إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الأربعاء، 30 أبريل 2014

1346 قصة الحضارة ( ول ديورانت ) قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> ابتهاج غامر في إنجلت -> الملكة العظيمة -> إليزابث وأسبانيا 9- إليزابث وإسبانيا





1346


قصة الحضارة ( ول ديورانت )

 قصة الحضارة -> بداية عصر العقل -> ابتهاج غامر في إنجلت -> الملكة العظيمة -> إليزابث وأسبانيا

9- إليزابث وإسبانيا


كانت الملكة في خير حال لدى تدبير الأمر مع أسبانيا، لقد مدت للملك فيليب حبل الأمل في أن تكون زوجاً له أو لابنه، وحبل الأمل في الظفر بإنجلترا مقابل خاتم العرس. وتذرع فيليب بالصبر حتى نفر منه أصدقاؤه وابتعدوا عنه، وقويت إليزابث، فلربما رجاه البابا والإمبراطور وملكة إسكتلندة المنكودة الطالع أن يغزو إنجلترا، ولكنه كان شديد الارتياب في فرنسا، وكان يلاقي أشد المتاعب في الأراضي الوطيئة، إلى حد لا يجرؤ معه على أن يوجه ضربة لا يمكن التبؤ بنتائجها في لعبة السياسة. ولم يكن يضمن ألا تنقض فرنسا على الأراضي الوطيئة الأسبانية في اللحظة التي يتورط فيها إنجلترا. وكان يتردد في تشجيع الثورة في أي بلد، أو على طريقته في التباطؤ الثقيل، وثق بأن إليزابث قد تجد في الوقت المناسب مخرجاً أو آخر من الخارج التي وهبتها إيانا الطبيعة الحاذقة في حياتنا، مع ذلك لم يتعجل تسليم عرش إنجلترا إلى فتاة اسكتلندية وقعت في غرام فرنسا. ومنع لعدة سنوات، البابا من إعلان قرار حرمان إليزابث من الكنيسة. واحتمل في صمت كئيب معاملتها للكاثوليك في إنجلترا، واحتجاجاتها على معاملة الإنجليز البروتستانت في أسبانيا، وحافظ، قرابة ثلاثين عاماً على السلام، بينما شن القراصنة الإنجليز، بأمر من الحكومة، الحرب على مستعمرات أسبانيا وتجارتها.


إن طبيعة الإنسان لتكشف عن نفسها في سلوك الدول، لأن هذه الدول ليست إلا أشخاصاً في جملتها، وهي تتصرف على نفس النسق الذي يحتمل أن الإنسان كان يتصرف عليه قبل أن يفرض الدين والقوة أخلاقاً وقوانين. وإن الضمير ليسير وراء رجل الشرطة، ولكن لم يكن ثمة رجال شرطة من أجل الدول. ولم يكن ثمة "وصايا عشر" على البحار، وإنما قاما التجارة بإذن من القراصنة، واستخدمت مراكب القراصنة الصغيرة مداخل الشاطئ الإنجليزي مخابئ لها، ومنها انطلقت لتستولي على كل ما يمكن أن تستولي عليه-وإذا كان الضحايا من الأسبان كان للإنجليز أن ينعموا بالحماسة الدينية التي يجدونها في سلب ونهب رجل ينتمي إلى البابا. ودرب رجال جسورون من أمثال جون هوكنز وفرانسيس دريك عدداً كبيراً من القراصنة وكأن البحار ملك لهم. وتبرأت إليزابث منهم وأنكرتهم، ولكنها لم تعكر صفوهم أو تزعجهم، لأنها رأت في القراصنة نواة أسطول لها، وفي هؤلاء المغامرين أمراء البحر لها في المستقبل. وصار ثغر الهيجونوت "لاروشيل" مكاناً أثيراً للقاء بين قوارب الإنجليز والهولنديين والهيجونوت، "تنقض من على تجارة الكاثوليك أياً كان العلم الذي ترفعه(96)"، وعلى تجارة البروتستانت أيضاً، عند الحاجة.
ومن هذه القرصنة عبر هؤلاء المغامرون إلى تجارة الرقيق الرائجة التي كانت قد بدأها البرتغاليون قبل ذلك بقرن من الزمان. وكان المواطنون في المستعمرات الأسبانية في أمريكا يموتون تحت تأثير الكدح المضني الذي لا يتناسب مع بيئتهم أو مع المناخ الذي يعيشون فيه. واقتضى الأمر المطالبة بسلاسة من العمال أشد وأقوى. واقترح المدافع عن المواطنين. لاس كاساس، نفسه، على شارل الأول ملك أسبانيا أن زنوج أفريقية أقوى من هنود البحر الكاريبي، ويجب نقلهم إلى أمريكا لينهضوا بالعمل الشاق من أجل الأسبانيين هناك(97). ووافق شارل، ولكن فيليب استنكر هذه التجارة، وأمر الحكام الأسبان في أمريكا أن يمنعوا استيراد العبيد إلا بترخيص من الإدارة المحلية في أسبانيا(98)- وهذا أمر عسير وباهظ التكاليف. وقاد هوكنز وهم يعلم أن بعض الحكام الأسبان يراوغون في هذه القيود- ثلاث سفن إلى أفريقية (1562) وقبض على 300 من الزنوج، وأخذهم إلى جزر الهند الغربية، وباعهم


إلى المستوطنين الأسبان، مقابل السكر والتوابل والعقاقير. ولما عاد إلى إنجلترا أغرى لورد بمبروك وآخرين غيره، بأن يسهموا بأموالهم في مغامرة ثانية، وحرض إليزابث على أن تضع سفينة من أحسن سفنها تحت تصرفه، وفي 1594 انطلق جنوباً بأربع سفن، وأمسك بأربعمائة من زوج أفريقية، وأبحر إلى جزر الهند الغربية، وباع العبيد إلى الأسبان، تحت تهديد بضربهم بمدافعه إذا هم رفضوا الشراء. وعاد إلى إنجلترا حيث رحبوا به بوصفه بطلاً، واقتسم الغنائم بينه وبين أنصاره وبين الملكة التي حصلت على 60% نظير استثماراتها(99). وفي 1567 أعارته سفينتها "يسوع". وأبحر بها مع أربع سفن أخرى إلى أفريقية، ووضع يده على كل ما أمكنه من العبيد، وباعهم في أمريكا الأسبانية بمائة وستين جنيهاً للواحد، وفي طريق عودته، ومعه غنيمة تقدر قيمتها بنحو مائة ألف جنيه، اعترضه أسطول أسباني بعيداً عن شاطئ المكسيك، عند سان جوان دي ألوا، ودمر أسطوله فيما عدا مركبين صغيرين عاد فيهما هوكنز إلى لإنجلترا صفر اليدين (1569)، بعد أن لاقى آلاف الأهوال والأخطار.
وكان ممن بقوا على قيد الحياة بعد هذه الرحلة، أحد أقرباء هوكنز الصغار، وهو فرنسيس دريك. ولما كان قد تربى على نفقة هوكنز، فقد قيل عنه إنه من سكان البحر. وفي سن الثانية والعشرين تولى إمرة سفينة في رحلة هوكنز الفاشلة. وفي سن الثالثة والعشرين، بعد أن فقد كل شيء إلا اشتهاره بالبسالة، أقسم أن ينتقم من الأسبان، وفي سن الخامسة والعشرين حصل من إليزابث على براءة بالقرصنة. وفي 1571، وهو في سن الثامنة والعشرين، أسر قافلة من السفن الأسبانية محملة بسبائك الفضة قرب شاطئ بنما، وعاد إلى إنجلترا منتقماً من أسبانيا، وأخفاه مستشارو إليزابث عن الأنظار لمدة ثلاث سنوات، عل حين كانت أسبانيا تطالب برأسه. ثم جهز له لستر وولسنهام وهاتون أربع سفن صغيرة يبلغ مجموع حمولتها 375 طناً، أبحر بها من بليموث في 15 نوفمبر 1577، فيما صار فيما بعد ثاني طواف حول الكرة الأرضية. ولما خرج أسطوله من مضايق ماجلان إلى المحيط الهادي واجهته عاصفة هوجاء، أطاحت بالسفن بعيداً بعضها عن بعض، ولم يلتئم شملها ثانية قط، وسار


دريك وحده بالسفينة "بليكان" على الساحل الغربي للأمريكيتين إلى سان فرنسيسكو مهاجماً كل السفن الأسبانية في طريقه، ثم انعطف غرباً في جرأة وبسالة، إلى الفلبين وأبحر من جزر ملقا إلى جاوه، وعبر المحيط الهندي إلى أفريقية، وحول رأس الرجاء الصالح صعداً في المحيط الأطلسي، ليصل بليموث في 16 سبتمبر 1580، أي بعد مغادرتها بأربعة وثلاثين شهراً. ومعه من الأرباح 600.000 جنيه سلم الملكة منها 275.000(100)، وحيته إنجلترا على أنه أعظم ملاح وقرصان في عصره وتناولت إليزابث العشاء على ظهر سفينته، ومنحته لقب فارس.
ومن الجهة الفنية، كانت إنجلترا طوال هذا الوقت في سلام مع أسبانيا. وكم قدم فيليب إلى الملكة من احتجاجات، فقدمت هي الاعتذارات، وتشبثت بغنائمها، وأشارت إلى أن الملك نفسه كان هو أيضاً يخرق "القانون" الدولي بإرساله المساعدات إلى الثوار في إيرلندة. ولما هدد السفير الأسباني بالحرب، هددت هي بالزواج من ألنسون وبالتحالف مع فرنسا. ولما كان فيليب مشغولاً بغزو البرتغال، فقد أصدر أمره إلى سفيره بالإبقاء على السلام. وكما هي العادة، انضم حسن حظ الملكة إلى عبقريتها الموسومة بالتردد، فماذا كان عساه يحدث لها لو لم تشطر الحرب الأهلية فرنسا الكاثوليكية إلى شطرين، ولو لم يرهق الأتراك بغاراتهم المتكررة الإمبراطور والنمسا الكاثوليكية، ولو لم تكن أسبانيا متورطة مع البرتغال وفرنسا والبابا ورعاياها الثائرين في الأراضي الوطيئة؟
ولعدة سنوات كانت إليزابث تناور وتداور في مكر وخداع في الأراضي الوطيئة، وتغير سياستها وفق الظروف المائعة. ولم تكن أية اتهامات بالتردد أو الخيانة تجعلها تسبر في طريق مستقيم واحد لا تحيد عنه. ولم تكن تحب الكلفنية في الأراضي الوطيئة أكثر من حبها للبيوريتانية في إنجلترا، كما لم تكن تحب التحريض على الثورة أكثر من حب فيليب له. وأدركت أهمية التجارة المنتظمة مع الأراضي الوطيئة للاقتصاد الإنجليزي، فعملت على تأمين الثورة ومساعدتها هناك بشكل يحفظها من الاستسلام لأسبانيا أو الارتماء في أحضان فرنسا، وما دامت الثورة قائمة، انشغلت أسبانيا بها بعيداً عن إنجلترا.


وحانت لحظة مباركة ابتسم فيها الحظ السعيد للملكة، فهيأ لها الفرصة لمساعدة الثوار مقابل كسب مغر يدخل إلى خزائنها. ذلك أن القراصنة الإنجليز ساقوا في ديسمبر 1588 إلى مواني القنال الإنجليزي عدة سفن أسبانية كانت تحمل 150.000 جنيه دفع رواتب جنود دوق ألفا في الأراضي الوطيئة، ورأت إليزابث-وكانت قد ترامت إليها لتوها أنباء الكارثة التي وقعت لهوكنز في سان جوان دي ألوا-رأت أن العناية الإلهية هيأت لها هذه الفرصة لتعويض إنجلترا عما فقدته بسبب تلك الهزيمة. وسألت الأسقف جول Jewel: هل لها حق في الأموال الأسبانية؟ فحكم بأن الرب، وهو بروتستانتي قطعاً، يسره أن يرى البابويين يسلبون. وفوق ذلك، علمت الملكة أن فيليب كان قد اقترض هذا المبلغ من مصارف جنوه، ورفض الاعتراف بملكيته حتى يصل سالماً إلى أنتورب. ونقل المال إلى خزائن الملكة، وجأر فيليب بالشكوى وقبض دوق ألفا على كل ما وصلت إليه يداه من رعايا إنجليز وبضائع إنجليزية في الأراضي الوطيئة، واعتقلت إليزابث كل الأسبان في إنجلترا. ولكن مقتضيات التجارة أعادت بالتدريج العلاقات الطبيعية بين الطرفين. وأبى دوق ألفا أن يستحث إليزابث على التحالف مع الثوار، والتزم فيليب الهدوء والصبر، واحتفظت إليزابث بالمال.
واستمر السلم المزعزع يجرر أذياله، إلى أن ورطت الحملات الإنجليزية المتكررة على السفن الأسبانية وصرخات أصدقاء ماري ستيوارت المسجونين، نقول ورطت هذه وتلك فيليب في مؤامرة لقتل الملكة(101)، وكانت إليزابث مقتنعة باشتراكه فيها، فطردت السفير الأسباني (1584) وساعدت الثوار علانية. ودخلت الجيوش الإنجليزية فلشنج، بريل، أوستند، سليس Sluys، وأرسل لستر ليتولى قيادتها. ولكن الأسبان هزموهم في زوتفين Zutphen (1586).ولكن الآن، على الأقل بلغ السيل الزبى، وحانت ساعة الفصل. فقد استعد فيليب وإليزابث بكل ما أوتيا من قوة للحرب التي قد تحدد لأيهما تكون السيادة على البحار، كما تحدد ديانة إنجلترا، وربما ديانة أوربا، وربما ديانة الدنيا الجديدة.
وأثرت أسبانيا ثراء واسعاً بفضل كولمبس والبابا اسكندر السادس وقرارات التحكيم التي أصدرها (1493) والتي منحت وطنه أسبانيا كل الأمريكتين تقريباً.


وبهذه الرحلات والمراسيم لم يعد البحر المتوسط مركز حضارة الرجل الأبيض وقوته، وبأ عصر الأطلنطي. ومن بين دول أوربا الثلاث المطلة على المحيط، كانت فرنسا مغلولة اليدين بسبب الحرب الأهلية فلم تشارك في الصراع الدائر حول السيادة على المحيطات. أما إنجلترا وأسبانيا فقد استمر الصراع بينهما، وصارت كل منهما تمتد نحو الأرض الموعودة مثل الصخرة الناتئة في البحر. وبدا من العسير زحزحة أسبانيا عن مكان الصدارة والغلبة في أمريكا، فما وافت 1580 حتى كان لها فيها مئات المستعمرات، على حين لم يكن لإنجلترا شيء قط، وتدفقت الثروات الهائلة من مناجم المكسيك وبيرو إلى أسبانيا، وبدا قدراً محتوماً أن تحكم أسبانيا نصف الكرة الغربي، وتدخل الأمريكيتين في نطاق كيانها السياسي والديني.
ولم يكن ديرك راضياً عن هذا المشهد الذي توقعه، أو قانعاً به. وكانت الحرب من أجل السيطرة على العالم، لفترة من الوقت، محصورة بينه وبين أسبانيا. وفي 1585 أمده أصدقاؤه والملكة بالمال اللازم، فجهز ثلاثين سفينة انقض بها على الإمبراطورية الأسبانية. ودخل مصب نهر في شمال غرب أسبانيا، وأعمل السلب والنهب في ثغر فيجو، وعرى تمثالاً للعذراء، وحمل معه المعادن النفيسة والملابس الثمينة من الكنائس. وأبحر إلى جزر الكناري والرأس الأخضر واجتاح أكبرها، وعبر إلى الأطلنطي، وأغار على سان دومنجو، وقبض ثلاثين ألفاً من الجنيهات، منحة أو رشوة، لئلا يدمر قرطاجنة في كولمبيا. وسلب وأحرق مدينة سانت أوجستين في فلوريدا، وعاد إلى إنجلترا (1586)، لا لشيء إلا أن الحمى الصفراء أودت بثلث بحارته.
تلك كانت حرباً دون أن تحمل اسم الرب. وفي 8 فبراير 1587، أعدمت الحكومة الإنجليزية ملكة إسكتلندة، وهنا أبلغ فيليب البابا سكستس الخامس أنه على استعداد لغزو إنجلترا وخلع إليزابث. وطلب إليه الإسهام بمليوني كراون ذهباً. وعرض سكستس ستمائة ألف لا تدفع لأسبانيا إلا إذا وقع الغزو فعلاً. وأصدر فيليب لأمره إلى خير قواده، أمير البحر مركيز سانتا كروز، بإعداد أكبر أسطول عرف في التاريخ حتى ذاك الوقت، وتجمعت السفن أو بنيت في لشبونه وأعدت المخازن والمستودعات في قادس.


وألح دريك على إليزابث لتزويده بأسطول يدمر الأرمادا قبل أن يتخذ وضعاً تتعذر من مقاومته، فوافقت، وفي الثاني من أبريل 1587 انطلق مسرعاً من بليموث ومعه ثلاثون سفينة، قبل أن تغير الملكة رأيها. وهذا ما حدث فعلاً، ولكن بعد فوات الأوان، فلم تدركه. وفي 16 أبريل أسرع بأسطوله إلى ميناء قادس، وأجرى مناورة بعيداً عن مرمى مدفعية الشاطئ، وأغرق بارجة أسبانية، وهاجم سفن النقل والتموين، واستولى على حمولتها، وأشعل النار في كل سفن العدو، وارتحل دون أن يمسه أذى. وألقى مراسيه بالقرب من لشبونه وتحدى سانتا كروز أن يخرج لملاقاته. فأبى المركيز أن يفعل، لأن سفنه لم تكن قد زودت بالسلاح بعد، فسار دريك شمالاً إلى لاكورونا واستولى على مؤن وذخائر كثيرة كدست هناك، ثم إلى جزر الآزور حيث استولى على سفينة أسبانية ضخمة (غليون)، وعاد بها إلى إنجلترا بين سفنه. وعجب الأسبان أنفسهم لجرأته ومهارته البحرية وقالوا "لو لم يكن لوثرياً، بروتستانتياً، لما كان له نظير في العالم(102)".
وأعاد فيليب بناء أسطوله، في صبر، ومات المركيز سانتا كروز في يناير 1588، فعين مكانه دوق مدينا-سيدونيا، وهو نبيل يتميز بكرم المحتد أكثر منه بالكفاية والقدرة. ولما اكتمل الأرمادا آخر الأمر، كانت عدة سفنه 150 سفينة حمولة كل منها المتوسط 445 طناً، وكان نصفها من سفن البضائع، ونصفها الآخر من البوراج الحربية، مزودة بثمانية آلاف وخمسين بحاراً، وأبحر عليها تسعة عشر ألف جندي. وفكر فيليب وقواده في إتباع الطريقة القديمة في الحروب البحرية-وهي القفز فوق ظهر سفن العدو. ومصارعة الرجل للرجل، على حين كانت خطة الإنجليز أن يغرقوا سفن العدو بمن احتشد عليها من البحارة، وإطلاق النيران عليها دفعة واحدة من الجوانب، وأصدر فيليب تعليماته إلى الأسطول بالا يجد في طلب السفن الإنجليزية ويهاجمها، بل لا بد من الاستيلاء على رأس جسر ساحلي في إنجلترا، والعبور إلى الفلاندرز، لينقل إلى المراكب الثلاثون ألف جندي الذين كانوا قد أعدهم هناك دوق بارما، والسر إلى لندن بعد الحصول على هذا المدد. وفي نفس الوقت هرب إلى إنجلترا (أبريل 1588) رسالة دبجها كاردينال ألن


يأمر فيها الكاثوليك بالانضمام إلى الأسبان لخلع مليكتهم "المغتصبة الهرطقية البغي(103)". ورافق الأرمادا للمعاونة في إعادة الكاثوليكية إلى إنجلترا مئات من الرهبان تحت رياسة النائب الأسقفي العام لمحاكم التفتيش(104). وهزت روح دينية مخلصة مشاعر البحارة الأسبان وسادتهم، وآمنوا إيماناً عميقاً مخلصاً بأنهم كانوا يؤدون مهمة مقدسة، فأبعدوا البغايا، وانقطع التجديف والدنس، وامتنع القمار، وفي صباح اليوم التاسع والعشرين من مايو 1588، حين أقلع الأسطول من لشبونه، تناول القربان المقدس كل من كان على ظهر السفن، وأقامت كل أسبانيا الصلوات.
وواتت الريح إليزابث، على حين واجه الأرمادا عاصفة مدمرة، فالتجأ إلى ميناء لاكورونا، حيث ضمد جراحه، وأقلع ثانية (12 يوليه). وانتظرته إنجلترا في مزيج محموم من الآراء المنقسمة والاستعدادات المتعجلة والعزيمة البائسة، والآن حانت الساعة لتنفق إليزابث الأموال التي كانت قد كنزتها في ثلاثين عاماً من التقتير والتهور والشرور، وهب شعبها في شجاعة وتصميم، كاثوليك وبروتستانت على السواء، لنجدتها، وتدرب الحرس الوطني المتطوع في المدن، وأمد تجار لندن الفرق بالمال اللازم، وطلب إليهم أن يجهزوا خمس عشرة سفينة، فأمدوها بثلاثين. وكان قد مضى على هوكنز عشر سنوات وهو يبني السفن لبحرية الملكة. وأصبح دريك الآن نائباً لأمير البحر، وأتى قراصنة البحر بسفنهم في انتظار اللقاء الحاسم. وفي أوائل يوليه 1588 احتشد في بليموث للقاء العدو القادم، اثنتان وثمانون سفينة كاملة العدة، تحت أمرة شارل، لورد هوارد افنجهام، أمير البحر العام في إنجلترا.
وفي 19 يوليه شوهدت طلائع الأرمادا عند مدخل القنال الإنجليزي. وأقلع الأسطول المدافع من بليموث، وفي اليوم الحادي والعشرين بدأ العمل. وانتظر الأسبان حتى يقترب الإنجليز منهم إلى حد يكفي ليناوش الواحد منهم الآخر، ولكن

على العكس من ذلك، فإن السفن الإنجليزية الخفيفة المبنية خصيصاً للمياه الضحلة والمسالك الضيقة، انطلقت مسرعة حول البوراج الأسبانية الثقيلة، تمطرها بوابل من النيران من كل جانب، وكانت سطوح المراكب الأسبانية عالية، وكانت مدافعها تطلق قذائفها على بعد مرتفع فوق السفن الإنجليزية محدثة بها أقل الأضرار، وجرت السفن الإنجليزية تحت النيران، وتركت قدرتها على المناورة وسرعتها، الأسبان عاجزين حيارى مضطربين. وعندما جن الليل هرب الأسبان في اتجاه الريح، تاركين إحدى سفنهم ليأخذها دريك، وأخرى نسفها أحد رجال المدفعية الألمان المتمردين، ووقع حطامها في أيدي الإنجليز. ولحسن الحظ كانت كلتاهما تحمل مؤناً وذخائر سرعان ما نقلت في أسطول الملكة. وجاء مزيد من المؤن والذخائر. ولكن الإنجليز لم يكن لديهم منها حتى الآن إلا ما يكفي لقتال يوم واحد فقط. وفي الخامس والعشرين، وبالقرب من جزيرة وايت، قاد هوارد هجوماً، وسارت سفينة قيادته إلى قلب الأرمادا، وتبادلت النار مع كل بارجة مرت بها، وحطم تفوق النار الإنجليزية الروح المعنوية لدى الأسبان. وكتب مدينا سيدونيا في تلك الليلة إلى دوق بارما: "أن العدو يطاردني. إنهم يرمونني بالنيران من الصباح إلى المساء، ولكن السفن لن تلقي مراسيها... وليس ثمة من علاج، فهم سريعو الحركة ونحن بطيئون(105)". وتوسل إلى بارما أن يرسل إليه ذخيرة ومدداً، ولكن ثغور دوق بارما كانت تحاصرها وتعترض سبيلها السفن الهولندية.
وفي اليوم السابع والعشرين ألقى الأرمادا مراسيه في مداخل كاليه. وفي الثامن والعشرين أشعل دريك النار في ثمان سفن صغيرة غير ضرورية يمكن الاستغناء عنها،ووضعها في مهب الريح لتسير وسط الأسطول الأسباني. وتوجس مدينا سيدونيا شراً، فأمر سفنه بالخروج إلى عرض البحر. وفي التاسع والعشرين هاجمها دريك في جرافلين، بعيداً عن الشاطئ الفرنسي، في حرب حقيقية. وقاتل الأسبان في بسالة، ولكن كان يعوزهم المدفعية والبراعة في فن الملاحة. وظهر أسطول هوارد وصب الأسطول الإنجليزي بكامل عدده من النيران على الأرمادا ما أعجز بعض سفنه عن العمل وأغرق بعضها الآخر. واخترقت طلقات الإنجليز أبدان سفن



الأرمادا على الرغم من أن سمكها يبلغ ثلاثة أقدام، وقتل آلاف من الأسبان. وشوهدت الدماء تسيل من ظهور السفن إلى البحر. وما أن غربت شمس ذاك النهار حتى كان قد فقد من الأسبان ربعة آلاف رجل وجرح أربعة آلاف آخرون، وأمكن بصعوبة الاحتفاظ بالسفن الأسبانية الباقية عائمة على سطح الماء. ولما رأى مدينا سيدونيا أن بحارته لا يستطيعون احتمال شيء بعد ما حدث، أصدر أوامره بالانسحاب. وفي اليوم الثلاثين من يوليه حملت الريح حطام الأرمادا إلى بحر الشمال. وتبعه الإنجليز شمالاً إلى مصب نهر فورت، وكانت تعوزه الأغذية والذخيرة فعادوا إلى مراسيهم، وكانوا قد فقدوا ستين رجلاً، ولم يفقدوا سفينة واحدة.
أما بالنسبة لبقايا الأرمادا، فلم يكن ملاذ أقرب من أسبانيا نفسها. فقد كانت إسكتلندة معادية، وثغور إيرلندة في أيدي القوات الإنجليزية. واستماتت السفن المصابة والرجال الذين يتضورون جوعاً في شق طريقهم حول الجزر البريطانية، وكانت المياه هائجة والريح عاصفة، فتحطمت الصواري وتمزقت الأشرعة، وما كان يمر يوم حتى يغرق مركب أو يغادره ملاحوه، وألقيت جثث ألوف في البحر، وتحطمت سبع عشرة سفينة على شواطئ إيرلندة الوعرة. وفي سليجو Sligo وحدها ظهر على شاطئها الرملي جثث 1100 من الغرقى الأسبان. ونزل بعض البحارة إلى البر في إيرلندة يتلمسون بعض الطعام والشراب، فلم يصيبوا شيئاً، وبلغ مئات منهم من الهزل حداً لم يستطيعوا معه القتال، فكان مصيرهم الذبح بأيدي أشباه المتوحشين من سكان السواحل من كل جنس. ومن المائة والثلاثين سفينة التي كانت قد غادرت أسبانيا أول الأمر، عاد 54 فقط، ومن السبعة والعشرين ألفاً من الرجال عاد عشرة آلاف معظمهم جريح أو مريض. ولما كان فيليب يحاط علماً بأنباء الكارثة الطويلة الأمد يوماً بيوم، فقد حبس نفسه في صومعة في الاسكوريال، ولم يكن أحد على التحدث إليه. أما البابا سكستس الخامس فقد دفع بأنه ما دام لم يحدث غزو على إنجلترا قط، فإنه لن يرسل إلى أسبانيا المفلسة بدوكات واحد.



وكانت إليزابث حريصة على المال قدر البابا عليه. وكانت يقظة إلى أية اختلاسات في البحرية، وطالبت بحساب عن كل شلن أنفقته البحرية والجيش قبل المعركة وفي أثنائها وبعدها. وعوض كل من هوارد وهوكنز من جيبه الخاص عن أي تناقض أو تضارب لم يستطيعا له تفسيراً(106). وكانت إليزابث تتوقع حرباً طويلة الأمد، ومن ثم تصرف للملاحين والجنود مؤناً قليلة ورواتب ضئيلة، وانتشر الآن مرض فتاك، أشبه بالتيفود، بين الرجال العائدين، قضى في بعض المراكب على نصف من فيها من الملاحين أو أقعدهم عن العمل، حتى تعجب هوكنز قائلاً: ماذا كان عساه أن يكون مصير إنجلترا لو أن الوباء سبق العدو؟
واستمرت الحرب البحرية حتى موت فيليب 1598. وسار دريك بأسطول وخمسة عشر ألفاً من الرجال لمساعدة البرتغاليين في ثورتهم ضد الأسبان (1589) ولكن البرتغاليين أحسوا ببغض أكثر للبروتستانت من للأسبان. وأفرط الإنجليز في احتساء النبيذ الذي استولوا عليه إلى حد الثمل، وباءت الحملة بالفشل والعار. وقاد لورد توماس هوارد أسطولاً إلى جزر الآزور ليعترض طريق الأسطول الأسباني الذي يحمل الفضة والذهب إلى أسبانيا، ولكن أسطول فيليب الجديد أرغم السفن الإنجليز على الفرار، فيما عدا السفينة "ريفنج Revenge" التي أمسكوا بها تتسكع خلف سائر السفن، فقاتلت قتالاً بطولياً حتى تغلب عليها الأسبان (1591). وقام دريك وهوكنز بحملة أخرى على جزر الهند الغربية (1595) ولكنهما تنازعا وماتا في الطريق. وفي 1596 أرسلت إليزابث أسطولاً آخر لتدمير السفن في الثغور الأسبانية مثل قادس، فوجد هناك 19 بارجة حربية و36 سفينة تجارية، ولكنها جميعاً هربت إلى عرض البحر، على حين أعمل اسكس السلب والنهب في المدينة. وأخفقت هذه الحملة كذلك ولكنها أظهرت من جديد سيادة إنجلترا على الأطلنطي.
وكان لهزيمة الأرمادا أثرها على كل شيء تقريباً في مدينة أوربا الحديثة. فكانت بداية تغيير حاسم في تكتيك البحرية، وأخلي القفز إلى سفن العدو ومصارعة الرجل الرجل مكانيهما للتراشق بالمدافع من جوانب السفينة وظهرها. وساعد


إضعاف أسبانيا الهولنديين على نيل استقلالها، وارتقى بهنري الرابع إلى عرش فرنسا، وفتح أمريكا الشمالية أمام المستعمرات الإنجليزية. وبقيت البروتستانتية وقويت. وتضاءل شأن الكثلكة. وكف جيمس السادس ملك إسكتلندة عن مصادقة البابوات ومجاملتهم. ولو أن الأرمادا بنى بطريقة احكم، وسارت قيادته على وجه أكمل، فلربما كانت الكاثوليكية قد استعادت إنجلترا، وسادت أسرة جيز في فرنسا. وخضعت هولندة، ولم يظهر قط شكسبير وبيكون وهما رمزان لإنجلترا الظافرة وثمرتان من نتاجها، ولربما كان على النشوة الغامرة في عهد إليزابث أن تواجه محكمة التفتيش الأسبانية. وهكذا تحدد الحروب مصير اللاهوت والفلسفة، كما أن القدرة على القتل والتدمير شرط أساسي للحصول على ترخيص بالحياة والبناء.


يتبع
 يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق