إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 29 أبريل 2014

1262 قصة الحضارة ( ول ديورانت ) قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> إدوارد السادس وماري -> الملكة الرقيقة 3- الملكة الرقيقة (1553 - 54)





1262


قصة الحضارة ( ول ديورانت )

 قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> إدوارد السادس وماري -> الملكة الرقيقة

3- الملكة الرقيقة


(1553 - 54)


لابد لكي نفهمها من أن نكون قد عشنا معها شبابها المأساوي الذي لم تذق خلاله قط طعماً للسعادة. ولم تكن تتجاوز الثانية من عمرها (1518)، عندما شغل أبوها بالحظايا، وأهمل أمها المحزونة. وكانت في الثامنة عندما طلب إعلان بطلان زواجه، وفي الخامسة عشرة عندما افترق والداها، وذهب كل من الأم والبنت إلى منفى منفصل. ومنعت الابنة من الذهاب إلى أمها حتى وهي تحتضر(22). وأعلن أن ماري ابنه سفاح بعد مولد اليزابث (1533) وجردت من لقبها كأميرة. وخشي سفير الإمبراطور أن تسعى آن بولين إلى قتل ابنة غريمتها المنافسة لها على العرش. وعندما انتقلت إليزابث إلى هاتفيلد أجبرت ماري على أن تذهب إلى هناك لخدمتها وأكرهت على أن تعيش في "أسوأ غرفة في البيت(23") وأخذ منها خدمها، واستبدل بهم آخرون، يخضعون لمس شلتون أف هاتفيد التي قالت لها تذكرها بأنها ابنة سفاح: "لو كنت في موضع الملك لطردتكِ من بيت الملك لعدم طاعتكِ". وأخبرتها أن هنري قد عبر عن عزمه على قطع رأسها(34).


وكانت ماري مريضة طوال ذلك الشتاء الأول الذي قضته في هاتفيلد (1534)، وتحطمت أعصابها بسبب الإهانة والخوف وكادت تشرف على الموت جسماً وروحاً على غير كره منها. ثم رق لها الملك ومنحها بعض محبته إلى حين، ونعمت بوضع ميسور في باقي أيام حكمه. ولكن طلب منها أن توقع إقراراً بسيادة هنري الكنسية وبأن "زواج أمها من قبيل سفاح ذوى القربى" وبأن ميلادها غير شرعي(25) وذلك ثمناً لهذه الرقة القاسية.
وتأثر جهازها العصبي على الدوام بهذه المحن، و"كانت عرضة لأن تشكو من قلبها(26)" وظلت صحتها ضعيفة حتى آخر يوم في حياتها. وعاودتها شجاعتها عندما أعلن المجلس النيابي في عهد حماية سومرست أنها ولية العهد. ولقد نشأت عقيدتها الكاثوليكية، في طفولتها مشبعة بحرارتها الاسبانية، وقويت بما أثارته حياة أمها ومماتها في نفسها من ألم، وكانت عوناً ثميناً لها في أحزانها، فرفضت أن تتخلى عنها عندما حومت على حافة السلطة، وعندما أمرها مجلس الملك أن تكف عن سماع القداس في حجراتها (1549) لم تذعن لأمره. وأغضى سومرست عن مقاومتها، ولكن سومرست سقط، وصدق أخوها الملك على الأمر، وأرسل ثلاثة من خدمها إلى سجن البرج بسبب تجاهله (1551)، وأخذ منها القس الذي رتل لها القداس، ووافقت آخر الأمر على أن تكف عن ممارسة الشعيرة المحبوبة. وعندما تحطمت روحها طلبت من سفير الإمبراطور أن يدبر لها الهرب إلى القارة، ورفض الإمبراطور الحذر أن يجيز الخطة، وخاب فألها.
وجاءت لحظة انتصارها أخيراً عندما عجز نورثمبرلاند عن أن يجد رجلاً يحارب ضدها، ولم يطلب الذين أقبلوا المدججين بالسلاح لمناصرة قضيتها أي أجر، بل إنهم أحضروا معهم مؤنهم، وعرضوا عليها ثرواتهم لتمويل الحملة. وعندما دخلت لندن كملكة (3 أغسطس سنة 1553) هبت تلك المدينة نصف البروتستانتية للترحيب بها بالإجماع. وجاءت اليزابث تمشي على


استحياء لملاقاتها عند أبواب المدينة، وهي تتساءل على تتمسك ضدها بالشتائم التي تعرضت لها باسم اليزابث. ولكن ماري حيتها بقبلة حارة وقبلت جميع السيدات المرافقات لأختها غير الشقيقة. وكانت إنجلترا سعيدة كما كانت عندما ارتقى العرش هنري الثامن وهو شاب وسيم كريم.
كانت ماري وقتذاك في السابعة والثلاثين من عمرها، وكان الزمن القاسي قد ترك على وجهها خطوطاً تنذر بالذبول. وقلما مرت بها سنة كاملة دون أن تصاب بمرض خطير. وكانت تشكو من الاستسقاء وسوء الهضم ونوبات صداع تحطم الرأس، وعولجت مراراً بالحجامة مما تركها عصبية شاحبة. وأدى تكرار انقطاع الطمث عنها إلى استغراقها أحياناً في حزن هستيري مصحوب بخوف من آلا تحمل أبداً(27). وكان جسدها وقتذاك نحيلاً هزيلاً وجبينها ممتلئاً بالتجاعيد وشعرها المائل للاحمرار تتخلله شعرات بيضاء وعيناها ضعيفتين جداً إلى حد أنها لم تكن تستطيع القراءة إلا إذا أمسكت بالصحيفة قرب وجهها. وكانت تقاطيعها واضحة، تكاد تشبه تقاطيع الرجال، وكان صوتها عميقاً كصوت الرجل، وقد وهبتها الحياة كل ما فيها من وهن وحرمتها من المفاتن ومن الأنوثة. وكانت لديها بعض المواهب الأنثوية، فكانت تحيك في جلد وتطرز بمهارة وتعزف على العود، وأضافت إلى هذه المواهب معرفة باللغات الأسبانيّة واللاتينية والإيطالية والفرنسية. وكان يمكن أن تكون امرأة صالحة لو لم تلحقها لعنة اليقين اللاهوتي والسلطة الملكية. وكانت أمينة إلى درجة البساطة، عاجزة في مجال الدبلوماسية ومتلهفة إلى درجة يرثى لها لأن تحب وتكون محبوبة. وكانت تتعرض لسورات غضب ولها لسان سليط. وكانت عنيدة ولكنها لم تكن متكبرة، وأدركت قصور قدراتها الذهنية وأصاخت السمع للنصيحة في تواضع. ولم تكن تلين لها قناة إذا كان الأمر يتعلق بعقيدتها فحسب، وفي غير هذه الحالة كانت حليمة حنوناً وحرة الفكر مع التعساء، وتواقة إلى رفع الحيف الذي تسببت فيه


أخطاء القانون، وكثيراً ما زارت بيوت الفقراء وهي متنكرة وجلست وتحدثت مع ربات البيوت وسجلت مذكرة بالحاجات والمظالم وقدمت كل ما في وسعها من مساعدة(28). وأعادت إلى الجامعات الهبات التي اختلسها منها أسلافها.
وطهر أحسن جانب من خلقها في التسامح النسبي في أول عهدها، فهي لم تطلق سراح جاردنر وبونر وغيرهما ممن سجنوا لرفضهم قبول اعتناق البروتستانتية فحسب، بل إنها صفحت تقريباً عن كل مَن حاولوا أبعادها عن العرش، ومهما يكن من أمر فإنها أجبرت بعض هؤلاء، مثل الدوق أف سفولك، على دفع غرامات باهظة للخزانة، ثم خفضت الضرائب تخفيضاً جوهرياً بعد تقديم هذه المساعدة إلى الدخل. ومنحت جوازات أمان لبيتر مارتير وغيره من البروتستانت الأجانب لكي يغادروا البلاد. وعقد مجلس الملكة محاكمة عاجلة لنورثمبرلاند وستة آخرين تآمروا على القبض على ماري، وتوجوا جين جراي، وحكم على السبعة جميعاً بالموت. وأبدت ماري رغبتها في الصفح عن نورثمبرلاند، ولكن سيمون رينار سفير الإمبراطور وقتذاك أثناها عن عزمها، وقام الثلاثة الذين لم يصفح عنهم جميعاً باعتناق عقيدة الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في آخر لحظة. ووصفت جين جراي الحكم بالعدل والاعترافات بالجبن(29).
وكان من رأي ماري أن تطلق سراحها، ولكنها أذعنت لآراء مستشاريها إلى حد بعيد وأمرت بأن تبقى طليقة من كل قيد في الاعتقال داخل أراضي سجن البرج(30).
وأصدرت الملكة في 13 أغسطس إعلاناً رسمياً بأنها لن "تكره الضمائر أو تلزمها" بشيء في مسألة المعتقد الديني(31)، وكان هذا أحد الإعلانات الأولى في التسامح الديني تصدره حكومة حديثة. وكانت تأمل في براءة أن



تحول البروتستانت بالحجة فنظمت مناظرة عامة بين علماء اللاهوت المتعارضين في الرأي، ولكنها تبخرت في جدل مرير عقيم. وبعد ذلك بوقت قصير قذف واعظ الأسقف بونر بخنجر انطلق من جمهور استاء من وعظه الكاثوليكي، وأنقذه من الموت اثنان من رجال الدين البروتستانت(32). وراع ماري تسامحها فأمرت (18 أغسطس سنة 1553) بعدم التصريح بعظات تتعلق بالعقائد إلا في الجامعات، وذلك إلى أن يتيسر اجتماع المجلس النيابي وينظر في المشكلات التي أثارها النزاع بين العقائد. وأمر كرانمر، وكان لا يزال رئيساً للأساقفة، بملازمة قصره في لامبث، فرد على ذلك بمهاجمة القداس ووصفه بأنه "كفر بغيض"، وحكم عليه هو ولاتيمر بالسجن في البرج (سبتمبر سنة 1553). أما ريدلي أسقف لندن الذي كان قد وصف ماري وإليزابث معاً بأنهما ابنتا سفاح فكان قد ذهب إلى سجن البرج قبل ذلك بشهرين. وعلى الجملة فإن سلوك ماري في هذه الشهور الأولى من حكمها فاق في اللين والتسامح سلوك غيرها من عظماء الحكام في عصرها.
وكانت المشكلات التي واجهتها حرية بان تقهر امرأة تفوقها كثيراً من الذكاء والفطنة. وصدمت بالارتباك والفساد السائدين في الإدارة وأمرت بوقف الفساد، غير أنه أخفى رأسه ولم ينقطع. وضربت مثالاً حسناً بتخفيض نفقات الأسرة الملكية، وتعهدت بتثبيت قيمة العملة، وتركت انتخابات المجلس النيابي حرة لم تتأثر بأي نفوذ ملكي. وكانت الانتخابات الجديدة "أعدل انتخابات حدثت منذ سنوات(33)"، ولكن تخفيضها للضرائب ترك دخل الحكومة أقل من مصروفاتها، ولكي تحصل على الفرق فرضت ضريبة صادر على القماش وضريبة وارد على الأنبذة الفرنسية وأدت هذه الإجراءات التي كان ينتظر أن تساعد الفقراء إلى نكسة تجارية. وحاولت أن توقف نمو الرأسمالية بتحديد عدد ما يملكه أي فرد بنول أو اثنين. ونددت بـ "القماشين الأغنياء" بسبب دفعهم أجوراً منخفضة وحظرت دفع


الأجور عيناً(34)، ولكنها لم تجد في حاشيتها رجالاً يملكون القوة والكمال اللازمين لإنجاز إرادتها الطيبة، وتغلبت القوانين الاقتصادية على أهدافها.
بل إنها قوبلت بعقبات اقتصادية قاسية حتى في أمور الدين. ولم تكن هناك أسرة لها نفوذ في إنجلترا لا تحتفظ بأملاك انتزعتها من الكنيسة(35)، وعارضت هذه الأسر بالطبع أي عودة للعقيدة الرومانية. وكان البروتستانت أقلية من حيث العدد وأقوياء بفضل ما لديهم من مال، وكانوا بذلك في موقف يسمح لهم بأن يهيئوا في أية لحظة أسباب الثورة التي تضع إليزابث البروتستانتية على العرش.
وكانت ماري تتلهف على إعادة حق الكثالكة في العبادة طبقاً لشعيرتهم، ومع ذلك فإن الإمبراطور الذي ظل يحارب البروتستانتية اثنين وثلاثين عاماً حذرها وطلب منها أن تتحرك ببطيء، وأن تقنع بترديد القداس سراً لنفسها وفي محيطها المباشر. ولكن شعورها نحو دينها كان عميقاً ولا تستطيع أن تكون سياسية فيما يتصل به. وتعجب الجيل الذي ينزع إلى الشك الذي نشأ في لندن من كثرة صلواتها وحرارتها، ولعل السفير الإسباني اعتقد أنها تطلب أمراً إدّا عندما سألته أن يركع بجوارها ويطلب الهداية من الله. وشعرت بأن لها رسالة مقدسة تستعيد بها العقيدة التي أصبحت عزيزة عليها لأنها قاسم من أجلها. وبعثت برسول إلى البابا تطلب منه أن يرفع التحريم الذي فرضه على إقامة الصلوات بإنجلترا، ولكن عندما أبدى الكاردينال بول رغبته في الحضور إلى إنجلترا قاصداً رسولياً، اتفقت مع شارل على أن الوقت لم يحن بعد للقيام بهذه الحركة الجريئة.
ولم يكن المجلس النيابي الذي اجتمع في 5 أكتوبر سنة 1553 مجدياً بالمرة. فقد وافق على إلغاء كل تشريع يتعلق بالدين، صدر في عهد إدوارد، وخفض العقوبات المنصوص عليها في قوانين هنري الثامن وإدوارد السادس إلى ما كانت عليه من قبل. وأبلغ الملكة في تلطف أن "عدم شرعية


النسب المتعلقة بشخصكِ الأمثل" قد ألغي وأنها لم تعد ابنة سفاح، ولكنه أبى أن ينظر في إعادة أملاك الكنيسة إليها وقاوم أي تلميح إلى أن سيادة البابا يجب أن يعترف بها، وترك هذا ماري رئيسة للكنيسة الإنجليزية رغم أنفها. وبمقتضى هذه السلطة المخولة لها استبدلت بالأساقفة البروتستانت الأساقفة الكاثوليك الذين كانوا قد أقصوا عن مناصبهم، وعاد بونر أسقفاً للندن وجاردنر أسقفاً لونشستر ومشيراً مقرباً للتاج. وطرد القساوسة المتزوجون من أبرشياتهم. وسمح بإقامة القداس مرة أخرى ثم شجع، (ويقول مؤرخ بروتستانتي): "إن اللهفة التي أبدتها البلاد في الإفادة بوجه عام من الإذن بإعادة الشعيرة الكاثوليكية تدل بلا شك على أن الشعور العام كان مع الملكة(36) فيما عدا لندن وبضع مُدن كبيرة". وأعيدت العبادة الكاثوليكية إلى ما كانت عليه تماماً بمقتضى مرسوم صدر في 4 مارس سنة 1554. وعدت الهرطقات الأخرى غير شرعية وحرم كل وعظ بروتستانتي أو نشرة بروتستانتية.
وكان انزعاج الأمة بعودة التذبذب اللاهوتي أقل كثيراً من انزعاجها بخطط زواج ماري. كانت تخشى الزواج من الناحية الدستورية، ولكنها واجهت المحنة أملاً في أن تنجب وريثاً يحول دون ارتقاء اليزابث البروتستانتية العرش. وادعت ماري أنها عذراء، والراجح أنها كانت كذلك، ولعلها لو كانت قد أثمت هونا ما لكانت أقل كآبة وتوتراً ويقيناً. وأوصى مجلسها باختيار إدوارد كورتاني حفيد إدوارد الرابع، ولكن طرق عيشه المتبذلة لم تصادف هوى في نفس ماري، وعندما رفضته دبر أن يتزوج اليزابث، ويخلع ماري ويولي اليزابث على العرش ويحكم إنجلترا عن طريقها- ولم يحلم قط بضآلة فرصته في السيطرة على تلك السيدة المسترجلة. وعرض شارل الخامس على ماري الزواج من ابنه فيليب الذي كان يوشك أن يوصى له بكل شيء سوى اللقب الإمبراطوري، وتعهد


بتقديم الأراضي المنخفضة لأي ولد يكون ثمرة لهذا الزواج. وتهللت ماري عندما خطر لها أن زوجها سيكون حاكماً لإسبانيا والفلاندرز وهولندة ونابلي والأمريكتين، وتدفقت دماؤها نصف الأسبانيّة ساخنة في عروقها وهي تتوقع إنشاء اتحاد سياسي وديني بين إنجلترا وإسبانيا. وأشارت في الواضح إلى أن سنها الأكبر- أكبر من فيليب بعشر سنوات- تقف عائقاً، وخشيت ألا تكفي مفاتنها الذابلة لإرضاء حيويته وشبابه أو خياله، إنها لم تكن واثقة أنها سوف تعرف كيف تطارحه الغرام(37). وكان فيليب من ناحيته يشعر بالنفور فقد أبلغه وكلاؤه الإنجليز أن ماري كانت "قديسة كاملة" وأنها ترتدي ملابس قبيحة(38)، أفلا يمكن أن يوجد شيء أكثر إغراء بين الأسر المالكة في أوربا؟ وأقنعه شارل بالإشارة إلى أن الزواج سوف يتيح لأسبانيا حليفاً قوياً ضد فرنسا وعوناً ثميناً في الأراضي المنخفضة التي كانت مرتبطة تجارياً بإنجلترا. ولعل البروتستانتية في ألمانيا يمكن قمعها بعمل موحد من أسبانيا وفرنسا وإنجلترا باعتبارها دولاً كاثوليكية؛ ثم إن المصاهرة بين آل هابسبورج وآل تيودور يؤلف قوة قادرة على منح أوربا الغربية سلاماً إجبارياً يدوم جيلاً.
وأدرك مجلس الملكة والشعب الإنجليزي قوة هذه الاعتبارات ولكنهم خشوا أن يؤدي الزواج إلى تحويل إنجلترا إلى بلد تابع لإسبانيا ويورط إنجلترا في الحروب المتكررة مع فرنسا. وواجه شارل الموقف بإجراء مضاد عرض باسم ابنه عقد زواج بمقتضاه لا يحمل فيليب لقب ملك إنجلترا إلا في حياة ماري ولها أن تحتفظ وحدها بالسلطة الملكية الكاملة على الشئون الإنجليزية ولها أن تشارك فيليب بجميع ألقابه، وإذا مات دون كارلوس (ابن فيليب من زواج سابق) دون أن يعقب ذرية ترث ماري أو ابنها الإمبراطوريّة الأسبانيّة وعلاوة على هذا أضاف الإمبراطور الداهية أن لماري الحق في أن تتلقى مدى الحياة 60.000 جنيه من


الموارد الإمبراطوريّة، وبدا هذا كله عرضاً سخياً جداً، وصدق المجلس الإنجليزي على الزواج مع تعديلات يسيرة في النصوص.
وأخذت ماري، على الرغم من حيائها المتواضع تتطلع في لهفة إلى المستقبل، فكم طال انتظارها لعاشق!
ولكن الشعب الإنجليزي استاء من اختيارها، فالأقلية البروتستانتية التي كانت تصبر على الاضطهاد، آملة في أن تخلف اليزابث قريباً ماري العاقر الضعيفة خشيت على حياتها إذا وقفت قوة أسبانيا بجانب ماري في إعادة الكاثوليكية بالقوة، وارتجف النبلاء الذين اغتنوا بضم الأملاك الكنسية عندما خطر لهم أنهم سوف يخرجون ما في بطونهم. بل إن الإنجليز الكاثوليك اعترضوا على وضع أجنبي قاس على العرش. وهو ولا شك سوف يستخدم إنجلترا لتحقيق أغراضه الأجنبية. وارتفعت أصوات الاحتجاج من كل مكان في البلاد، وسرى الذعر في مدينة بلايماوث، فطلبت من ملك فرنسا أن يضعها تحت حمايته. ووضع أربعة نبلاء خططا لثورة تبدأ في 18 مارس سنة 1554، فكان على الدوق أف سفولك (والد جين جراي الذي صدر العفو عنه) أن يحدث ثورة في وارويكشاير وعلى سير جيمس كروفت أن يتزعم مستأجريه الولزيين، وعلى سير بيتر كارو أن يثير ديفونشاير، وعلى سير توماس ويات الصغير أن يقود ثورة في كنت. وكان ويات الكبير- الشاعر- قد استولى على مجموعة من أراضي الكنيسة- كره ابنه أن يسلمها. وأخطأ المتآمرون بأن أسروا بخططهم لكورتناي، وكانت مهمته تنحصر في ضمان اشتراك اليزابث معهم، وكان الأسقف جاردنر يراقب كورتناي باعتباره خاطباً منبوذاً لماري يتلهف على الانتقام، فأمر بالقبض عليه، وأفشى كورتناي أسرار المؤامرة، بتأثير التعذيب على الأرجح.
وآثار المتآمرون أن يلاقوا حتفهم في المعركة بدلاً من المقصلة فخفوا


سريعاً إلى الأسلحة واشتعلت نيران الثورة في أربعة أقطار في الحال (فبراير سنة 1554) وقاد ويات جيشاً قوامه 7000 رجل وزحف نحو لندن، وبعث بنداء إلى كل المواطنين أن يمنعوا إنجلترا من أن تصبح إقطاعية لإسبانيا، وبدأ الجانب البروتستانتي من أهالي لندن في وضع خطة لفتح الأبواب لويات، وتردد مجلس الملكة في أن يرتبط بشيء، ولم يحشد جندياً واحداً للدفاع عنها، ولم تستطع ماري أن تدرك لماذا ترفض البلاد التي رحبت كثيراً بارتقائها العرش أن تتمتع بالسعادة وتحقيق أمانيها التي حلمت بها طوال سنوات التعاسة العديدة. وإذا لم تمسك بزمام الأمور في يديها بعزم غير عادي فإن حكمها وحياتها سوف ينتهيان وشيكاً. ولكنها ذهبت بنفسها إلى جلدهول وواجهت اجتماعاً ثائراً كان يتباحث إلى أي جانب ينحاز. وقالت للجميع إنها على استعداد تام لأن تتخلى عن فكرة الزواج الإسباني إذا كانت هذه رغبة العموم، وقالت حقاً "إني على استعداد لأن أمسك عن الزواج طوال حياتي" ولكنها لن تسمح في الوقت نفسه أن يتحول موضع الخلاف إلى "عباءة إسبانية" لثورة سياسية. وقالت: "إني لا أستطيع أن أقول كيف تحب الأم طفلها بفطرتها لأني لم أكن يوماً أماً، ولكن لا شك أنه إذا كانت الملكة يمكن أن تحب رعاياها حباً طبيعياً وحاراً كما تحب الأم طفلها، فإني أؤكد أني باعتباري سيدتكم ومولاتكم، أحبكم حباً حاراً رقيقاً وأعطف عليكم(39)". وقوبلت كلماتها وروحها بتصفيق حار، وتعهد الجميع بتأييدها. واستطاع وكلاء الحكومة، في يوم تقريباً، أن يحشدوا 25.000 رجل مسلح وقبض على سفولك وفر كروفت وكاريو إلى مخبأ. أما ويات فقد قاد، بعد أن تخلى عنه زملاؤه على هذا النحو، قوة صغيرة قاتل بها في شوارع لندن، وشق طريقه تقريباً إلى قصر الملكة في هويتهول... وتوسل الحراس إلى ماري أن تهرب، ولكنها رفضت وأخيراً غلب رجال ويات


على أمرهم فاستسلم بعد أن وهن منه الجسد والروح وأخذ إلى سجن البرج وتنسمت ماري عبير الأمان مرة أخرى ولكنها لم تعد قط الملكة الرقيقة.


يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق