1188
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> من ويكلف إلى لوثر -> إنجلترا ويكلف وتشوسر -> نمو المعرفة -> المعالجون
4- المعالجون
كانت أوربا الشمالية متخلفة بنصف قرن أو أكثر عن إيطاليا في علم لطب وممارسته شأنها في ذلك الأدب والفن بل إن إيطاليا لما تصل ثانية عام 1300 إلى ما وصل إليه جالينوس وسورانوس في الطب قبل ذلك بألف
عام، ولكن مدارس الطب في مونبلييه وباريس وأكسفورد أحرزت تقدماً لا بأس به، وكان أعظم الجراحين في هذا العصر من الفرنسيين. وكانت المهنة وقتئذ منظمة تماماً وتدافع بشدة عن امتيازاتها ولكن لما كان الطلب على العلاج يزيد كثيراً عن عدد الأطباء فإن تجار الأعشاب الطبية بائعي لعقاقير والقابلات والأطباء المتجولين والحلاقين والجراحين- ولا ضرورة لذكر أدعياء الطب- نافسوا في كل مكان الأطباء المتمرسين. وأما الجمهور الذي كان يصاب بالمرض بسبب المعيشة الخاطئة ثم يبحث عن تشخيص لا يخطئ وعلاج رخيص يتم به الشفاء في ليلة واحدة فقد كان يجأر بالشكاوي المعتادة من الأطباء المرتزقة والسفاحين ورأى فرواسار أن "هدف كل الرجال الطب أن يحصلوا على مرتبات كبيرة" وكأن هذا لم يكن مرضاً متوطناً بالنسبة لكل الحضارات.
وكان أهم رجال الطب إبان هذا العصر الجراحين ولم يكونوا قد أقنعوا بعد الأطباء بالاعتراف بهم على قدم المساواة، والحق أن جامعة باريس كانت لا تقبل طالبا في مدرسة الطب في القرن الرابع عشر إلا بعد أن يقسم أنه لن يجري أية عملية جراحية. بل إن الحجامة التي أصبحت علاجا لكل الأمراض حرمت على الأطباء وكانت تترك لتابعيهم. ولجأ الناس إلى الحلاقين لإجراء عمليات كثيرة إلا أن الحلاقين الجراحين كانوا إبان ذلك الوقت يهجرون ممارسة الحلاقة ويتخصصون في الجراحة، وكان هناك أربعون من هؤلاء الحلاقين في باريس عام 1365، وفي إنجلترا استمروا يزاولون المهنة عام 1540. وصدر عام 1372 قانون قصر عملهم في فرنسا على علاج "الجروح التي ليس من شأنها تسبب الوفاة" ولذلك فإن العمليات الكبيرة لا يمكن أن يجريها إلا "أساتذة الجراحة" الأخصائيون، وصدر عام 1505 مرسوم بإنشاء كلية ملكية للجراحين في أدنبرة.
واعظم المتخصصين في الجراحة في النصف الأول من القرن الرابع عشرهم هنري دي موند فيل وجي دي شولياك ولعل فرواسار سجل أن موندفيل ظل فقيراً حتى آخر يوم في حياته على الرغم من أعماله كانت دائماً في رواج وأنه قام بعمله على الرغم من إصابته بالربو والسل. وقد استوعب كتابه "الجراحين"Chirurgia (1306- 20) وهو أول مؤلف في الجراحة الفرنسي، الميدان كله بإتقان وجدارة تبوأ بهما- الجراحون مكانا مرموقاً وكان أعظم ما أسهم به تطبيق وتطوير طريقة تعلمها من تيودوريك بورجونيوني في بولونيا لعلاج الجروح بالتطهير الكامل ومنع التقيح وتسرب الهواء وعمل الضمادات بالنبيذ، وقد دافع عن الطريقة التي ابتدعها بأن من قبول رأى جالينوس أو غيره من الثقات القدامى بلا مناقشة، وكتب يقول مستخدما صفة محببة في العصور الوسطى: "إن المؤلفين المعاصرين بالنسبة للقدامى منهم يشبهون قزما يركب فوق كتف عملاق فهو يرى كل ما يراه العملاق بل ويرى أبعد منه".
وقد أنجب الجيل الذي جاء بعده أشهر الجراحين في العصور وهو جي دي شولياك وهو من أصل ريفي في قرية ريفية أخذ منها اسمه، وقد أثر في سادة القصر فجعلهم يتكفلون بنفقات تعليمه في تولوز ومونبلييه وبولونيا وباريس، وفي عام 1342 أصبح طبيبا خاصا للبابا في أفينون. واحتفظ بهذا المنصب الصعب ثمانية وعشرين عاماً وعندما اجتاح وباء الطاعون أفنيون لم يغادر موقعه ومد يد العون للضحايا وأصيب بالوباء ولم ينج من لموت إلا بمعجزة، وقد ارتكب أخطاء جسيمة مثل أي إنسان إذ كان تارة يعزو انتشار الوباء إلى اقتران بين الكواكب في ساعة نحس وتارة يتهم اليهود بأنهم يهدفون إلى تسميم أبناء العالم المسيحي وأخر التئام الجروح بنبذه طريقة موندفيل في اللصقات والمراهم ولكنه عاش معظم حياته وفيا لأرفع تقاليد مهنته العظيمة. ويعد مؤلفه Chirurgia magna، (1363)
الجامع في فن الجراحة" أكمل بحث في الجراحة وأكثر تنسيقا وأغزر مادة من الرسائل التي ألفت قبل القرن السادس عشر.
وواكبت الصحة الجماعية والفردية بصعوبة تقدم الطب فلم تكن النظافة الشخصية شيئاً مقدساً بل إن ملك إنجلترا كان لا يستحم إلا مرة واحدة كل أسبوع وكان يغفل الاستحمام أحيانا... وكان الألمان يستخدمون حمامات عامة- أحواضاً واسعة يقف فيها المستحمون أو يجلسون عراة الأجسام وأحيانا فيها الجنسان معا. وكان في أولم وحدها 168 حماماً عام 1489 وفي كل أنحاء أوربا- دون استثناء للطبقة الأرستقراطية دائماً- كانت نفس القطعة من الملابس ترتدى شهورا أو سنوات أو أجيالاً.
وكان في كثير من مدن ما يكفيها من الماء ولكنه كان لا يصل إلا إلى بضع منازل وكان معظم الأسر أن يجلبوا الماء من أقرب نافورة أو بئر أو ينبوع. وظل هواء لندن ملوثا برائحة الماشية المذبوحة إلى أن حرمت المذبحة عام 1371 وكانت المراحيض تنغص حياة الناس السهلة في الريف. ولم يكن في منازل لندن إلا مرحاض واحد لكل السكان وخلا كثير من أي مرحاض وكانت ما فيها من براز في الأفنية أو الطرقات. وكانت آلاف الفضلات تلقى في نهر التيمز صدر عام 1357 قانون يحرم ذلك وإن استمر الحال على ما هو عليه وفي سنة 1388 أقر البرلمان أول قانون للصحة العامة يسري في جميع أنحاء إنجلترا وقد دفعه إلى هذا انتشار الوباء أكثر من مرة "نظراً لأن كثيراً من الغائط والنفايات القذرة والأمعاء والذبائح والمواد الأخرى تلقى وتوضع في الحفر والأنهار والمياه الأخرى... ونظراً لأن الهواء يتلوث ويفسد إلى حد كبير فتنتشر كل يوم أمراض كثيرة وأسقام أخرى لا تطاق بين السكان وبين الآخرين ممن يترددون أو يسافرون إلى هناك فقد تم الإنفاق والرضى على نشر
هذا الإعلان- في أنحاء إنجلترا... إ جميع من يلقون ويضعون مثل هذه الأشياء المقلقة للراحة سيجبرون على إزالتها تماماً... وإلا تعرضوا لعقوبة الغرامة من مولانا الملك".
وقد صدرت قوانين مماثلة في فرنسا في مثل هذا الوقت وفي سنة 1383 أمرت السلطات في مارسيليا، مقتفية أثر سلطات راجوزا (1377) بعزل الأشخاص المصابين بالوباء لمدة أربعين يوماً- بالحجر الصحي. واستمرت الأوبئة في انتشار- الحمى الدخنية في إنجلترا (1486- 1508) ومرض الخناق والجدري في ألمانيا (1492)- إلا أن العدوى بها قد تضاءلت وقلت الوفيات. وعلى الرغم من التهاون في الرعاية الصحية فإن المستشفيات كانت كثيرة نسبيا فقد كان في إنجلترا 460 مستشفى عام 1500 وكان في يورك وحدها ستة عشر مستشفى.
وتجاوز علاج المجانين شيئاً فشيئاً مرحلة احترام الخرافات والأوهام والقسوة الهمجية إلى مرحلة العلاج العلمي، فقد حدث عام 1300 أن نشبت جثة فتاة ادعت أنها الشبح المقدس وأحرقت بأمر من رجال الدين، ولقيت فتاتان عبرتا عن إيمانهما بما ادعته، مصرعهما بالجلوس على الخوازيق وفي سنة 1359 فوض كبير أساقفة طليطلة السلطات المدنية في إحراق إسباني حياً وكان قد ادعى أنه أخ ميكائيل كبير الملائكة وأنه يتردد على السماء والجحيم كل يوم.
وتحسنت الأمور في القرن الخامس عشر إذ أن راهباً يدعى جان جوفر، امتلأ قلبه عطفاً على المجانين الذين كانت الغوغاء تتابعهم في الشوارع بصفير الاستهزاء أنشأ مستشفى للمجانين (1409) وحذت السلطات حذوه في مدن أخرى وتحولت مستشفى سانت ماري أوف بيت لحم التي أسست في لندن عام 1247، إلى مستشفى للمجانين عام 1492 وأصبحت
كلمة "بيت لحم" التي حرقت إلى كلمة"بدلام"- مرادفة لمستشفى المجانين.
وكان الذين يثبت إصابتهم بالجذام منبوذين من المجتمع وإن كان الجذام قد اختفى أو كاد من أوربا الغربية في القرن الخامس عشر وحل محله مرض الزهري، ولعله مرحلة متطورة لمرض الزهري المعروف من قبل في فرنسا وربما كان مرضا وافدا من أمريكا وظهر أخيرا في إسبانيا عام 1493 وفي إيطاليا عام 1495 ثم انتشر انتشارا واسعاً في فرنسا حتى أطلق عليه اسم الوباء الغالي .
وقد اجتاح بعض المدن في ألمانيا فالتمست إعفاءها من الضرائب- وما أن أشرف القرن الخامس عشر على نهايته حتى سمعنا عن استخدام الزئبق في علاجه. وأخذ تقدم الطب في ذلك الوقت كما هو الآن يسابق بشجاعة كل مستحدث في المرض.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق