إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 29 أبريل 2014

1320 قصة الحضارة ( ول ديورانت ) قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> العلم في عصر كوبرنيق -> الإيمان بالمستور وال الفصل السابع والثلاثون العلم في عصر كوبرنيق (1517-65) 1- الإيمان بالمستور (السحر والتنجيم وما إليهما)






1320


قصة الحضارة ( ول ديورانت )

 قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> العلم في عصر كوبرنيق -> الإيمان بالمستور وال

الفصل السابع والثلاثون


العلم في عصر كوبرنيق


(1517-65)


1- الإيمان بالمستور


(السحر والتنجيم وما إليهما)


من الحقائق الجديرة بالملاحظة أن هذا العهد الذي استغرقه اللاهوت والثقافة المدرسية قد أنجب رجلين لهما أرفع مقام في تاريخ العلم-كوبرنيق وفيزاليوس، ومن العجيب أن الكتب التي احتوت عصارة حياتهما قد ظهرت في سنة واحدة، هي "سنة العجائب" 1543. لقد وكان بعض الظروف مواتيا للعلم. فاكتشاف أمريكا وارتياد آسيا، ومطالب الصناعة واتساع التجارة-كل هذا أثمر معرفة كثيراً ما ناقضت المعتقدات المتوارثة وشجعت التفكير الأصيل. وكان للترجمات من اليونانية والعربية، ولطبع كتاب أبوللونيوس "الأشكال المخروطية" (1537) والنص اليوناني لأرخميدس (1544)، الفضل في حفز العلوم الرياضية والفيزيائية. غير أن كثيراً من الرحالة كانوا كاذبين أو مهملين، ونشرت الطباعة العراء على نطاق أوسع من نشرها للمعرفة، وكانت الأدوات العلمية بدائية برغم تعددها. فالمكروسكوب والتلسكوب والترمومتر والبارومتر والمكرومتر والمكركرنومتر كلها كانت في ضمير الغيب. أما النهضة فقد ولعت بالأدب والأسلوب، واهتمت بالفلسفة اهتماماً مؤدباً، ولم تكد تكترث للعلم. حقيقة أن




بابوات النهضة لم يقفوا موقف العداء من العلم. فقد استمع ليو العاشر وكلمنت السابع إلى أفكار كوبرنيق بذهنين مفتوحين، وتقبل بولس الثالث في غير خوف إهداء كوبرنيق كتابه له، "كتاب الدورات" الذي زلزل العالم. ولكن رد الفعل الذي جاء في عهد بولس الرابع، وتطور محكمة التفتيش في إيطاليا، وقرارات مجمع ترنت القطعية، كل هذا جعل الدراسات العلمية شاقة خطرة بصورة متزايدة بعد عام 1555.
ولم تستطع البروتستنتية أن تؤيد العلم، لأنها أسست صرحها على كتاب مقدس معصوم. ورفض لوثر فلك كوبرنيق لأن التوراة ذكرت أن يشوع أمر الشمس-لا الأرض-أن تقف. أما ملانكتون فكان ميالاً للعلم، فدرس الرياضيات، والفيزياء، والفلك، والطب، وحاضر في تاريخ الرياضيات في العصور القديمة، ولكن روحه السمحة غلبتها طبيعة أستاذه القوية وطغيان لوثرية ضيقة الأفق بعد موت لوثر. أما كالفن فلم يكن به كبير تقدم للعلم، وأما نوكس فلا تقدير على الإطلاق.
وظل مناخ مثبط من الإيمان بالمستور يحدق بعلماء الغد ويشوش أذهانهم بل يهدد سلامة عقولهم أحياناً كما حدث لكاردن وبارسيلسوس. فالسحر والكيمياء القديمة من مصر، والفيثاغورية والأفلاطونية الجديدة الصوفيتان من اليونان، والقبلانية من اليهودية، كلها حيرت مئات العقول المتلمسة طريقها. وغزت القصص الأسطورية وقصص المعجزات كتابة التاريخ الرسمي، وروى الرحالة حكايات عن تنانين تنفث اللهب وفقراء يتسلقون الحبال. وكاد يفسر كل حدث شاذ في الحياة العامة أو الخاصة بأنه ليس إلا تدبيراً من الله أو الشيطان لإنذار الإنسان أو تهذيبه، لفتنته أو تدميره. وآمن الكثيرون بأن



المذنبات والنيازك إن هي إلا كرات من النار يقذف بها إله غاضب(1)، ودخلت الكتب الرخيصة كل بيت قارئ، مؤكدة إمكان تحويل المعادن الخسيسة ذهباً. وكما ذكرت رواية معاصرة، كان "كل الخياطين والحذائين والخدم والخادمات الذين يسمعون ويقرأون عن هذه الأشياء يعطون كل ما يوفرون من نقود... للجائلين والمحتالين" من المشتغلين بهذه الخدع(2). وقد ذكر مشعوذ يدعى وليم وتشرلي في محاكمته بإنجلترا عام 1549 أن في الجزيرة خمسمائة مشعوذ مثله(3). وكان الطلاب المتجولون في ألمانيا يبيعون الأحجبة الواقية من الساحرات والشياطين. وأقبل الجند على التعاويذ والطلاسم التي تكفل تحويل رصاص البنادق عن هدفه(4). وكثيراً ما كان القداس يستعمل رقية لجلب المطر أو ضوء الشمس أو النصر في الحرب. وشاعت إقامة الصلوات استدراراً للمطر، وكانت أحياناً تبدو موفقة فوق ما يطلب، فتقرع أجراس الكنائس لتنبيه السماء إلى الكف عن المطر(5). وفي 1526-31 كان رهبان تروا يوقعون حرماً رسمياً على الديدان التي ابتليت بها المحاصيل، ولكنهم يضيفون إلى هذا أن الحرم لا يجدي إلا في الأطيان التي يدفع زراعها عشورهم للكنيسة(6).
ولعل الأحداث التي نسبت إلى الشيطان كانت أكثر من تلك التي نسبت إلى الله. يقول كاتب بروتستنتي في عام 1563 متفجعاً: "ندر أن تمر سنة دون أن نسمع بأبشع الأنباء من الإمارات والمدن والقرى عن الأساليب الفاجرة الرهيبة التي يحاول بها ملك الجحيم، بظهوره جسدياً أو في شتى الصور والأشكال، أن يطفئ النور الجديد الساطع، نور الإنجيل المقدس"(7). وشارك لوثر عامة الناس في نسبة معظم الأمراض إلى الأرواح الشريرة التي تدخل الجسد-وهي فكرة لا تتناقض على أية حال تناقضاً تاماً مع نظريتنا الشائعة الآن. وكان


الكثيرون يؤمنون بأن الأمراض تنجم عن العين الشريرة أو غيرها من أعمال السحر، وأن في الإمكان شفائها بالجرعات السحرية-وهذا أيضاً لا يبعد كثيراً عن عاداتنا في هذه الأيام، وكان أكثر العلاج يعطى حسب موقع الكواكب، ومن هنا دراسة طلبة الطب للتنجيم.
وقد اقترب التنجيم من العلم لأنه افترض حكم القانون في الكون ولأنه اعتمد إلى حد كبير على التجربة. صحيح أن الاعتقاد بأن حركات النجوم ومواقعها هي التي تقرر الأحداث البشرية لم يكن شاملاً كما كان من قبل، ومع ذلك فقد كان في باريس 30.000 منجم في القرن السادس عشر، (8) كلهم على استعداد لكشف الطالع لقاء قطعة من النقود. وراجت التقاويم الحاوية لتنبؤات المنجمين رواجاً كبيراً. وقد قلدها رابليه ساخراً في "التنبؤات البنتاجرويلية" للسيد ألكوفريباس. ووافقه في هذه النقطة اللوثر والسوربون، فنددا بالتنجيم في جميع صوره. واستنكرت الكنيسة رسمياً تنبؤات المنجمين لأنها تتضمن معنى الحتمية وخضوع الكنيسة للنجوم؛ومع ذلك فإن البابا بولس الثالث، وهو من أعظم مفكري ذلك العصر، كان على حد قول سفير في القصر البابوي، "يأبى أن يدعو لأي اجتماع هام لمجمع الكرادلة، وأن يخرج في أي رحلة، دون تخير للأيام الملائمة ورصد لحركات الأبراج". (9) وكان فرانسوا الأول، وكاترين دمديتشي، وشارل التاسع، ويوليوس الثاني، وليو العاشر، وأدريان السادس- كانوا كلهم يستشيرون المنجمين(10). وقد غير ملانكتون تاريخ مولد لوثر ليهيئ له طالعاً أسعد، (11) وتوسل إليه ألا يسافر والقمر هلال بعد(12).
وما زال أحد منجمي هذه الفترة مشهوراً، فالمنجم نوستراداموس كان بالفرنسية ميشيل دنوتردام. وقد زعم أنه طبيب وفلكي،



وارتضته كاترين دمديتشي منجماً شبه رسمي، وبنت له مرصداً في ليزال، وفي عام 1564 تنبأ لشارل التاسع بأنه سيعمر إلى التسعين(13)، ولكنه مات بعد عشر سنوات في الرابعة والعشرين. وقد ترك هذا المنجم عند موته (1566) كتاب تنبؤات صاغها بحكمة بحيث تحتمل معنيين. وبحيث يمكن أن تصدق بعض سطور الكتاب على أي حدث تقريباً في التاريخ اللاحق.
كان مسيحيو القرن السادس عشر يؤمنون بإمكان نيل قوى خارقة من الشياطين، وكان الخوف من الشياطين يغرس فيهم منذ نعومة أظفارهم، لذلك شعروا بأنهم ملتزمون بحرق الساحرات. وأيد لوثر وكالفن البابا إنوسنت الثامن في الحث على محاكمتهن. يقول لوثر "إني لأرفض العطف على هؤلاء الساحرات، وبودي لو أحرقتهن على بكرة أبيهن"(14). وقد أحرق أربعة منهن في فتنبرج في 19 يونيو 1540، وأربعة وثلاثون في جنيف عام 1545(15). وكان لدى دعاة الإصلاح البروتستنتي بطبيعة الحال مبرر من الكتاب المقدس لهذا الحرق، وأضاف استناد البروتستنتية إلى الكتاب إلحاحاً جديداً على إتباع ما ورد في الآية الثالثة عشرة من الإصحاح الثاني والعشرين من سفر الخروج، وشجعت عادة إخراج الشياطين الكاثوليكية الإيمان بالسحر، لأنها افترضت أن قوة الشياطين تسكن في البشر. وزعم لوثر أن خصمه الليبزجي يوهان إيك قد وقع ميثاقاً مع الشيطان، ورد يوهان كوخلايوس بأن لوثر نتاج جانبي لعبث الشيطان مع مارجريت لوثر(16).
وكان الناس يلجئون أحياناً إلى اتهام أعدائهم بالسحر للتخلص منهم. وكان للمتهمة الخيار في أن يوقع بها تعذيب طويل الأمد لاستخلاص اعتراف منها، أو أن تموت نتيجة للاعتراف. وقد نظم تعذيب المتهمين بالسحر في أوربة القرن السادس عشر "بوحشية



هادئة لم تعهد... في الأمم الوثنية"(17). ويبدو أن كثيراً من الضحايا آمن بذنبهن-بأن لهن مع الشياطين معاملات وصلات، جنسية أحيانا(18). وكان بعض المتهمات ينتحرن، وقد دون قاضٍ فرنسي خمس عشرة حالة انتحار في سنة واحدة(19). وكثيراً ما بز القضاة العلمانيون رجال الكنيسة في التحمس لهذا الاضطهاد. وقد نصت قوانين هنري الثامن (1541) على عقوبة الإعدام لأي من عدة أفعال نسبت إلى الساحرات(20)، ولكن محكمة التفتيش الأسبانية دمغت قصص السحر والاعترافات بالسحر بأنها أوهام العقول الضعيفة، ونهبت مندوبيها (1538) إلى تجاهل طلب الجماهير لحرق الساحرات(21).
كانت الأصوات التي ارتفعت لحماية الساحرات أقل من تلك التي ارتفعت للدفاع عن المهرطقين، وكان المهرطقون أنفسهم يؤمنون بالساحرات. ولكن حدث في عام 1563 أن أصدر طبيب في كليفز يدعى يوهان فير بحثاً سماه "في الخدع الشيطانية" جرؤ في استيحاء وتردد على التخفيف من هذا الجنون. ولم يتشكك الطبيب في وجود الشياطين، ولكنه ألمع إلى أن الساحرات هن الضحايا الأبرياء لمس الشياطين، وأن الشياطين يخدعهن ليصدقن السخافات التي يعترفن بها. وفي رأيه أن النساء والأشخاص المصابين بعلة في البدن أو العقل يتعرضون أكثر من غيرهم لمس الشياطين، وخلص من هذا إلى أن السحر ليس جريمة بل هو مرض، ثم ناشد ملوك وأمراء أوربا أن يقفوا إعدام هؤلاء النسوة العاجزات. وبعد بضع سنوات عدل فير وضعه ليتلاءم مع جيله، فكتب وصفاً مفصلاً للجحيم وزبانيتها، ونظامها، وعملها.
وعبرت روح العصر عن ذاتها في قصة فاوست. وأول سماعنا بجيورج فاوست كان في خطاب كتبه يوهان تريتيميوس عام 1507،


وهو يصفه بالمشعوذ، ثم في 1513 إذا يذكره موتيانوس روفوس بوصف ليس بأرق من هذا. وقد كتب فيليب بيجاردي، أحد أطباء فورمز في 1539 يقول: "في السنوات الأخيرة كان رجل عجيب يجوب كل إقليم وإمارة ومملكة تقريباً... ويفاخر ببراعته الفائقة لا في الطب فحسب بل في قراءة الكف، والفراسة، والعرافة بالتحديق في الكرة البلورية، وما شابه ذلك من فنون... ولم ينكر أن اسمه فاوستوس"(22) (ومعناه المحظوظ). ويبدو أن فاوست التاريخي مات في 1539- ويقول ملانكتون إن الشيطان لوى عنقه. وبعد موته بأربع سنوات ظهرت أسطورة فاوست حليف الشيطان في كتاب "عظات مرحة" بقلم قسيس بروتستنتي في بال يدعى يوهان جاست. وقد تضافرت فكرتان قديمتان على تحويل الدجال التاريخي إلى شخصية بارزة أو علم سواء في الأسطورة والمسرحية والفن: أولاهما أن الإنسان قد يكتسب قدرات سحرية بتحالفه الوثيق مع الشيطان، والأخرى أن العلم اللاديني إنما هو غرور وقح قد يؤدي بصاحبه إلى الجحيم. وفي فترة ظن الناس أن الأسطورة كاريكاتور كاثوليكي يسخر من لوثر، ولكن نظرة أعمق للأسطورة رأت أنها تعبير عن استنكار الدين للعلم "الدنيوي" الذي يناقض تقبل الكتاب المقدس في تواضع، لأن فيه الكفاية من العلم والحقيقة. أما جوته فقد استنكر هذا الاستنكار، وسمح لتعطش الإنسان للعلم بأن يطهر ذاته باستخدامه للصالح العام.
وتجسدت أسطورة فاوست تجسداً مراً في شخص هنري كورنيليوس أجريبا. وقد ولد من أسرة طيبة بكولونيا (1547) ثم شق طريقه إلى باريس، وهناك التقى مصادفة بنفر من المتصوفة أو الدجاجلة الذين ادعوا الحكمة الخفية. وإذ كان متعطشاً للمعرفة والشهرة، فقد احترف الكيمياء القديمة، ودرس القبلانية، واقتنع بأن هناك


عالماً من الاستنارة بعيد المنال على الإدراك أو التفكير العادي. وأرسل إلى الناشر تريتميوس مخطوطاً في فلسفة السحر De occulta philosophia مشفوعاً بالخطاب الشخصي التالي:-
"لقد أخذني العجب الشديد، لا بل السخط، لأن أحداً لم ينبر إلى اليوم ليبرئ دراسة في مثل هذا السمو والقدسية من تهمة الضلال. وهكذا استثيرت روحي... وشعرت أنا أيضاً بالرغبة في التفلسف، معتقداً أنني سأخرج كتاباً يستحق الثناء... إذا استطعت أن أدافع عن... ذلك السحر القديم، الذي درسه جميع الحكماء، مطهراً ومنقي من عيوب الضلال، ومزوداً بنسقه المعقول"(23).
ورد عليه تربتميوس مسدياً إليه هذا النصح الجميل. "تكلم على الأشياء العامة للعامة، ولا تتكلم على الأشياء السامية والخفية إلا لأسمى وأخص أصحابك. إن الثور يطعم الدريس، والببغاء يطعم السكر. ففسر هذا القول تفسيراً صحيحاً وإلا أصابك ما أصاب غيرك وداستك الثيران"(34).
وسواء كان الدافع لأجريبا هو الحذر أم الافتقار إلى ناشر، فانه أمسك عشرين عاماً عن دفع كتابه إلى المطبعة. ودعاه الإمبراطور مكسمليان للقتال في إيطاليا، فأبلي في المعركة بلاءً حسناً، ولكنه انتهز الفرصة ليحاضر عن أفلاطون في جامعة بيزا، ولينال درجات في القانون والطب من بافيا. ثم عين محامي مدينة في ميتز (1518)، ولكن سرعان ما فقد ذلك المنصب نتيجة تدخله في محاكمة شابة متهمة بالسحر، وقد حصل على أمر بإطلاق سراحها من محكمة التفتيش، ولكنه رأى من الحكمة بعد ذلك أن يغير موطنه (1519). وأنفق عامين طبيباً للويز أميرة سافوا، غير أن تورط في خلافات كثيرة حملتها على قطع راتبه، فانتقل إلى أنتورب مع زوجته الثانية

وأبنائه، وعيّن مؤرخاً رسمياً وأمين مكتبة لبلاط مرجريت الوصية على عرش النمسا، ووفق في كسب قوته بطريقة منتظمة. وعكف الآن على تأليف أهم كتبه "في عدم يقينية العلوم وغرورها". وقد نشره عام 1530، ثم نشر كتاب "فلسفة السحر" الذي ألفه في شبابه-ونشره الآن مما يثير العجب، وصدره بمقدمة تنصل فيها من استمرار إيمانه بالتعاويذ والمعميات الصوفية المفصلة فيه. وتأذى الراسخون في العلم من الكتابين جميعاً.
أما كتابه "فلسفة السحر" فقد أكد أن "روح الكون" تسود العالم وتحكمه كما أن روح الإنسان تسود الجسد وتحكمه، وأن هذا المستودع العظيم لقوة الروح يمكن أن يستمد منه العقل إذا طهر خلقياً ودرب في صبر على الأساليب المجوسية. ومتى اكتسب العقل هذه القوة، استطاع أن يكشف الخصائص الخفية للأشياء والأعداد والحروف والكلمات، وأن ينفذ إلى أسرار النجوم، وأن يسيطر على قوى الأرض وشياطين الهواء. وراج الكتاب رواجاً كبيراً، وأفضى تعدد طبعاته بعد موت أجريبا إلى قصص أسطورية حول تحالفه الوثيق مع شيطان كان يرافقه متنكراً في صورة كلبه(25)، ويمكنه من الطيران فوق الكرة الأرضية والنوم في القمر(26).
وقد خففت صروف الدهر من مزاعم أجريبا عن التجربة التي ترق فوق الحس، فتعلم أنه ليس في مقدور أي سحر أو كيمياء (قديمة) إطعام أسرته أو حمايته من السجن بسبب الدين. وانقلب في خيبة أمل غاضبة على البحث عن المعرفة، فكتب في عامه التاسع والثلاثين أكثر كتب القرن السادس عشر تشككاً قبل مونتيني "في عدم يقينية العلوم وغرورها". وقال في تصديره للكتاب "إنني أدرك جيداً أي معركة دامية على أن أخوضها... أولاً سيثير النحويون القذرون

ضجة، وكذلك... الشعراء المتبرمون، والمؤرخون الكاسدة بضاعتهم، والخطباء المتفيهقون، والمناطقة العنيدون... والمنجمون المنحوسون، والسحرة البشعون... والفلاسفة المجادلون". فالمعرفة كلها غير يقينية، والعلم كله عبث، و "أسعد الناس من لا يعرف شيئاً". المعرفة هي التي قضت على سعادة آدم وحواء، واعتراف سقراط بالجهل هو الذي أكسبه القناعة والشهرة. "ليست العلوم كلها إلا قوانين الناس وآرائهم، وهي تستوي ضرراً ونفعاً، وأذى وفائدة، وشراً وخيراً، هي بعيدة كل البعد عن الكمال، مشكوك فيها، حافلة بالخطأ والخلاف"(27).
ويبدأ أجريبا هجومه المدمر بالأبجدية، فيأخذ عليها تناقضات النطق المحيرة. ويسخر من النحويين الذين تفوق شواذهم قواعدهم، والذين تتغلب عليهم أصوات الشعب المرة بعد المرة. أما الشعراء فمجانين، فما من إنسان "مالك لصوابه" يستطيع أن يكتب شعراً. والتاريخ أكثره حديث خرافة. لا "خرافة متواضع عليها"، كما سيصفه فولتير خطأ، بل خرافة دائمة التبديل، يغيرها كل مؤرخ وجيل من جديد. أما الخطابة فهي إفساد البلاغة للعقول. وأما السحر فخدعة؛ وينبه أجريبا قراءه الآن إلى أن كتابه في السحر كان "زائفاً، أو كاذباً إن شئتم". وإذا كان قد مارس في ماضيه التنجيم والسحر والعرافة والكيمياء القديمة وغيرها من "الجهالات" فإنما كان أكثر ذلك استجابة لفرط إلحاح مشجعيه القادرين على إجزال العطاء له في طلب المعرفة السرية. أما القبلانية فما هي إلا "عقيدة خرافية وبيلة". وأما الفلاسفة فإن اختلاف آرائهم خلافاً يبطلها كفيل بإبقائهم خارج هذه المحكمة؛ فلنتركهم إذن يدحضون آراء بعضهم بعضاً. وما دامت الفلسفة تسعى إلى استنباط الفضيلة من العقل، فسيحبطها

التناقض اللاعقلي للأخلاق في الزمان والمكان، إذ يحدث من جراء هذا التناقض أن ما كان في زمن ما رذيلة، يعد في زمن آخر فضيلة، وما هو في مكان ما فضيلة، هو رذيلة في مكان آخر". أما الفنون والمهن قد أفسدها كما أفسد العلوم الكذب والغرور. وكل بلاط "مدرسة للعادات الفاسدة، ومأوى للشر الكريه". والتجارة غدر وخيانة. والأمناء على الأموال لصوص لصقت بأيديهم الفخاخ وفي أناملهم الخطاطيف. والحرب مذبحة للكثرة تلهو بها القلة. والطب "فن من فنون القتل الخطأ" وكثيراً ما يكون "في الطبيب والدواء من الخطر ما يفوق خطر المرض نفسه".
فما نتيجة هذا كله؟ وإذ كان العلم هو الرأي العابر السريع الزوال، والفلسفة هي التأمل المغرور في طبيعة اللانهائي من عقول حقيرة كالديدان، فبمَ يحيا الإنسان؟ بكلمة الله وحدها معلنة في الكتاب المقدس. وفي هذا الرأي رنين تبشيري، والواقع أننا نلتقي بتأكيدات عديدة لآراء أجريبا "الإنجيلية" مبعثرة وسط شكوكه. فهو يرفض سلطان البابوات الزمني، بل سلطانهم الروحي إذا خالف الكتاب المقدس. وهو يرمي محكمة التفتيش بأنها لا تقنع الناس بالمنطق والكتب المقدسة بل "بالنار والحطب"، وهو يود لو قل إنفاق الكنيسة على الكاتدرائيات وزاد على أعمال البر، ولكنه يتجاوز رجال الإصلاح الديني حين يعترف بأن كتاب العهدين القديم والجديد كانوا عرضة للخطأ. فالمسيح وحده هو المصيب والصادق دائماً، وهو وحده الذي يجب أن نثق به، وفيه الملاذ الأخير للعقل والروح.
وقد استمتع أجريبا بما أحدثته ثورته هذه من غضب، ولكنه دفع ثمن هذه المتعة غالياً خلال ما بقي له من عمر. طالبه شارل الخامس

بسحب نقده للكنيسة، فلما رفض قطع راتبه. ولما سجن بسبب دينه ألقى التبعة على الإمبراطور لتخلفه في دفع راتب مؤرخ بلاطه الرسمي. وأطلق سراحه بشفاعة الكردينال كامبيجيو وأسقف لييج، ولكن شارل نفاه من إمبراطوريته (1531). وانتقل أجريبا إلى ليون حيث سجن ثانية بسبب الدين كما تقول رواية غير مؤكدة. ولما أفرج عنه انتقل إلى جرينوبل، وهناك مات بالغاً من العمر ثمانية وأربعين عاماً. ولعل له بعض الفضل في تكوين نزعة مونتيني الشكاكة، ولكن كتابه الرائج الوحيد كان في السحر الذي تنكر له. وظلت الأفكار والعادات المتصلة بالسحر مزدهرة إلى نهاية القرن.


يتبع
 يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق