إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 29 أبريل 2014

1336 قصة الحضارة ( ول ديورانت ) قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> معارضة الإصلاح البرو -> البابوات والمجتمع -> مجمع ترنت 3- مجمع ترنت (1545-1563)





1336


قصة الحضارة ( ول ديورانت )

 قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> معارضة الإصلاح البرو -> البابوات والمجتمع -> مجمع ترنت

3- مجمع ترنت


(1545-1563)


قبل أن يأتي لوثر بزمن طويل ارتفعت مئات الأصوات مطالبة بعقد مجمع يصلح الكنيسة. وطالب لوثر بعرض نزاعه مع البابا على مجمع عام حر، وطالب شارل الخامس بعقد مجمع كهذا بأمل نفض يده من المشكلة البروتستنتية، وربما بأمل تأديب البابا كلمنت السابع، واستطاع ذلك البابا الذي أنهكته الهجمات المتكررة أن يجد مائة عذر لتأجيل مثل هذا المجمع حتى يصبح بعيداً عن متناوله. فقد تذكر ما حدث للسلطة البابوية في مجمعي كونستانس وبازل، وما كان ليسمح لأساقفة معادين له، أو لمندوبي الإمبراطور، بدس أنوفهم في سياساته أو مصاعبه الداخلية أو مولده. ثم كيف يستطيع مجمع أن ينقذ الموقف؟ ألم يرفض لوثر الاعتراف بالمجامع كما رفض الاعترافات بالبابوات؟ ولو قبل البروتستنت في مجمع وسمح لهم بحرية الكلام فإن النزاع الذي سيسفر عنه هذا القبول سيوسع الانشقاق ويزيده مرارة ويزعج أوربا بأسرها؛ ولو حيل بينهم وبينه لأثاروا غضب التمرد والعصيان. وأراد شارل أن يعقد المجمع على أرض ألمانية، ولكن فرانسوا أبى السماح للأكليروس الفرنسي بحضور اجتماع خاضع لسيادة الإمبراطور. يضاف إلى هذا


رغبة فرانسوا في الإبقاء على النيران البروتستنتية مشتعلة في المؤخرة الإمبراطورية. لقد كان الموقف مختلطاً أشد الاختلاط.
فلما جاء بولس الثالث ساورته كل مخاوف كلمنت، ولكنه كان أشجع منه. في عام 1536 أصدر دعوة لمجمع عام يجتمع في مانتوا في 23 مايو 1537، ودعا البروتستنت لحضوره. وافترض أن جميع الأطراف التي ستحضره ستقبل النتائج التي يخلص إليها المجمع؛ ولكن ما كان للبروتستنت وهم أقلية في مؤتمر كهذا أن يقبلوا مثل هذا الالتزام. وأشار لوثر بعدم الحضور، ورد مؤتمر البروتستنت المنعقد في شمالكالدين دعوة البابا دون أن يفتحها. وواصل الإمبراطور إصراره على عقد المجمع في أرض ألمانية، وكانت حجته أنه لو عقد في أرض إيطاليا لازدحم بالأساقفة الإيطاليين ولأصبح لعبة في يد البابا. وبعد الكثير من المفاوضات والتأجيلات وافق بولس على عقد المجمع في ترنت، وكانت تقع في أرض إمبراطورية وتخضع لشارل على الرغم من غلبة الإيطاليين على سكانها. ودعا المجمع للانعقاد فيها في أول نوفمبر 1542.
ولكن ملك فرنسا رفض أن يلعب دوره. وأبى نشر دعوة البابا في أرجاء ملكه، وهدد بالقبض على أي فرد من الأكليروس الفرنسي يحاول حضور مجمع منعقد على أرض عدوه، فلما افتتح المجمع لم يكن حاضراً سوى بضعة أساقفة كلهم إيطاليون، وأجل بولس الاجتماع حيناً حتى يسمح شارل وفرانسوا بانعقاد المجمع بكامل عدده. وبدا أن صلح كريبي قد أزاح العقبات من الطريق، ودعا بولس إلى عودة انعقاد المجمع في 14 مارس 1545. ولكن تجدد الخطر على الإمبراطور من العثمانيين أكرهه ثانية على مصالحة البروتستنت، فطلب تأجيل المجمع مرة أخرى، ولم يبدأ "المجمع المسكوني التاسع عشر للكنيسة المسيحية" دوراته النشيطة إلا في 13 ديسمبر 1545.


ولكن حتى هذه البداية لم يحالفها التوفيق، ولم تبلغ قط مبلغ "نصف العمل". ذلك أن البابا الذي قارب الثمانين ظل في روما، يرأس المجمع "غيابياً"، ولكنه ندب عنه ثلاثة كرادلة يمثلونه: ديل مونتي، وتشرفيني، وبولي. وكان قوام المجمع كردينال ترنت مادروزو، وأربعة رؤساء أساقفة، وعشرين أسقفاً، وخمسة من قادة الطرق الديرية، ويعض رؤساء الأديار، وبضعة لاهوتيين؛ ولم يكن في وسع المجمع حتى ذلك الحين الزعم بأنه "مسكوني"-أي عالمي(36). وبينما كان حق التصويت في مجمع كونستانس وبازل متاحاً للقساوسة، والأمراء، وبعض العلمانيين، كما كان متاحاً للأساقفة، وكان التصويت بالمجموعات القومية، فإن هذا الحق قصر هنا على الكرادلة والأساقفة والقواد ورؤساء الأديار، وكان التصويت بالأفراد، ومن ثم فإن الأساقفة الإيطاليين-وأكثرهم مدين للبابوية أو موال لها لأسباب أخرى-سيطروا على المجمع بأغلبيتهم العددية. وحضّرت اللجان المجتمعة في روما بإشراف البابا المسائل التي لا يمكن عرض غيرها للمناقشة(37). وقد لاحظ مندوب فرنسي أنه ما دام المجمع يزعم بأنه يعمل بإرشاد الروح القدس، فإن الأقنوم الثالث كان يأتي إلى ترنت بانتظام في حقيبة البريد القادمة من روما(38).
ودارت أولى المناقشات حول الإجراءات: أمن الواجب البدء بتعريف الإيمان ثم البحث في الإصلاحات، أم العكس؟ فأما البابا ومؤيدوه الإيطاليون فأرادوا البدء بتعريف للعقائد، وأما الإمبراطور ومؤيدوه فأرادوا البدء بالإصلاح، أملاً من شارل في تهدئة البروتستنت أو إضعافهم أو إحداث مزيد من الانقسام في صفوفهم، وأملاً من الأحبار الألمان والأسبان أن تقلل الإصلاحات من سلطة البابا على الأساقفة والمجامع. وقد أمكن الوصول إلى حد وسط، فاتفق على أن تحضر لجان متزامنة القرارات حول العقيدة والإصلاح، وتعرض هذه القرارات على المجمع بالتناوب.


وفي مايو 1546 أوفد بولس اثنين من اليسوعيين هما لاينيز وسالميرون ليساعدوا مندوبيه في الشئون اللاهوتية وفي الدفاع عن البابا؛ ثم انضم إليهما بيتر كانيزيوس وكلود لوجي. وما لبث تفقه اليسوعيين الذي لم يضارعهم فيه أحد أن أكسبهم نفوذاً طاغياً في المناقشات، وقاد إصرارهم على سلامة العقيدة المجمع إلى إعلان الحرب على أفكار الإصلاح البروتستنتي بدلاً من التماس التوفيق أو الوحدة. وكان حكم الأغلبية فيما يبدو أن أي تنازلات للبروتستنت لن ترأب الصدع؛ وأن الملل البروتستنتية تعددت وتنوعت بحيث لا يمكن لأي حل وسط أن يرضي بعضها دون أن يغضب البعض الآخر، وأن أي تغيير جوهري في العقائد التقليدية من شأنه أن يضعف بنيان الكاثوليكية العقائدي واستقرارها كله؛ وأن السماح للعلمانيين بالسلطات الكهنوتية سيفوض السلطة الأدبية للكهنوت والكنيسة، وأن هذه السلطة لا غنى عنها للنظام الاجتماعي؛ وأن لاهوتاً يرتكز بصراحة على الإيمان سيحبط نفسه إذا خضع لأهواء التفكير الفردي. وبناءً عليه فإن دورة المجمع الرابعة (أبريل 1546) أكدت من جديد كل فقرة من فقرات العقيدة النقوية، وادعت سلطاناً متساوياً لتقليد الكنيسة وللكتاب المقدس، وأعطت الكنيسة الحق دون غيرها في شرح الكتاب وتفسيره، وأعلنت أن ترجمة جيروم اللاتينية هي الترجمة والنص النهائيان للكتاب. وتقرر أن القديس توما الأكويني هو الشارح العمدة للاهوت النقي من الشوائب، ورفع كتابه "خلاصة اللاهوت" إلى مقام لا يعلوه فيه إلا الكتاب المقدس والمراسيم البابوية(39). وهكذا نرى أن الكاثوليكية بوصفها ديناً ذا سلطان معصوم بدأت عملياً من مجمع ترنت، وتبلورت على هيئة استجابة عنيدة لذلك التحدي الذي واجهتها به البروتستنتية، والعقلانية، والرأي الفردي. وانتهى بذلك "اتفاق الجنتلمان" بين كنيسة النهضة والطبقات المفكرة.


ولكن إذا كان الإيمان حيوياً إلى هذا الحد. فهل كان أيضاً كافياً في ذاته لاستحقاق الخلاص كما زعم لوثر؟ لقد ارتفعت في الدورة الخامسة (يونيو 1546) مناقشات عنيفة حول هذه النقطة، وأمسك أحد الأساقفة بلحية آخر وانتزع منها حفنة من الشعر الأبيض، ولما سمع الإمبراطور بما وقع أرسل إلى المجمع يقول إنه لم يهدأ فسيأمر بإلقاء نفر من الأساقفة في نهر أديج ليهدئ ثائرتهم(40). ودافع ريجنالد بولي عن رأي قريب قرباً خطراً من رأي لوثر، حتى أن الكردينال كارافا (الذي أصبح بولس الرابع فيما بعد) دمغه بالهرطقة، وانسحب بولي من المعركة قاصداً بادوا، واعتذر بالمرض عن التخلف عن حضور المجمع(41). ودافع الكردينال سيريباندو عن الصيغة التوفيقية التي عرضها في راتسبون الكردينال كونتاريني، وكان قد مات، ولكن لاينيز أقنع المجمع بأن يشدد على أهمية الأعمال الصالحة وحرية الإرادة، معارضاً بذلك لوثر معارضة كاملة.
أما إجراءات الإصلاح الكنسي فكانت حركتها أقل نشاطاً من تعريفات العقيدة. كان أسقف كاتدرائية القديس مرقس قد افتتح دورة 6 يناير 1546 برسمه صورة قاتمة للفساد الذي استشرى في العالم، والذي لن يفوقه في ظنه فساد الأجيال القادمة إطلاقاً، وقد عزا هذا الفساد "إلى شر الرعاة دون سواه". وقال إن هرطقة لوثر سببها الرئيسي خطايا الأكليروس، وإن إصلاح الأكليروس خير سبيل لقمع هذا التمرد(42). ولكن الإصلاح الجوهري الوحيد الذي تحقق في هذه الدورات الأولى كان ذلك الذي حرم على الأساقفة الإقامة بعيداً عن أسقفياتهم، أو شغل أكثر من أسقفية. واقترح المجمع على البابا أن ينتقل إصلاح قسم الوثائق من التوصيات النظرية إلى الأوامر الفعلية، ولكن بولس كان يريد أن تترك شئون الإصلاح للبابوية، فلما أصر الإمبراطور على مزيد من السرعة في مناقشات الإصلاح في المجمع، أمر البابا مندوبيه بأن يقترحوا نقل

المجمع إلى بولونيا-التي تسمح لروما بأن تشرف على أعمال المجمع إشرافاً أسرع لأنها واقعة في الولايات البابوية. ووافق الأساقفة الإيطاليون، أما الأساقفة الإسبان والإمبراطوريون فاحتجوا، وظهر في ترنت طاعون غير ذي بال في الوقت المناسب فقضى على أحد الأساقفة، وانتقلت الأغلبية الإيطالية إلى بولونيا، أما الباقون فظلوا في ترنت. ورفض شارل الاعتراف بدورات بولونيا. وهدد بعقد مجمع منفصل في ألمانيا. وبعد عامين من الجدل والمناورة خضع بولس وعطل مجمع بولونيا (سبتمبر 1549).
وخف توتر الموقف بموت بولس. ووصل يوليوس الثالث إلى تفاهم مع الإمبراطور، فدعا المجمع للانعقاد مرة أخرى في ترنت في مايو 1551 لقاء وعد من شارل بالامتناع عن تأييد أي إجراء من شأنه اختزال سلطة البابا، ووافق البابا على إعطاء اللوثريين فرصة الإدلاء بأقوالهم. ولكن هنري الثاني ملك فرنسا رفض الاعتراف بالجمع لأنه كره هذا التقارب بين البابا والإمبراطور. فلما اجتمع كان عدد الحاضرين ضئيلاً فاضطر إلى تأجيل اجتماعاته. ثم عاد إلى الاجتماع في أول سبتمبر بحضور ثمانية من رؤساء الأساقفة، وستة وثلاثين أسقفاً، وثلاثة رؤساء أديار، وخمسة قادة، وثمانية وأربعون لاهوتياً. ويواكيم الثاني ناخب براندنبورج، وسفراء يمثلون شارل وفرديناند.
وأكدت الدورة الثالثة عشرة للمجمع (أكتوبر 1551) من جديد عقيدة التحول الكاثوليكية، فالكاهن بتقديسه الخبز والخمر في سر القربان يحولهما فعلاً إلى جسد المسيح ودمه. بعد هذا لم يعد هناك جدوى من الاستماع إلى البروتستنت، ولكن شارل أصر على هذا. واختار دوق فورتمبرج، وموريس ناخب سكسونيا، وبعض مدن جنوبي ألمانيا-اختار هؤلاء أعضاء وفد بروتستنتي، ووضع ملانكتون بياناً بالعقيدة اللوثرية لرفعه

إلى المجمع. وضمن شارل للمندوبين سلامة المرور، ولكنهم إذ تذكروا كونستانس وهس طلبوا أيضاً ضماناً بسلامة المرور من المجمع ذاته. وبعد نقاش طويل منحهم المجمع الضمان. ولكن راهباً دومنيكياً ذكر في عظة تدور حول مثل هذا الزوان، ألقاها في ذات الكاتدرائية التي انعقدت فيها دورات المجمع، أن زوان المهرطقين قد يمهلون إلى أجل، ولكن لا بد في النهاية من حرقهم(43).
وفي 14 يناير 1552 ألقى المندوبون البروتستنت كلمتهم في المجمع. فاقترحوا تأكيد المراسيم التي أصدرها مجمعاً كونستانس وبازل بشأن تخويل المجامع سلطاناً أعلى على البابوات، وأن يحل أعضاء المجمع الحاضر من عهد الولاء للبابا يوليوس الثالث، وأن جميع القرارات التي وصل إليها المجمع حتى ذلك التاريخ يجب إلغاؤها، وأنه يجب أن يعيد مجمع موسع يمثل فيه البروتستنت تمثيلاً كافياً مناقشة الموضوعات من جديد(44). ومنع يوليوس الثالث بحث هذه المقترحات. وقرر المجمع تأجيل البت فيها إلى 19 مارس، وهو التاريخ الذي يتوقع فيه وصول مزيد من المندوبين البروتستنت.
وفي أثناء هذه العطلة طرأت على اللاهوت تطورات حربية على نحو غير متوقع. ففي يناير 1552 وقع ملك فرنسا حلفاً مع البروتستنت الألمان، وفي مارس زحف موريس أمير سكسونيا على إنزيروك، وفر شارل، وما كان لأية قوة أن تمنع موريس إن شاء من الاستيلاء على ترنت والإطاحة بالمجمع. واختفى الأساقفة واحداً بعد الآخر، وفي 28 أبريل عطل المجمع رسمياً. ونزل فرديناند بمقتضى معاهدة باساو (2 أغسطس) عن الحرية الدينية للبروتستنت المنتصرين حربياً، فلم يعد المجمع يهمهم في شيء بعد هذا.
ورأى بولس الرابع أن من الحكمة أن يدع المجمع يسبت خلال


رياسته. فلما جاء البابا بيوس الرابع، وكان شيخاً دمث الخلق، راودته فكرة مؤداها أن منح سر القربان بالخبز والخمر قد يهدئ البروتستنت كما هدأ البوهيميين من قبل. فطلب إلى المجمع أن ينعقد من جديد في ترنت في 6 أبريل 1561، ودعا إليه جميع الأمراء المسيحيين سواء الكاثوليك أو البروتستنت. وقد جلب المندوبون الفرنسيون إلى هذه الدورة الجديدة قائمة رهيبة بالإصلاحات التي ينشدونها: القداس باللغة القومية، والتناول بالخز والخمر، وزواج القس، وإخضاع البابوية للمجامع العامة، وإنهاء نظام الإعفاءات البابوية(45)، ويبدو أن مزاج الحكومة الفرنسية كان في تلك اللحظة شبه هيجونوتي. وأيد فرديناند الأول هذه المقترحات، وكان الآن إمبراطوراً، وأضاف أن "البابا يجب أن يتواضع، ويخضع لإصلاح شخصه ودولته وإدارته"، أما أساطير القديسين فينبغي أن تنقى من السخافات. وأما الأديار فينبغي إصلاحها حتى "لا تعود ثروتها الطائلة تنفق بمثل هذه السفه"(46). وأنذر الموقف بالخطر على بيوس، وترقب مندوبوه افتتاح الدورة في شيء من الذعر.
وبعد تأجيلات كان دافعها الروية أو الاستراتيجية التأم شمل الدورة السابعة عشرة للمجمع في 28 يناير 1562، بحضور خمسة كرادلة، وثلاثة بطارقة، وأحد عشر رئيس أساقفة، وتسعين أسقفاً، وأربعة قادة، وأربعة رؤساء أديار، ومختلف الممثلين العلمانيين للأمراء الكاثوليك. واستجابة لطلب من فرديناند عرض ضمان بسلامة المرور لأي مندوب بروتستنتي قد يرغب في الحضور، ولكن أحداً لم يحضر. وتزعم رئيس أساقفة غرناطة وشارل كردينال اللورين حركة ترمي إلى الحد من امتيازات البابا، فأكد أن الأساقفة لا يستمدون سلطانهم عن طريقه بل بـ "الحق الإلهي" المباشر، وردد أسقف سقوبية هرطقة من هرطقات لوثر،

إذ أنكر أنه كان على البابا سيادة على غيره من الأساقفة في الكنيسة الأولى(47). على أن هذا التمرد الأسقفي أطفأته البراعة البرلمانية التي أبداها مندوبو البابا، وولاء الأساقفة الإيطاليين والبولنديين للبابا، وبعض المجاملات البابوية التي وجهت في الوقت المناسب إلى كردينال اللورين. وانتهى الأمر بتوسيع سلطة البابا لا بالحد منها، واشترط على أسقف أن يقسم يمين الطاعة الكاملة للبابا. وأمكن تهدئة فرديناند بوعده أن البابا سيسمح في ختام المجمع بأن يعطي القربان بالخبز والخمر كليهما.
أما وقد فرغ المجمع من أهم نزاع واجهه، فقد انتهى بسرعة من أعماله الباقية. فحرم زواج الأكليروس، وقرر توقيع عقوبات صارمة على تسري القساوسة. وشرع الكثير من الإصلاحات الصغيرة للنهوض بأخلاق رجال الأكليروس ونظامهم. وقرر إنشاء كليات لاهوتية يدرب فيها الراغبون في القسوسية على عادات التقشف والتقوى. أما سلطات الإدارة البابوية فقد اختزلت. ووضعت قواعد لإصلاح الموسيقى والفن الكنسيين، وتقرر تغطية صور العرايا بما يكفي لمنع إثارتها للخيال الحسي. ووضع الفارق بين عبادة الصور وعبادة الأشخاص الذين تمثلهم الصور، وتأييد استعمال الصور الدينية بالمعنى الثاني. أما المطهر والغفرانات والتوسل إلى القديسين فقد دوفع عنها وأعيد تعريفها. وهنا اعترف المجمع في صراحة بالمفاسد التي انبعثت عن شررها نار التمرد اللوثري، وقد نص أحد القرارات على ما يأتي:-
"إن المجمع يقرر بصدد منح الغفرانات... إنه يجب القضاء كلية على كل كسب إجرامي متصل بها، باعتباره مصدراً لفساد محزن بين الشعب المسيحي؛ أما عن غير ذلك من ضروب الخلل والفوضى الناجمة عن الخرافة أو الجهل أو الاستهانة بالمقدسات أو أي سبب كائناً ما كان-فيما أن هذه كلها لا يمكن القضاء عليها بالتحريمات الخاصة نظراً إلى


انتشار الفساد على نطاق واسع، فإن المجمع يلقى على عاتق كل أسقف واجب التعرف على ما يوجد في أسقفيته من مفاسد، وعرضها على المجمع الإقليمي التالي، وإبلاغها إلى الحبر الأعظم في وما بعد موافقة الأساقفة الآخرين(48).
وأجمع البابا والإمبراطور على أن المجمع قد بلغ الآن نهاية نفعه، وفي 4 ديسمبر 1563 فض نهائياً وسط ابتهاج المندوبين المرهقين، بعد أن حدد طريقة الكنيسة لقرون قادمة.
لقد نجحت معارضة الإصلاح البروتستنتي في أهدافها الأساسية. صحيح أن الرجال-سواء في الأقطار الكاثوليكية أو البروتستنتية-ظلوا يكذبون ويسرقون، يغوون العذارى ويبيعون الوظائف، يقتلون ويشنون الحرب(49). ولكن أخلاق الأكليروس تحسنت، وروّضت الحرية الجامحة التي اندفعت فيها إيطاليا النهضة فتكيفت تكيفاً مهذباً وفق مزاعم البشر. فالبغاء الذي كان صناعة كبرى في روما والبندقية أيام النهضة أخفى الآن رأسه، وأصبحت العفة طابع العصر. وتقرر اعتبار تأليف الكتب القذرة أو نشرها جريمة كبيرة في إيطاليا. وهكذا شنق نيكولو فرانكو، سكرتير أريتينو وعدوه، بأمر من البابا بيوس الخامس عقاباً على تأليفه كتاب Priapeia(50). أما أثر القيود الجديدة على الفن والأدب فلم يكن مؤذياً أذى مطلقاً لا خلاف عليه؛ مثال ذلك أن فن الباروك انبعث على استيحاء من مكانه المغمور؛ كذلك إذا نظرنا من زاوية أدبية خالصة فإننا لا نجد تاسو، وجواريني، وجولدوني، يهبطون هبوطاً عنيفاً عن مرتبة بوياردو، وأريوستو، ومكافيللي المسرحي. وقد أقبل أعظم عصور أسبانيا الأدبية والفنية في ملء "الرجعية الكاثوليكية". ولكن الفرحة التي كانت طابع إيطاليا النهضة انطفأت، وفقدت النساء الإيطاليات بعض ذلك السحر والابتهاج الذي أتاهن من حريتهن السابقة لحركة الإصلاح البروتستنتي. وساد إيطاليا عصر أقرب ما يكون إلى



البيورتانية نتيجة لقيام أخلاقية قاتمة واعية. وانتعشت الديرية. وكانت خسارة للنوع الإنساني، من وجهة نظر العقل الحر، أن تقضي الرقابة الكنسية والسياسية على حرية الفكر النسبية التي سادت أيام النهضة، وكانت مأساة أن تعاد محكمة التفتيش في إيطاليا وغيرها من البلاد في الوقت الذي أخذ العلم ينبثق فيه محطماً قشرته الوسيطة، وضحت الكنيسة عن عمد بالطبقات المفكرة في سبيل الأكثرية المتدينة التي صفقت لقمع أفكار قد تذيب إيمانها المعزي.
كانت الإصلاحات الكنسية حقيقية ودائمة. وإذ كانت الملكية البابوية قد رفع مقامها فوق الأرستقراطية الأسقفية للمجامع ، فإن هذا كان يساير روح العصر، حيث كانت الأرستقراطيات في كل بلد، عدا ألمانيا، تفقد سلطانها ليتقلده الملوك. وأصبح البابوات الآن أرق من الأساقفة خلقياً، وأمكن تنفيذ النظام الذي تطلبه الإصلاح الكنسي على يد سلطة ممركزة خيراً من سلطة مقسمة، وأنهى البابوات محاباتهم لأقربائهم، وشفوا الإدارة البابوية من تسويفاتها الباهظة الثمن ورشوتها المفضوحة. وأصبحت إدارة الكنيسة بشهادة من فحصوا هذا الأمر من غير الكاثوليك نموذجاً للكفاية والنزاهة(51). وأدخل استعمال مقصورة الاعتراف المظلمة (1547) وجعل إجبارياً (1614)، ولم يعد القسيس عرضة لأن يفتنه جمال بعض المعترفات. أما باعة صكوك الغفران الجائلون قد اختفوا، وأما الصكوك فقد خصصت في معظم الحالات للعبادة الورعة ولأعمال البر لا التبرعات المالية، وبدلاً من أن يتقهقر رجال الأكليروس الكاثوليك أمام زحف البروتستنت أو الفكر الحر، انطلقوا ليعيدوا اقتناص فكر الشباب وولاء السلطان. وأصبحت روح اليسوعيين، تلك الروح الواثقة، الإيجابية، النشيطة، المدبرة على النظام، هي روح الكنيسة المجاهدة.
لقد كان شفاء الكنيسة في جملته شفاءً مذهلاً، وثمرة من أروع الثمرات التي جادت بها حركة الإصلاح البروتستنتي.


يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق