إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 29 أبريل 2014

1315 قصة الحضارة ( ول ديورانت ) قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> الفن في عصر هولبين -> بيتر بروجل 3- بييتر بروجل 1520 - 1569


1315

قصة الحضارة ( ول ديورانت )

 قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> الفن في عصر هولبين -> بيتر بروجل

3- بييتر بروجل


1520 - 1569


كان هذا العصر مقفراً في فن الأراضي المنخفضة إذا استثنينا بروجل والنسيج المرسوم. وتذبذب فن التصوير بين تقليد الإيطاليين- في



الأسلوب المهذب والألوان الغنية والأساطير الكلاسيكية والنساء العاريات والخلفيات المعمارية الرومانية- وبين الميل المتأصل إلى التصوير الواقعي لكبار الشخصيات وللأشياء العادية. ولم يحظ الفنانون بالرعاية من البلاط والكنيسة والنبلاء فحسب، بل نالوها باطراد من أغنياء التجار الذين عرضوا أجسادهم البدنية وألغادهم المتهدلة ليعجب بها الخلف، وأحبوا أن يروا في الصور المناظر المألوفة والمشاهد الطبيعية لحياتهم الفعلية. وحلت روح الفكاهة، وحب "الجروتسك" أحياناً، محل الإحساس بالتسامي في فن كبار الفنانين الإيطاليين. وقد أنتقد ميكل أنجيلو ما رآه افتقاراً إلى التمييز والسمو في الفن الفلمنكي فقال: "إنهم لا يرسمون في فلاندر إلا ليخدعوا العين الظاهرة، أشياء تبهجك... حشائش الحقول، وظلال الأشجار، والكباري والأنهار... وأشياء صغيرة هنا وهناك... دون عناية بالاختيار أو الرفض"(12). ولا غرو فالفن عند ميكل أنجيلو هو الاختيار ذو الدلالة لإبراز السمو، لا التمثيل غير المميز للواقع، وكانت طبيعته الوقور، المحبوسة في حذائه الذي لا ينزع وعزلته الكارهة للناس، محصنة ضد التأثر بجلال الحقول الخضراء وحرارة الحب العائلي.
أما نحن فإننا ننحني إنحناءة العرفان ليواكيم باتينير، ولو لما صورته لوحته "القديس جيروم" من منظر طبيعي يذكرنا بأسلوب ليورنادو دافنشي، ولجوس فان كليف على لوحته الجميلة التي رسم فيها اليانور البرتغالية، ولبرنيرت فان أورلي اللوحة "العائلة المقدسة" في البرادو، ولتصميماته للنسيج المرسوم، ولزجاجه المعشق في كنيسة سانت جودول ببروكسل؛ وللوكاس فإن ليدن لما حفلت به سنوه التسعة والثلاثون من حشد النقوش والكلشيهات الخشبية، ولجان فإن سكوريل على صورة المجدلية وهي تعتز بقارورة الطيب التي غسلت منها أرجل المسيح،


ولأنطونيس مور على صوره القوية لدوق ألفا، وللكردينال جرانفيل، ولفيليب الثاني، ولماري تيودور، ولصورة ليست أقل شأناً من كل أولئك، وهي صورته هو.
وليلاحظ القارئ كيف تركز فن التصوير بالأراضي المنخفضة في الأسر. من ذلك أن جوس فان كليف ورث بعض مهارته لابنه كورنيليس، الذي رسم صوراً ممتازة قبل أن يصاب بالجنون. كذلك نرى جان ماسيس الذي ورث مرسم أبيه كوينتين يؤثر رسم العاريات أمثال "يهوديت"، و "سوسنة والشيوخ"، وواصل ابنه كوينتين ماسيس الثاني هذه الحرفة، في حين خمل أخوه كورنيليس فنه إلى إنجلترا ورسم لوحة لهنري الثامن في شيخوخته وقد بدا منتفخ البدن بشع المنظر. ورسم بييتر بوربوس وابنه فرانس لوحات للأشخاص وصوراً دينية في بروج، ورسم فرانس بوربوس الثاني، وهو ابن فرانس، لوحات في باريس ومانتوا. وكان هناك إلى هؤلاء بييتر بروجل "المضحك" وزوجته المصورة، وحماته المصورة، وأبناه بييتر بروجل "الجحيم" وجان بروجل "المخمل"، وحفدته المصورون، وأبناء حفدته المصورون...
أما بييتر بروجل الأب، الذي أصبحت شهرته من موضات عصرنا التي لا مهرب منها، فلعل اشتق اسمه من إحدى قريتين في برابانت اسمهما بروجل، وكانت إحداهما قريبة من هرتوجنبوش مسقط رأس هيرونيموس بوش. وربما رأى بييتر في كنائس هذه القرية عدة رسوم بريشة الرجل الذي أثر في فنه تأثيراً لم يفقه غير تأثير الطبيعة ذاتها. وحين ناهز الخامسة والعشرين (حوالي عام 1545) هاجر إلى أنتورب وتتلمذ لبييتر كوك، وربما أعانت محفورات كوك الخشبية للمناظر الطبيعية على تكوين ميل المصور الشاب إلى الحقول والغابات والمياه

والسماء. وكان بييتر كوك هذا قد أنجب فتاة تدعى ماريا، كان بييتر يهدهدها بين ذراعيه وهي طفلة، وقد أصبحت فيما بعد زوجاً له. وفي عام 1552 اتبع التقليد الذي جرى عليه المصورون، ورحل إلى إيطاليا ليدرس التصوير، ثم عاد إلى أنتورب بكراسة تضخمت برسوم المناظر الإيطالية، ولكن لم يبد على أسلوبه الفني تأثير إيطالي واضح. وقد ظل إلى النهاية يهمل من الناحية العلمية تلك الدقة في التشكيل، وفي توزيع الضوء والظل (الكياروسكيورو)، وفي التزويق (الكولورا تورا) التي أخذ بها الفنانون الجنوبيون. ولما عاد إلى أنتورب عاش مع امرأة كانت خليلة ومدبرة لبيته. وقد وعدها بأن يتزوجها إذا أمسكت عن الكذب. وكان يسجل أكاذيبها بثلمات يحدثها في عصا. وإذ لم يكن محتفظاً بعصا لذنوبه هو، فقد هجرها حين فاضت العصا بالثلمات. وفي أواسط أربعيناته (1560) تزوج ماريا كوك وقد بلغت السابعة عشرة، واستمع إلى دعوتها إياه للرحيل إلى بروكسل، ولم يكن باقياً له من العمر سوى ست سنوات.
ومع أن رسومه حملت الناس على تلقيبه بـ "بروجل الفلاح" فإنه كان إنساناً مثقفاً قرأ هومر وفرجل وهوراس وأوفيد ورابليه، وفي الغالب إرزمس.(13) وقد وصفه كاريل ماندر (فازاري هولندة) بأنه "هادئ، منظم، قليل الكلام، ولكنه ممتع الحديث إذا كان في صحبة، يبتهج بإفزاع سامعيه.... بقصص الأشباح والأرواح المنذرة(14). وربما كان هذا علة لقبه الثاني "بروجل المضحك". وكانت فكاهته تميل إلى الهجاء ولكنه خفف بالعطف، وفي حفر معاصر يبدو في لحية كثة ووجه يحمل سمات التفكير الجاد(15). وكان أحياناً يقتدي ببوش في نظرته إلى الحياة على أنها اندفاع معظم النفوس إلى الجحيم دون مبالاة. وفي لوحته المسماة "دوللي جريت" صور الجحيم تصويراً بشعاً مشوشاً



كما يفعل بوش نفسه، وفي لوحته "انتصار الموت" لم يتخيل الموت نوماً طبيعياً لأجساد مكدودة، بل تقطيعاً بشعاً للأطراف والحياة- هياكل عظمية تهاجم الملوك والكرادلة والفرسان والفلاحين بالسهام والبلط والأحجار والمناجل- ومجرمين تدق أعناقهم أو يشنقون أو يوثقون إلى عجلة التعذيب- وجماجم وجثثاً تركب عربة؛ هنا مثل مغاير آخر ل "رقصة الموت" التي تسري وسط فن هذا العهد القاتم.
وتواصل صور بروجل الدينية هذا المزاج الجاد. فهي خلو من فخامة الصور الإيطالية ومن جمالها الرشيق على السواء، وليست سوى ترجمة جديدة لقصة الكتاب المقدس بلغة المناخ والملامح والثياب الفلمنكية. وندر تكشف عن عاطفة دينية، وأكثرها معاذير لتصوير الجماهير. وحتى الوجوه في هذه الصور خلو من العواطف، فترى الناس المتدافعين بالمناكب ليشاهدوا المسيح وهو يحمل صليبه وكأنهم لا يبالون بآلامه، إنما هم تواقون لاتخاذ موقف يشهدون منه المنظر بوضوح. وبعض هذه الصور أمثال من الإنجيل كصورة "الزارع"، وبعضها يقلد بوش فيتخذ الأقوال المأثورة موضوعاً له. فصورة "عميان يقودون عمياناً" ترينا صفاً من الفلاحين لهم عيون ذابلة. وفيهم قبح شنيع، يتلو بعضهم بعضاً في طريقهم إلى مصرف للمياه. ولوحة "الأمثال الهولندية"، توضح في صورة مكتظة واحدة، قرابة مائة من الأقوال المأثورة القديمة، بعضها تشم فيه عبير الحكم الرابليه.
كان هم بروجل الأكبر تصوير جماهير الفلاحين، والمناظر التي تنتظم بخيرها وشرها على السواء أنشطة البشر العقيمة المغتفرة. ولعله ظن أن في تصوير الجماهير سلامة، فلا حاجة به عند تصويرها لأن يميز الوجوه أو يشكل الأجساد. وقد أبى أن يصور شخصاً يجلس أو يقف أمامه خدمة للفن أو للتاريخ ، وآثر أن يظهر الرجال والنساء والأطفال يمشون


ويجرون ويقفزون ويرقصون ويلعبون بكل ما في الحياة من ألوان الحركة والفطرة. وقد رجع إلى مشاهد طفولته، وأمتعه أن يتأمل ويشارك في مباهج الفلاحين وولائمهم وموسيقاهم وأعراسهم. وكان في عدة مناسبات يصطحب صديقاً ويتنكران في زي مزارعين ليحضرا أسواق القرية وأفراحها، ثم يقدمان الهدايا للعروسين متظاهرين بأنها من أقربائهما(17). ولا شك أن بييتر كان في هذه النزهات يحمل كراسته لأن بين رسومه الباقية كثيراً مما تظهر فيه وجوه الفلاحين وأحداث الريف. ولم يكن ذوقه يسيغ النبلاء الذين وجد مور وتيشان في تصويرهم مجلبة للربح الوفير، ولا كلف بتصويرهم. ولم يرسم سوى بسطاء الناس، بل إن الكلاب التي رسمها كانت كلاباً حقيرة مهجنة كتلك التي تلقاها في أي زقاق بالمدينة أو كوخ بالقرية. لقد خبر الجانب المر في حياة الفلاح، وصور هذا الجانب أحياناً خليطاً محتشداً من الحمقى. ولكنه أحب رسم ألعاب الأطفال القرويين، ورقصات كبارهم، وصخب أفراحهم. وفي لوحته "أرض كوكين" ترى الفلاحين الذين أرهقهم الكد أو الحب أو الشراب منبطحين على العشب في الخلاء وهم يحملون بعالم سعيد. وكأن بروجل يقول لنا إن الفلاح دون سواه هو الذي يعرف كيف يلعب وكيف ينام، كما يعرف كيف يشتغل وكيف يتزوج وكيف يموت.
ولم ير أمام الموت غير عزاء واحد- هو أنه جزء لا يتجزأ من الطبيعة، تلك الطبيعة التي تقبلها في جميع صورها من جمال وقبح، ومن نمو وانحلال وتجدد. والمنظر الطبيعي عنده يفتدي الإنسان، وسخف الجزء يغتفر في جلال الكل. لقد كان دأب المصورين من قبله- باستثناء ألتدورفر- أن يرسموا المناظر الطبيعية خلفيات وملحقات للناس والأحداث. أما بروجل فقد جعل المنظر الطبيعي ذاته هو اللوحة، وليس الإنسان فيها سوى عرض من الأعراض. ففي لوحته "سقوط إيكاروس" ترى السماء والمحيط والجبال والشمس وقد استغرقت انتباه

المصور والمشاركين في اللوحة، أما إيكاروس فليس سوى ساقين غير ملحوظتين تغوصان في البحر بشكل مضحك. وفي لوحته "العاصفة" لا تكاد ترى الإنسان، فهو ضائع عاجز بين حرب العناصر وبطشها.
ويبلغ فن بروجل وفلسفته قمتهما في اللوحات الخمس الباقية من مجموعة خططها لبيان تقلبات العام. ففي لوحة "حصاد القمح" يصور تخطيطياً قطع حزم القمح وتكديسها، وترى فيها العمال يتناولون غداءهم أو يرقدون في إغفاءة في قيظ الصيف وسكون هوائه الواضحين. وفي لوحة "حصاد الدريس" يحمل الصبيان والبنات فاكهة الحقول الخريفية في سلال على رءوسهم، ويشحذ فلاح منجله، وتقلب الدريس نسوة أشداء، ويرفعه الرجال إلى أعلى حمل العربة، وتمضغ الخيل طعامها في فترة راحة. ولوحة "عودة القطيع" نذير بقدوم الشتاء- فالسماء تكفهر والماشية تساق عائدة إلى مرابطها. وأجمل لوحات المجموعة هي "الصيادون في الثلوج"، وفيها ترى الأسطح والأرض بيضاء ناصعة، والمساكن تنتظم في منظور مدهش على طول السهول والتلال، والرجال يتزلقون ويلعبون الهوكي ويسقطون على الجليد، والصيادين وكلابهم ينطلقون لاقتناص الطعام، والأشجار عارية ولكن زقزقة العصافير في الأغصان تبشر بمقدم الربيع. أما لوحة "اليوم الكئيب" فهي الشتاء مكفهراً إكفهرارة الوداع. في هذه اللوحات بلغ بروجل قصاراه، ووضع سابقة لرسم مناظر الثلوج ليحتذيها فن الأراضي المنخفضة المقبل.
ولا يستطيع الحكم على هذه الصور في مرتبتها وأسلوبها الفنيين سوى رسام أو خبير. ويبدو بروجل قانعاً بأن يعطي أشكاله بعيدين، ولا يكترث لخلط الظل بمادتها، وهو يترك لخيالنا أن يضيف لبعديه

بعداً ثالثاً إن لم يكن من هذا بد. واهتمامه بالحشود أكبر من أن يتيح له الاهتمام بالأفراد، وهو يجعل كل فلاحيه تقريباً متماثلين، كتلاً غليظة من اللحم. وهو لا يزعم أنه واقعي إلا في المجموع ، وهو يضع الكثير من الناس أو الأحداث في لوحة واحدة بحيث يبدو أنه يضحي بالوحدة. ولكنه يقتنص الوحدة اللاشعورية- وحدة قرية، أو حشد، أو موجة من موجات الحياة.
فما الذي يريد أن يقوله؟ أهو ساخر فقط، ضاحك من الإنسان لأنه "فجلة مشعبة" غريبة الشكل، ومن الحياة لأنها اختيال غبي نحو الفناء؟ لقد كان يستمتع بما في رقص الفلاحين من هز عنيف، ويتعاطف مع كدهم، وينظر في مرح متسامح إلى نومهم المخمور. ولكنه لم يفق قط من تأثير بوش. فقد كان يجد لذة ساخرة كتلك التي وجدها ذلك "جيروم" المجرد من التقوى في تصوير الجانب المر من الكوميديا البشرية- المقعدين والمجرمين، المهزومين أو الداعرين، انتصار الموت الذي لا رحمة فيه. ويبدو أنه كان يبحث عن الفلاحين الدميمي الخلقة، يرسمهم رسوماً ساخرة، ولا يسمح لهم أبداً بالابتسام أو الضحك، فإذا أضفى على جلافة وجههم أي تعبير فهو تعبير اللامبالاة الغبية، والحساسية التي محتها لطمات الحياة(17). وكان يثيره ويؤلمه ذلك الجمود الذي يحتمل به المحظوظون شقاء الأشقياء، وتلك السرعة والراحة التي ينسى بها الأحياء الأموات. وكان يحزنه منظور الطبيعة الشاسع- تلك السماء الهائلة التي تبدو تحتها كل الأحداث البشرية غارقة في الضآلة، وتلوح الفضيلة والرذيلة، والنمو والانحلال، والشرف والخسة، مضيعة في عبث مترامٍ لا يفرق ولا يميز، والإنسان قد ابتلعه منظر العالم.
ولا ندري أهذه فلسفة بروجل الحقيقية أم أنها دعابة فنه لا أكثر.


كذلك لا ندري لم كف عن المعركة بهذه السرعة وقضى وهو بعد في التاسعة والأربعين (1569). ولعله لو مد في أجله لخفقت السنون من غضبه. وقد أوصى لزوجته بلوحة غامضة هي "الطريق المرح إلى المشنقة"، وهي تشكيل رائع في ألوان خضراء نضرة وزرقاء نائية، والفلاحون يرقصون قرب مشنقة القرية ومن فوقها حط طائر العقعق، ويرمز به للسان الثرثار.

يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق