إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 29 أبريل 2014

1332 قصة الحضارة ( ول ديورانت ) قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> معارضة الإصلاح البرو -> الكنيسة والإصلاح -> إجناتيوس لويلا 4- إجناتيوس لويولا


1332

قصة الحضارة ( ول ديورانت )

 قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> معارضة الإصلاح البرو -> الكنيسة والإصلاح -> إجناتيوس لويلا

4- إجناتيوس لويولا


ولد الدون إينيجو دي أونيز اللويولي في قلعة لويولا بإقليم جويبوزكوا، وهو من أقاليم الباسك، في عام 1491. وكان أحد ثمانية أبناء وخمس بنات للدون بلتران دي أونيز اللويولي، الذي ينتمي غلى طبقة النبلاء الأسبان العظام. وقد ربى الصبي ليكون جندياً، لذلك لم يتلق من التعليم المدرسي إلا القليل، ولم يبد ميلاً إلى الدين. واقتصرت قراءاته على قصة "أماديس

الغالي" وأشباهها من روايات الفروسية. ولما بلغ السابعة أرسل ليكون تابعاً للدون جوان فيلاسكويز دي كويللار، وبفضله أتيح له بعض الاتصال بالبلاط الملكي. وحين بلغ الرابعة عشرة أحب جرمين دفوا. الملكة الجديدة لفيناند الكاثوليكي، ولما حان وقت تقليده رتبة الفروسية اختارها مليكة له، ولبس شعارها، وحلم بالفوز بمنديل مخرم من يدها جزاء انتصاره في مباراة للفروسية(27). على أن هذا لم يمنعه من الدخول في الغراميات والمشاجرات العارضة التي كانت نصف حياة الجندي. ولم يحاول إخفاء هذه الأعمال الطائشة الطبيعية في سيرته الذاتية، البسيطة الأمينة، التي أملاها في 1553-56.
ثم انتهى شبابه الخلي حين عين للخدمة العسكرية العامة في بانبلونة عاصمة نافار. وهناك أنفق أربع سنوات يحلم بالمجد ولا يفتح عينيه إلا على حياة رتيبة. وواتته الفرصة لكي يثبت كفايته، فقد هاجم الفرنسيون بانبلونة، وشدت بسالة إينيجو أزر المدافعين، ولكن العدو استولى على القلعة، وأصيبت ساق إينيجو اليمنى بكسر من قذيفة مدفع (20 مايو 1521). وترفق المنتصرون به، وجبروا عظامه، وأرسلوه على نقالة إلى حصن أسلافه. ولكن العظام أخطئ جبرها، فاقتضى الأمر كسرها وجبرها من جديد. ثم تبين أن العملية الثانية أسوأ من سابقتها، لأن جدعة من العظم برزت من الساق. واستقامت العظام بعد عملية ثالثة، ولكن الساق أصبحت الآن أقصر مما ينبغي. وظل إينيجو الأسابيع يعاني عذاب جبيرة جعلته ضعيفاً عاجزاً يشكو ألماً لا يبرحه.
وخلال أشهر النقاهة الطويلة المملة طلب كتباً، لا سيما قصة مثيرة عن الفروسية والأميرات اللاتي يتهددن بالخطر. ولكن مكتبة القلعة لم يكن بها سوى كتابين لا ثالث لهما: أولهما "حياة المسيح" بقلم لودلفوس، أما الثاني فيحكي سير القديسين. Flos sanctorum، وضاق الجندي ذرعاً بالكتابين أول الأمر، ثم تسلطت عليه صورتا المسيح ومريم،


وتبين له أن أساطير القديسين لا تقل عجباً عن ملاحم الحب النبيل والحرب، ففرسان المسيح هؤلاء هم من كل الوجوه أبطال كفرسان قشتالة. وتكونت في عقله شيئاً فشيئاً فكرة مؤداها أن أنبل الحروب هي حرب المسيحية مع الإسلام. وجعلت جدة الإيمان الأسباني الدين عنده، كما جعلته عند دومنيك من قبل، لا تعبداً هادئاً كتعبد الراهب الألماني توماس أكمبيس، ولكن رغبة مشوبة في الصراع، بل حرباً مقدسة. وصمم على الذهاب إلى بيت المقدس وتحرير الأماكن المقدسة من سيطرة غير المسيحيين. وذات ليلة ظهرت له العذراء وابنها في رؤيا، وبعدها (كما أخبر الأب جونزاليز فيما بعد) لم يهاجمه قط أي إغراء جنسي(28). ونهض من فراشه، وجثا على ركبتيه، وأقسم أن يكون جندياً للمسيح ومريم حتى الموت.
وكان قد قرأ أن الكأس المقدسة خبئت مرة في قلعة بمونتسرات في إقليم برشلونة. هنالك، كما ورد في أشهر الروايات قاطبة، قضى أماديس ليلة بطولها ساهراً أمام صورة العذراء تأهباً للفروسية. وما إن وجد إينيجو في نفسه القدرة على السفر حتى امتطى بغلاً وانطلق إلى ذلك المزار البعيد. وظل حيناً يرى في نفسه جندياً مرتدياً شكة النزال. ولكن القديسين الذين قرأ أخبارهم لم يحملوا سلاحاً ولا درعاً، إنما كانت عدتهم أفقر الثياب وأرسخ الإيمان. فلما بلغ مونتسرات طهر روحه بالاعتراف والتكفير ثلاثة أيام، ثم خلع ثيابه الغالية على شحاذ، وارتدى عباءة حاج من قماش خشن. وقضى طوال ليلة 24-25 مارس 1522 وحيداً في كنيسة صغيرة بدير بندكتي، راكعاً أو واقفاً أمام مذبح العذراء. وأخذ على نفسه العهد بحياة العفة والفقر الدائمين. وفي صباح الغد تناول القربان، وأعطى بغله للرهبان، ثم انطلق إلى أورشليم وهو يعرج على قدمه.


كانت أقرب المواني إليه برشلونة، وفي طريقه إليها توقف عند قرية مانريزا. ودلته عجوز على مغارة يأوي إليها. فجعلها مسكنه أياماً، وإذ كان حريصاً على أن يبز القديسين في نسكهم، فقد مارس هناك من التقشف الصارم ضروباً كادت تقضي عليه. وفي ندمه على ما أسلف من خيلاء بمظهره، كف عن تنظيف شعره أو قصه أو تمشيطه-فسقط بعد قليل. وأبى أن يقص أظافره أو يستحم أو يغسل يديه أو وجهه أو قدميه(29)، وعاش على ما وسعه استجداؤه من طعام، إلا أن يكون لحماً؛ وكان يصوم أياماً بطولها، ويصوم نفسه ثلاث مرات في اليوم، وينفق الساعات في الصلاة كل يوم. وأمرت امرأة تقية بنقله إلى بيتها مخافة أن يؤدي هذا التقشف الصارم بحياته، وهناك مرضته حتى استعاد عافيته. ولكنه عاود جلد نفسه حين نقل إلى قلاية في دير دومنيكي بمانريزا. لقد أرعبته ذكرى ذنوبه الماضية، فشن الحرب على جسده باعتباره الأدلة لذنوبه، وصمم على أن ينتزع بالجلد كل فكرة خطيئة من جسده. وبدا الصراع أحياناً ميئوساً منه. ففكر في الانتحار. وهنا جاءته الرؤى التي شددته، واعتقد وهو يتناول القربان مرة أنه لا يرى قربانة بل المسيح الحي، وفي مرة أخرى ظهر له المسيح وأمه، ومرة رأى الثالوث، وفهم- بومضة من بصيرته يقصر دونها اللفظ أو الفكر- سر الأقانيم الثلاثة في الإله الواحد، وفي "مرة أخرى" كما يروي "أذن الله أن يفهم كيف خلق العالم"(30). وأبرأت هذه الرؤى الصراع الروحي الذي ابتعثها، فطرح وراء ظهره كل قلق بسبب حماقات شبابه، وخفف من غلواء نسكه، وإذ قهر جسده فقد استطاع الآن أن يطهره دون غرور. ومن خبرة هذا الصراع الذي امتد قرابة عام وضع "الرياضيات الروحية" التي يمكن أن يخضع فيها الجسد الوثني للإرادة المسيحية. ورأى أن في وسعه الآن أن يمثل أمام المزارات المقدسة في أورشليم.


وأبحر من برشلونة في فبراير 1523. وفي طريقه تخلف أسبوعين في روما، ثم لاذ بالفرار قبل أن تثنيه روحها الوثنية عن طريق القداسة. وفي 14 يوليو استقل سفينة من البندقية إلى يافا. وأصابته خطوب كثيرة قبل أن يبلغ فلسطين، ولكن رؤاه المتصلة شدت من أزره. وكانت أورشليم نفسها إحدى المحن، فالترك الذين يسيطرون عليها يسمحون للزوار المسيحيين بدخولها، ولكنهم يمنعون التبشير فيها، وحين اقترح إينيجو تحويل المسلمين إلى المسيحية برغم هذا الحظر، أصدر الرئيس الفرنسسكاني المحلي، الذي وكل إليه البابا حفظ السلام هناك، أمراً للقديس بالعودة إلى أوربا. وفي مارس 1524 عاد إلى برشلونة.
ولعله أحس الآن أنه وإن كان سيداً على جسده فإنه عبد لأوهامه. فصمم على تهذيب عقله بالتعليم. واشترك مع تلاميذ المدارس في تعلم اللاتينية مع أنه كان في الثالثة والثلاثين. ولكن شهوة التعليم كانت فيه أقوى من إرادة التعلم. وسرعان ما بدا إجناتيوس-وهو اسمه المدرسي-في تبشير لفيف من النساء التقيات الفاتنات. وندد به عشاقهن مفسداً لمتعتهم وضربوه ضرباً وحشياً. فانتقل إلى القلعة (1526)، وعكف على دراسة الفلسفة واللاهوت وهنا أيضاً راح يعلم جماعة خاصة صغيرة جلها من فقيرات النساء، فيهن نفر من البغايا المتعطشات إلى الخلاص. وحاول أن ينتزع منهن ميولهن الخاطئة بالرياضة الروحية، ولكن بعض تلميذاته أصابتهن نوبات أو غشيات، فاستدعته محكمة التفتيش للمثول أمامها. وأودع السجن شهرين(31)، ولكنه في النهاية أقنع المفتشين بسلامة عقيدته، فأفرج عنه، غير أنه منع من التعليم. ومضى إلى سلمنقه (1517)، وجاز تجربة مماثلة انتقل فيها من مرحلة التعليم إلى المحاكمة أمام محكمة التفتيش، إلى السجن، إلى الإفراج ثم إلى الكف عن التعليم. فلما خاب ظنه في أسبانيا، يمم شطر باريس، دائماً سيراً على الأقدام في رداء الحاج، سائقاً أمامه الآن حماراً يحمل أسفاراً.

وفي باريس عاش في ملجأ الفقراء، وكان يستجدي في الشوارع طعامه ونفقة تعليمه. ودخل كلية مونتيجي، حيث كان بوجهه الشاحب المهزول، وبدنه الأعجف، ولحيته المهوشة، وثيابه العتيقة، محط الأنظار غير العطوفة، ولكنه واصل السعي إلى أهدافه في حرص ملك عليه حواسه حتى أن بعض الطلبة بدأوا ينزلونه منزلة القديس. فمارسوا بإرشاده ألوان الرياضة الروحية من صلاة وتفكير وتأمل. وفي عام 1529 انتقل إلى كلية سانت-بارب، وهناك أيضاً التف حوله نفر من التلاميذ. وانتهى مساكناه بطريقتين مختلفتين إلى الإيمان بقداسته. فأما بيير فافر، الذي كان من قبل راعياً في إقليم السافو الألبي، فكان يتعذب عذاباً مبرحاً من مخاوف وهمية أو واقعية، وبتأثيرها نذر حياة العفة الدائمة. وكان يخفي الآن وهو في العشرين تحت طباعه المهذبة روحاً تكافح مغريات الجسد كفاحاً محموماً، ومع أن إجناتيوس لم يدع لنفسه توقد الذكاء، فقد كان يملك القدرة على الإحساس بحياة الآخرين الداخلة بفضل شفافية حياته. وعلى فقد حدس مشكلة صديقه الشاب، وأكد له أن نزعات الجسد يمكن السيطرة عليها بالإرادة المدربة. وكيف تدرب الإرادة؟ أجاب إجناتيوس، بالرياضة الروحية. وراحا يمارسان هذه الرياضة معاً.
وأما نزيل غرفته الآخر، واسمه فرانسوا زافير، فكان أصله من بنبلونة حيث مارس لويولا الجندية، وسليل عدد كبير من الأسلاف النابهين، وسيماً، غنياً، فخوراً، فتى مستهتراً، مرحاً، عليماً بحانات باريس وبناتها(32). وسخر الفتى من صاحبيه الزاهدين وراحي يباهي بما أصاب من توفيق مع النساء. على أنه كان ذكياً في دراساته(32)، حصل من قبل على درجة الأستاذية، وهو يحضر الآن للدكتوراه. وذات يوم رأى رجلاً نقر الزهري وجهه، فأوقفه المنظر ملياً. وبينما كان مرة يفيض في الحديث عما يجيش في صدره من طموح للشهرة والمجد، ذكر له إجناتيوس في هدوء هذه الآية من الإنجيل: "ماذا ينتفع الإنسان لو ربح



العالم كله وخسر نفسه؟"، وساء السؤال زافير، ولكنه لم يستطع نسيانه. فبدأ ينضم إلى لويولا وفابر في رياضتهما الروحية، ولعل كبرياءه دفعته إلى مباراة زميله في القدرة على احتمال الحرمان والبرد والألم. وراحوا يجلدون أنفسهم، ويصومون، وينامون في قمص رقيقة على أرض حجرية غير مدفأة، ويقفون حفاة عراة تقريباً على الثلوج ليخشنوا أجسادهم وليخضعوها في الوقت ذاته، وبلغت التدريبات الروحية التي بدأت في مانريزا شكلاً أكثر تحدداً. وصاغتها إجناتيوس في كتيب على غرار "رياضة الحياة الروحية" (1500) الذي وضعه الدون جارسيا دي كزنيروس، رئيس دير مونسترات البندكتي(33)، ولكنه سكب في هذا القالب من حرارة العاطفة والخيال ما جعل كتيبه قوة محركة في التاريخ الحديث. وكانت نقطة البداية التي انطلق منها لويولا هي عصمة الكتاب المقدس والكنيسة، فهو يرى أن الحكم الفردي في الدين إنما هو ادعاء باطل مولد للفوضى تدعيه عقول ضعيفة متكبرة. "علينا دائماً أن نكون على استعداد للإيمان بأن ما يبدو لنا أبيض إنما هو أسود إذا عرفته كذلك الكنيسة ذات الكهنوت المسلسل(34)" وعلينا إذا أردنا تجنب الهلاك الأبدي أن ندرب ذواتنا على أن نكون خداماً ممتثلين لله، وللكنيسة التي استخلفها الله على الأرض.
أما أول تدريب روحي فهو تذكرنا خطايانا الكثيرة، والتفكر في مقدار العقوبة الذي تستحقه. لقد حكم على الشيطان بالجحيم لخطيئة واحدة، أفليست كل خطية نقارفها تمرداً على الله كتمرد الشيطان؟ فلنحتفظ بحساب يومي لذنوبنا بعلامات على سطور تمثل الأيام، ولنحاول كل يوم أن ننقص عدد هذه العلامات. وفيما نحن راكعون في حجرتنا أو صومعتنا بعد إظلامها، لنتخيل الجحيم بأجلى ما نستطيع؛ يجب أن نستحضر كل فظائع هذه النار التي لا تموت، يجب أن نتصور عذاب


الهالكين، ونسمع صرخات الألم وصيحات اليأس المنبعثة منهم؛ يجب أن نشم الأبخرة المنتنة التي تتصاعد من الكبريت واللحم المحترقين؛ يجب أن نحاول الإحساس بألسنة اللهب تلك وهي تلذع أجسادنا؛ ثم يجب أن نسأل أنفسنا، كيف السبيل إلى النجاة من هذا العذاب الأبدي؟ لا سبيل إلا تضحية الفداء التي قدمها الله نفسه في المسيح على الصليب . فلنتأمل إذن حياة المسيح، في كل دقائقها، علينا أن نكون حضوراً بالخيال في تلك الأحداث التي هي أعمق الأحداث في تاريخ العالم. يجب أن نجثو في الخيال أمام الأشخاص المقدسين في تلك الملحمة الإلهية، وأن نلثم هدب أثوابهم. وبعد أن ننفق أسبوعين في مثل هذه التأملات يجب أن نصحب المسيح في كل خطوة من خطوات آلامه، في كل مرحلة من مراحل الصليب؛ نصلي معه في جثسيماني، ونشعر بأننا نجلد معه، ويبصق علينا، ونسمر على الصليب، يجب أن نقاسي كل لحظة من لحظات عذابه، أن نموت معه، وأن نقبر معه. وفي الأسبوع الرابع يجب أن نتخيل أنفسنا وقد قمنا منتصرين من القبر، وصعدنا أخيراً معه إلى السماء. وإذ تشددنا هذه الرؤية المباركة، فستكون على أهبة الانخراط جنوداً مكرسين في المعركة لهزيمة الشيطان وبح النفوس للمسيح، وفي تلك الحرب المقدسة سنحتمل باغتباط كل ما نلقى من شدائد وننفق حياتنا في بهجة وفرح.
ووجدت هذه الدعوة للتعبد الممتد طوال الحياة تسعة طلاب في باريس على استعداد لقبولها. ولعل هؤلاء الشبان الجادين، الذين شعروا لأول مرة بما في العالم من غموض محير، وتاقت نفوسهم لمرساة من الإيمان والأمل وسط خضم من الشكوك والمخاوف-نقول لعلهم دفعوا بثقل المطالب


الملقاة على كواهلهم إلى المشاركة بمصيرهم وحياتهم وخلاصهم في خطة لويولا. فاقترح أن يذهبوا معاً في الوقت المناسب إلى فلسطين، ويحيوا هناك حياة أقرب ما تكون غلى حياة المسيح. وفي 15 أغسطس 1534 اجتمع لويولا، وفافر، وزافير، ودييجو لاينيز، وألونسو ساليرون، ونيكولا بوباديللا، وسيمون رودريجيز، وكلود لوجي، وجان كودير، وباسكاز برويه-اجتمع هؤلاء العشرة في كنيسة صغيرة بمونمارتر، ونذروا حياة العفة والفقر، وأخذوا العهد على أنفسهم بالذهاب إلى الأراضي المقدسة والعيش فيها بعد قضاء عامين آخرين في الدرس. ولم يكن لديهم إلى الآن فكرة واضحة عن مكافحة البروتستنتية، وبدا الإسلام لهم تحدياً أعظم. ولم يكن بهم ميل إلى المجادلات اللاهوتية. فهدفهم إنما هو حياة القداسة، وحركتهم تمد جذورها في تربة الصوفية الأسبانية لا صراعات العصر الفكرية. وخير حجة يقدمونها هي التقي والورع.
وفي شتاء 1536-37 اخترقوا فرنسا سيراً على الأقدام، وعبروا الألب، ثم إيطاليا غلى البندقية حيث كانوا يأملون العثور على سفينة تحملهم إلى يافا. ولكن البندقية كانت تخوض حرباً مع الترك. فاستحال عليهم السفر. وخلال فترة التخلف التقى إجناتيوس بكارافا، وانضم حيناً إلى التياتين. وكانت لخبرته مع هؤلاء القساوسة الأتقياء بعض الأثر في تغيير خطته من العيش في فلسطين إلى خدمة الكنيسة في أوربا. واتفق هو وتلاميذه على أن يتقدموا للبابا طالبين أداء أي خدمة يكلها إليهم، إذا انقضت عليهم في هذا الانتظار سنة دون أن ينفتح أمامهم الطريق إلى فلسطين. وحصل فافر على إذن لهم جميعاً برسامتهم قساوسة.
كان لويولا قد بلغ إذ ذاك السادسة والأربعين، أصلع الرأس به عرج خفيف لم يفارقه إثر جرحه. وما كان له بقامته التي لم تزد على

خمسة أقدام وبوصتين أن يقع من نفوس ناظريه أي موقع لولا رهافة أرستقراطية في قسمات وجهه، وتدبب في أنفه وذقنه، ولولا ما في عينيه من سواد ونفاذ وعمق واكتئاب، وما في طلعته من رزانة وعزم؛ وكان قد غدا القديس المستغرق في تأملاته، العازف عن الفكاهة. لم يكن مضطهداً لخصوم الدين، ومع أنه وافق على وجود محكمة التفتيش(35) فقد كان ضحيتها أكثر منه عميلها. كان صارماً في عطف، بخدم المرضى عن طيب خاطر في المستشفيات وإبان تفشي الطاعون، حلمه أن يربح نفوساً بالإيمان لا بالنار أو السيف بل بالسيطرة على الخلق في الشباب الطيع وتشكيله تشكيلاً ثابتاً في الإيمان. ولم يكن هذا المؤسس لأنجح نظم التربية في التاريخ شديد التأكيد على العلم أو الذكاء. لم يكن لاهوتياً، ولم يشترك في مجلدات الكلاميين أو تدقيقاتهم؛ وقد أثر الإدراك الحسي المباشر على الفهم العقلي. ولم يرى ضرورة للجدل حول وجود الله، ومريم والقديسين، فقد كان مقتنعاً بأنه رآهم، وأحس بهم أقرب إليه من أي شيء أو شخص في محيطه، وكان على طريقته رجلاً ثملاً بمعرفة الله ومحبته. ومع ذلك فإن تجاربه الصوفية لم تجعل منه رجلاً غير عملي. لقد كان في وسعه أن يجمع بين مرونة الوسائل وصلابة الغايات، يأبى تبرير أي وسيلة لغاية يراها حسنة، ولكن في مقدوره أن يتريث حيناً للفرصة. ويعتدل في آماله ومطالبه، ويلائم بين أساليبه والأشخاص والأحوال، ويستعمل الدبلوماسية إذا اقتضى الأمر استعمالها، ويرى الرأي الثاقب في الرجال، ويحسن اختيار مساعديه وعماله، ويسوس الرجال كأنه قائد يقود فرقة عسكرية-وهو ما كان يراه في نفسه فعلاً. وقد أطلق على فرقته الصغيرة اسماً حربياً "فرقة يسوع"، ولا عجب، فهم جند تطوعوا مدى الحياة لمحاربة الإلحاد وانحلال الكنيسة. أما هم فقد قبلوا النظام العسكري للعمل المنسق تحت قيادة مطلقة، باعتبار هذا القبول أمراً طبيعياً وضرورياً.


وفي خريف 1537 خرج لويولا وفاقر ولاينيز من البندقية قاصدين روما ليلتمسوا موافقة البابا على خططهم. وقطعوا الطريق كله سيراً، يستجدون طعامهم ويعيشون أكثر الوقت على الخبز والماء. ولكنهم كانوا يترنمون بالمزامير في سعادة وهم ماضون في رحلتهم، وكأنهم عليمون بأن فئتهم هذه الصغيرة ستنبثق منها منظمة قوية رائعة.

يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق