وحب الدنيا مين وما ندم عاقل ولا ساد جاهل ولا وفق عجول ولا رأي لملول ولا سعد خائن ولا صدق مائن ولا عظم بخيل ولا قدم ذليل ولا فحم نبيل ولا حقر جليل ولا نال العبادة من زهد في الإفادة ولا أمن في الآخرة من سر بالدنيا الساحرة ولا سدد من ظلم ولا حرم من حلم ولا حزم من ندم ولا خاف من تاب ولا رد من أناب ولا هجر من لزم الباب ولا ذل من اتبع الصواب واعلم أن بالسياسة تدوم الرياسة وبالعدل تدوم الدول وبالجور هلك الأول وبقية التدبير يحصل التبذير ومن بذل جهده كملت أوصافه ومن أفشى السلام فضله الأنام وإصلاح السريرة نعم السيرة وجمال الإنسان فصاحة اللسان وزينة الرجال كرم الخلال وخير الأصحاب التقوى وشر الإخوان اتباع الهوى ولا خاب من قصد طوره.
ولا ارتفع من جهل قدره والتعلق بالآمال ضياع الأعمال ومعالي الأخلاق نعمت الرفاق وممارسة الحلال نجاة من الأهوال وحب العاجل يبيد الآجل وارتكاب العصيان علامة الخذلان وعلامة التوفيق تيسير الطريق والنظر في العواقب أمن من المعاطب ومن نظر إلى الدنيا بعين الفنا أدرك في الآخرة ما تمنى واعلم يا أخي أنك قد أصبحت مقيدًا بحب الدنيا سابحًا في بحار أهوالها متعلقا بأذيال محال آمالها وقد تزينت لك برياشها ووقفت لك على قدم احتياشها وزوت عنك جل مصائبها ونصبت لك شبكة مصايدها ووضعت لك تاج شهواتها على مفرق رأس آفاقها حتى إذا أشرت إليها بالوصال منحتك لذيذ الاتصال وأحسنت لك صحبتها شهرًا ورمتك بسهام الهجر دهرًا وطالبتك بما كتبت عليك مهرًا حتى إذا علمت أنك غريم الانغاص غير منقاد للقصاص ألقتك في بحر الآفات وحجبتك في سجن الغفلات وصغرت أملك عند الناس ووكلت بك سحائب الوسواس فلا تبرح تذكر الإنسان بما كان فيه حتى تخرج روحه من فيه واعلم أن من جملة ما ذكر لنا عن عيسى ابن مريم عليه السلام: أنه رأى طائرًا مليح الشكل حسن الريش كامل الزينة.
فقال: من أنت.
قال: أنا الدنيا ظاهري مليح وباطني قبيح قال عيسى: عجبت لغافل ليس بمغفول عنه ومؤمل إتمام الشيء والموت يطلبه وإنما ضربت لك هذه الأمثال لتتعظ بها وبما نزل بالملك شهرياض كان بالأمس على السماط واليوم نزل على الصراط بالأمس كان في سلطانه وملكه يباهي واليوم صار في الحفر واهي ما أفاده الغنى أذهبه ألفنا وذهب الفرح بالترح والنوم على السرير بالنوم على العفير ومعانقة الأتراب بالتعفر في التراب وبدل عن خل ودود بمجاورة الدود جار وما أجار واشتغل بالدار عن الجار وبالرماد عن المهاد وانظر بأي سنان بتر وبأي آلة كيف هجر وصار قصره مهجورًا وعمارته خرابًا بورًا وتبدل السرور بالثبور ما نفعه الجيش وكثرته ولا الخزائن وعدته أصبح والله ذليلًا وبعد الكثرة قليلًا فلا عمل صالح ولا عز راجح ولا ثواب ينفع ولا جميل يدفع وقد بقي مرتهنا بأعماله موثقًا بأفعاله وأنت تريد أن تسلك مسلكه وتتبع سبيل ما أهلكه فما أحد ينفعك ولا عمل يتبعك اتق الله في نفسك وفي أهل ملتك وبلدتك واعقد لك مع هؤلاء العرب صلحًا واقبل ما قلت لك نصحًا واحقن الدماء وارحم النساء والإماء وأسلم تسلم وهؤلاء القوم ما قالوا قولًا إلا وفوا به لأن الصدق دليلهم والإيمان يقينهم ما هم ممن يطلبون الملك فينازعون عليه ولا يميلون إليه بل طلبهم الآخرة وما عند الله وبالأمس وفوا لرودس صاحب حران ورجع عن دينه ودخل في دينهم وكذلك الملكة مارية بنت أرسوس وقد دخل في دينهم جبابرة الروم مثل يوقنا وبرغون وعمودا وميتا الذي هو أعلم منا بديننا وقد ملكوا الأرض في الطول والعرض وإنما يحاصر عن نفسه من له ميرة وعدد وجيش وسلاح وعدد يقدر على محاصرة البلد وهذا بلد عظيم وما فيه ما يقوم بأهله سنة أو أقل فإن لم تسلم أنت سلم أهله وسلموك إليهم برقبتك وهذه حران لهم وكفر توتا والرها وسروج وسجستان وماردين والصور والخابور وما عدا الفرات إلى الشام إلى أرض مصر وجيوشهم قد طبقت العراق وملأت الآفاق وقد بلغني أن الملك كسرى قد عاد إلى المحاق فابعث إلى أمير هؤلاء العرب واطلب منه الصلح فإنه يعطيك وتربح نفسك ومالك وأهلك وولدك وعش في ظل القوم إن شئت على دينهم وإن شئت على دينك فإنهم لا يغضبونك.
قال: فلما سمع مرسيوس كلام أخيه الحكيم أرسالوس غضب عليه وضربه بمقرعة كانت في يده وقال: أنت ما خلقك المسيح إلا ذليلًا وكيف تأمرني أن أسلم ملكي للعرب وتعرضني للعطب.
اخرج يا ويلك عني فإن وقعت عيني عليك بعدها قتلتك.
قال: فخرج من عنده وهو غضبان وأما اللعين مرسيوس فإنه أمر أرباب دولته أن تجتمعوا في كنيسة بيعة نسطوريا حتى يحلفهم فمضى شاويشه فجمعهم وجمع مشايخ البلد وكبراءها وأحضر القسوس والرهبان والشمامسة وبترك دير مقرب حتى يستحلف أهل المدينة.
فلما حصلوا في البيعة أغلقوا أبوابها حتى لا يدخل إليهم أحد من العوام.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق