إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 29 أبريل 2014

1331 قصة الحضارة ( ول ديورانت ) قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> معارضة الإصلاح البرو -> الكنيسة والإصلاح -> القديسة تريزا والإصل 3- القديسة تريزا والإصلاح الديري


1331

قصة الحضارة ( ول ديورانت )

 قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> معارضة الإصلاح البرو -> الكنيسة والإصلاح -> القديسة تريزا والإصل

3- القديسة تريزا والإصلاح الديري


وكان التجديد الخلقي يجري في الوقت ذاته في الطرق الديرية. وفي وسعنا أن نتصور سمعة هذه الطرق من ملحوظة أبداها ميكل أنجيلو التقى السليم العقيدة، ذلك أنه حين نمى إليه سباستيان ديل بيومبو سيرسم صورة راهب في كنيسة سان بيترو بمونتوريو نصحه بألا يفعل، لأنه إذا كان الرهبان قد أفسدوا الدنيا على ما بها من سعة، فلا غرابة في أن يفسد


راهب الكنيسة وهي بهذا الصغر(16). وصمم جريجوريو كورتيزي أن يصلح الرهبنة البندكتية في بادوا في صبر وأناة، وجيرولامو سيريباندو الكهنة الأوغسطينيين، وإيجيديو كانيزيو النساك الأوغسطينيين، وباولو جوستنباني الكامالدوليين.
وقامت طق ديرية جديدة شددت على الإصلاح. فأسس أنطونيو ماريا لاكاريا كهنة القديس بولس النظاميين في ميلانو (1533)، وهم جماعة من القساسوة ينذرون حياة الفقر الديرية. وكانوا أول الأمر يلتقون في كنيسة القديس برنابا، ومن هنا تسميتهم بالبرنابيين. وفي عام 1535 وضعت القديسة أنجيلاً نظام الراهبات الأورسوليات ليقمن بتعليم الفتيات ورعاية المرضى أو الفقراء، وفي عام 1540 أسس القديس يوحنا الإلهي جماعة "إخوان الرحمة" في غرناطة للخدمة في المستشفيات. وفي عام 1523 اعتزم ماتيو دي باسي، مدفوعاً بالرغبة الحارة في الاقتداء بالقديس فرنسيس الأسيسي، أن يتبع حرفياً نظام الرهبنة الأخير الذي خلفه مؤسس الطريقة الفرنسسكانية لرهبانها. وانضم إلى غيره من الرهبان، وما وافى عام 1525 حتى شجع تكاثرهم ماتيو على أن يتلمس من البابا اعتماد فرع جديد من الفرنسسكان ملتزم بأشد قواعد الرهبنة صرامة. واستطاع الرئيس الإقليمي للطريقة أن يستصدر أمراً بإيداعه السجن لعصيانه، ولكن سرعان ما أطلق سراح ماتيو، وفي عام 1528 ثبت البابا كلمنت السابع طريقة الرهبان الكبوشيين الجديدة. وقد أطلق عليها هذا الاسم لأن رهبانها كانوا يلبسون نوع القلنسوة cappuccio التي لبسها فرنسيس. وكانوا يرتدون أخشن الثياب، ويعيشون على الخبز والخضر والفاكهة والماء، ويصومون أصواماً قاسية، ويسكنون قلالي ضيقة في أكواخ حقيرة، ولا يسافرون إلا مشاة، ويمشون حفاة طوال العام. وقد اكتسبوا مكانة مرموقة بفضل رعايتهم المضحية لمرضى وباء

1528-29. وكان روعهم عاملاً في إبقاء فتوريا كولونا ونفر آخر ممن اعتنقوا البروتستنتية حديثاً في حظيرة كنيسة ما زالت قادرة على إنجاب أمثال هؤلاء المسيحيين الغيورين.
أما أكثر الأشخاص إثارة للاهتمام في عصر الإصلاح الديري الذي نحن بصدده فرئيسة دير أسباني رقيقة البدن شديدة السيطرة، هي تريزا دي تشييدا. كانت ابنة فارس قشتالي من آبلة، فخور باستقامته المتطرفة وولائه للكنيسة. وقد درج على أن يقرأ على أسرته جانباً من حياة القديسين(17). أما الأم، المصابة بعلة مزمنة، فكانت تطرد السأم عنها بقراءة روايات الفروسية، وتشارك من فراش مرضها في مغامرات أماديس الغالي. وتذبذب خيال تريزا في طفولتها بين الحب الشاعري والاستشهاد الطاهر المقدس. وحين بلغت العاشرة نذرت على نفسها حياة الرهبنة. ولكنها لم تلبث بعد سنوات أربع أن تفتح صباها عن حسناء تطفر بفرحة الحياة، وتنسى ثوب الدير أمام الأثواب البهية التي ضاعفت من مفاتنها. وتوافد عليها المعجبون، ووقعت في حب أحدهم على تهيب ووجل، فدعاها إلى موعد لقاء. وفي اللحظة الحاسمة أحست بالخوف، واعترفت لوالدها بالمؤامرة الرهيبة. ولما كانت أمها قد ماتت، فإن الدون ألونزو دي تشييدا أودع الفتاة الحساسة ديراً للراهبات الأوغسطينيات في آبلة.
وكرهت تريزا حياة الدير ونظامه الكئيبين. ورفضت أن تقسم يمين الرهبنة، وتطلعت في صبر نافدٍ إلى عيد ميلادها السادس عشر حين يسمح لها بمغادرة الدير. ولكن ما إن دنا هذا الهدف حتى مرضت مرضاً خطيراً وأشرفت على الموت. ثم تماثلت للشفاء، ولكن مرح الشباب ولى. ويبدو أن ضرباً من الصرع الهستيري أصابها، ربما نتيجة للتمرد المكبوت على قيود غريبة عن غرائزها. وكانت النوبات تعلوها ثم تتركها


خائرة القوى. ونقلها أبوها من الدير وأرسلها لتعيش مع أخت لها غير شقيقة في الريف. وفي طريقها أعطاها أحد أعمامها كتاباً من تأليف القديس جيروم. وقد وصفت الرسائل الحية التي احتواها الكتاب أهوال الجحيم، وصورت مغازلات الجنسين كأنها الطريق المزدحم المفضي إلى الهلاك الأبدي. وقرأت تريزا الرسائل بشغف. وبعد نوبة شديدة أخرى طلقت كل فكرة في السعادة الدنيوية، وعزمت على الوفاء بنذر طفولتها. فعادت إلى آبلة ودخل دير التجسد الكرملي (1534).
وسعدت حيناً وسط روتين الدير المهدئ، روتين القداديس، والصلوات والاعترافات المطهرة، ولما تناولت القربان شعرت بالخبز كأنه المسيح حقاً على لسانها وفي دمها. ولكن نظام الدير الرخو أقلقها. فالراهبات لا يسكن القلالي بل الحجرات المريحة، ويأكلن الطعام الفاخر برغم الأصوام الأسبوعية، ويتزين بالقلائد والأساور والخواتم، ويستقبلن الزوار في قاعة الاستقبال، ويتمتعن بالإجازات الطويلة خارج أسوار الدير. وأحست تريزا أن هذه الظروف لا توفر لها الحماية الكافية من مغريات الجسد وأحلامه. ولعل هذه المغريات والأحلام، بالإضافة إلى سخطها المتزايد، جعلت نوباتها أكثر حدوثاً وأشد ألماً. وهنا أرسلها أبوها ثانيةً إلى أختها، وأعطاها عمها ثانيةً كتاباً دينياً اسمه "الأبجدية الثالثة" لفرانسسكو دي أوزونا. وكان أبجدية في الصلاة الصوفية، الصلاة دون كلام، لأن "الذين يدنون من الله في صمت هم وحدهم الذين يمكن أن يسمعهم ويعطيهم جواباً" على حد قول المؤلف(81). وفي عزلتها الريفية مارست تريزا هذه الصلاة الصامتة المتأملة التي لاءمت كل الملائمة ما أحدثته بها النوبات من حالة شبيهة بالوجد.
وحاول طبيب يعالج بالأعشاب أن يداويها، ولكن مستحضراته كادت تقتلها. ولما عادت إلى صومعتها في آبة (1537) كانت مشرفة


على الموت، تواقة إليه. ثم أصابتها أشد نوبتها عنفاً، وراحت في غيبوبة خالها الراهبات غيبوبة الموت، وظلت يومين باردة لا حراك بها، تبدو مقطوعة النفس؛ وحفر الراهبات لها قبراً. ثم أفاقت، ولكنها ظلت ضعيفة جداً بحيث لم تستطع أن تهضم طعاماً جامداً أو تحتمل أية لمسة. ورقدت ثمانية أشهر في مستشفى الدير فيما يقرب من الشلل الكلي. وتحسنت حالها فأصبح شللها جزئياً، ولكن "الفترات التي لم ترهقني فيها الآلام المبرحة كانت في الحق نادرة(19)". وأقلعت عن كل أنواع العلاج الطبي، وصممت على أن تعتمد كلية على الصلاة. وظلت ثلاث سنوات تتعذب وتصلي. وفجأة، في صباح يوم من أيام سنة 1540، استيقظت العليلة طريحة الفراش، التي بدت ميئوساً من شفائها، لتجد أطرافها وقد فارقها الشلل. فقامت ومشت. ويوماً بعد يوم أخذت تشارك بنصيب أنشط في أعمال الدير. وهلل الناس لشفائها باعتبارها معجزة، وكذلك كان اعتقادها فيه. ولعل الصلاة قد هدأت من ثائرة جهاز عصبي أرهقته الرغبات المصطرعة، والشعور بالإثم، وخوف الجحيم؛ ومنحت أعصابها التي هدأت، وبعد الأطباء عنها، جسدها سلاماً لم تعهده من قبل.
وذاع صيت دير التجسد باعتباره المكان الذي حدث فيه شفاء معجز. وتوافد الناس من المدن المحيطة ليروا الراهبة التي شفاها الله، وتركوا نقوداً وعطاياً للدير المقدس. وشجعت رئيسة الدير هذه الزيارات، وأمت تريزا بالظهور أمام الزوار. وأزعج تريزا أن تجد أنها تستشعر لذة في هذه الزيارات، وفي هذه الشهرة، وفي وجود رجال وسيمي الوجوه. وعادوها شعور بالإثم. وذات يوم (1542) بينما كانت تتحدث في قاعة الاستقبال إلى رجل استهواها بصفة خاصة، خيل إليها أنها ترى المسيح واقفاً إلى جوار الزائر. وراحت في غيبوبة، واقتضى الأمر حملها إلى قلايتها على نقالة.



وظلت ترى هذه الرؤى طوال الستة عشر عاماً التالية، وأصبحت عندها أكثر واقعية من الحياة. وفي عام 1558 فيما هي غارقة في صلاتها أحست بنفسها تخرج من جسدها وتصعد إلى السماء حيث رأت المسيح وسمعته. ولم تعد هذه الرؤى تضنيها، بل على العكس من ذلك تنعشها. كتبت تقول:
"إن النفس التي كثيراً ما تضنيها وترهقها الآلام الرهيبة قبل حالة الوجد تخرج منها ممتلئة عافية مقبلة على العمل بشكل يدعو إلى الإعجاب... كأن الله شاء أن يشارك الجسد ذاته في سعادة النفس بعد أن أطاع رغباتها... والنفس بعد هذه المنحة يملؤها قدر من الشجاعة عظيم إلى حد يجعل الجسد لا يشعر إلا بأوفر راحة لو مزق في تلك اللحظة إرباً في سبيل الله"(20).
وفي مناسبة أخرى خيل إليها أن "ملاكاً رائع الحسن" قذف "سهماً طويلاً من الذهب" في رأسه نار "مخترقاً قلبي عدة مرات، حتى وصل إلى صميم أحشائي".
"كان الألم حقيقياً بحيث اضطرني إلى الأنين بصوت عال، ومع ذلك كان عذباً إلى حد مدهش لم أتمن معه الخلاص منه. ليس في مباهج الحياة ما يستطيع أن يهب رضى أكثر من هذا. وحين سحب الملاك السهم تركني وقد اضطرمت كلي يحب عظيم لله "(21).
هذه الفقرات وأشبابها مما كتبته القديسة تريزا تقبل بسهولة تفسيرات التحليل النفسي، ولكن أحداً لا يستطيع التشكك في إخلاص القديسة الشديد. فقد أيقنت كما أيقن اجناتيوس بأنها رأت الله، وأن أعوص المشكلات كانت تحل لها في هذه الرؤى.
"ذات يوم وأنا أصلي وهب لي أن أدرك في لحظة واحدة كيف أن



الله يرى ويحتوي كل الأشياء... وهذه من أبرز النعم التي منحني الله إياها... فقد جعلني الرب أفهم كيف أن إلهاً واحداً يمكن أن يكون في ثلاثة أقانيم. وجعلني أرى هذا في وضوح شديد بحيث أخذني عجب شديد كما غمرتني سكينة عظمى... والآن حين أفكر في الثالوث الأقدس... أشعر بسعادة لا ينطق بها"(22).
أما الراهبات أخوات تريزا فقد عللن رؤاها بأنها ليست سوى أوهام ونوبات مرضية(23)، وإلى هذا الرأي كان يميل آباء اعترافها، فقد قالوا لها في جفاء "لقد خدع الشيطان حواسك". وخال أهل المدينة أن الشياطين مستها، وطالبوا محكمة التفتيش بفحصها، واقترحوا أن يطرد قسيس شياطينها بالتعزيم. ونصحتها صديقة بأن تبعث للمحكمة بقصة حياتها ورؤاها، فكتبت سيرتها في كتابها المشهور "Vida"، ففحصه رجال المحكمة، وحكموا بأنه وثيقة مقدسة خليقة بأن تشدد إيمان كل من يقرؤها.
فلما أن دعم هذا الحكم مركز تريزا، صممت-وقد بلغت الآن السابعة والخمسين-أن تصلح طريقة الراهبات الكرمليات. وبدلاً من محاولة إعادة نظام النسك القديم في دير التجسد، قررت افتتاح دير منفصل دعت إليه من الراهبات وطالبات الرهبنة كل من تقبل عيشة الفقر المطلق. لقد كان الكرمليات القدامى يلبسن الخيش الخشن، ويمشين حافيات، ويقتصدن في الطعام ويصمن أصواماً كثيرة. واشترطت تريزا على راهباتها الكرمليات الحافيات نظاماً أقرب ما يكون إلى هذا النظام الصارم، لا بوصفه غاية في ذاته، بل رمزاً للتواضع ولنبذ هذه الحياة الدنيا بما فيها من مغريات. وقامت في طريقها مئات العقبات؛ فندد أهل آبلة بالخطة لأنها تهدد قطع كل اتصال بين الراهبات وأقاربهن. ورفض رئيس الطريقة الإقليمي الإذن لها بفتح دير جديد، فلجأت تريزا إلى البابا بيوس


الخامس، وظهرت بموافقته. ووجدت أربع راهبات قبلن الانضمام إليها، وكرس دير القديس يوسف الجديد في عام 1562 في شارع ضيق من شوارع آبلة. وكانت راهباته يلبسن صنادل من الحبال، وينمن على القش ويصمن عن اللحم، ويلتزمن ديرهن لزوماً دقيقاً.
ولم يرق رهبات الدير الأقدم-وعددهن 180-هذا الفضح البسيط لأساليب حياتهن المتهاونة. وأمرت رئيسة الدير تريزا بأن تستأنف ارتداء ثوبها الأبيض السابق، ولبس حذائها، وأن تعود إلى دير التجسد، زاعمة أنها التزمت قِبلها بنذر الطاعة. وأطاعت تريزا. ودينت بخطيئة الكبرياء، وحبست في صومعتها. وقرر مجلس المدينة إغلاق دير القديس يوسف، وأوفد أربعة رجال أشداء لإجلاء الراهبات اللاتي لم يعد لهن الآن رئيسة. ولكن العذارى لابسات الصنادل قلن "إن الله يريدنا أن نمكث هاهنا، فنحن إذن ماكثات". ولم يجرؤ الموظفون القانونيون القساة على إكراههن على الجلاء. أما تريزا فقد قذفت الرعب في قلب الرئيس الكرملي الإقليمي حين أومأت إليه أنه إنما يسئ إلى الروح القدس بوضعه العراقيل في طريق خططها؛ فأمر بالإفراج عنها. وغادرت الدير معها أربع راهبات، وسارت النسوة الخمس إلى دارهن الجديدة وسط الثلوج. وحيا الراهبات الأربع القدامى تريزا "Madre أما" لهن وهن سعيدات، وأصبحت الآن معروفة في أسبانيا كلها تقريباً باسم تريزا يسوع، صديقة الله الحميمة.
وكان نظام رهبنتها يتسم بالمحبة والبهجة والحزم. فالبيت موصد في وجه العالم، لا يسمح للزوار بدخوله، والنوافذ مكسوة بالقماش، والأرض المبلطة هي الأسِرة والموائد والمقاعد. وبني في الجدار قرص دائر، وأي طعام يضعه الناس على نصفه الخارجي يقبله الدير بشكر، ولكن ليس للراهبات أن يستجدين. وكن يكملن ما نقص من قوتهن


بالغزل وأشغال الإبرة، وتوضع منتجاتهن خارج باب الدير، ولأي مشتر أن يأخذ منها ما شاء ويترك مقابله ما شاء. وأقبلت راهبات جديدات على الرغم من هذا التقشف كله، ومن بينهن امرأة كانت أجمل نساء آيلة وأشدهن فتنة للرجال. ولما زار الرئيس العام للأديار الكرملية هذا الدير الصغير بلغ به التأثر أشده، فطلب إلى تريزا أن تؤسس بيوتاً مماثلة له في سائر أرجاء أسبانيا. وفي عام 1567 استصحبت بضع راهبات، وسافرن في عربة حقيرة قطعت سبعين ميلاً على طرق رديئة لتؤسس ديراً للراهبات الكرمليات الحافيات في مدينا ديل كاميو. وكان البيت الوحيد الذي عرض عليها بناءً مهجوراً متهدماً تداعت جدرانه ورشح سقفه، ولكن حين رأى أهل المدينة الراهبات يحاولن العيش فيه، توافد النجارون والمبلطون لإصلاح الدار وصنع أثاث بسيط له دون أن يدعوهم لذلك أحد أو يتقاضوا على عملهم أجراً.
وجاء إلى تريزا رئيس دير الرهبان الكرمليين في مدينا طالباً إليها قواعد رهبنتها رغبة منه في إصلاح رهبانه المتراخين. وكان الرجل فارع القوام، ولكن جاء في صحبته شاب قصير هزيل جداً حتى أن تريزا قالت بعد رحيلهما في دعابتها التي كانت تضفي الإشراق على نسكها "تبارك الله، فإن عندي الآن راهباً ونصفاً لتأسيس ديري الجديد(24)". أما هذا الرويهب، واسمه جوان دي أيبس ألفاريز، فقد كتب له أن يصبح سان جوان دي لاكروز، أي القديس يوحنا الصليبي، روح الرهبان الكرمليين الحفاة وفخرهم.
ولم تنته مصاعب تريزا. ذلك أن الرئيس الإقليمي للأديار الكرملية عينها رئيسة على دير التجسد، ربما اختباراً لحكمها وشجاعتها. وكان راهبات هذا الدير يكرهنها، وقد خشين أن تذيقهن الآن ألوان الذل والهوان انتقاماً منهن. ولكنها عاملتهن بكثير من التواضع والرقة حتى


كسبتهن الواحدة بعد الأخرى، وما لبث النظام الجديد الأكثر صرامة أن حل شيئاً فشيئاً محل التراخي القديم. ومن هذا الانتصار تقدمت تريزا لإنشاء دير جديد في إشبيلية.
وصمم الرهبان الطريقة التي تراخى نظامها على وقف امتداد الإصلاح. فهرَّب بعضهم عميلة تنكرت في زي راهبة حافية إلى دير إشبيلية. وما لبث هذه المرأة أن أعلنت على الملأ في أسبانيا أن تريزا تجلد راهباتها وتتلقى الاعترافات كأنها كاهن. وطلب إلى محكمة التفتيش التحقيق معها ثانية. ودعيت للمثول أمام المحكم الرهيبة، واستمتعت المحكمة إلى شهادتها وأصدرت هذا الحكم "لقد برئت من كل التهم... فاذهبي وواصلي عملك(25)". ولكن أعدائها كسبوا سفيراً بابوياً إلى صفوفهم. فندد بتريزا "امرأة عاصية متمردة، تنشر التعاليم المؤذية تحت قناع التقوى، تركت ديرها مخالفة بذلك أوامر رؤسائها؛ امرأة طماعة، تعلم اللاهوت كأنها من فقهاء الكنيسة، محتقرة بذلك القديس بولس الذي منع النساء من أن يعلّمن". ثم أمرها أن تعتكف حبيسة في دير للراهبات بطليطلة (1575).
وحارت تريزا إلى من تلجأ في هذا التغير الجديد، فكتبت إلى الملك. وكان فيليب الثاني قد قرأ "حياتها". وأحب الكتاب. فأرسل مبعوثاً خاصاً من بلاطه يدعوها لمقابلة الملك، واستمع إليها، واقتنع بورعها. وسحب السفير البابوي أمره السابق بفرض القيود على تريزا بعد أن وبخه الملك، وأعلن أنه زود بمعلومات كاذبة.
وفي وسط أسفارها وشدائدها كتبت كتيبات تعبدية صوفية شهيرة مثل "طريق الكمال 1567" و "الحصن الداخلي 1577". وقد كشفت في هذا الكتيب عن عودة آلامها الجسدية فقالت "يخيل إلي أن أنهاراً مفعمة بالمياه تتدافع داخل رأسي فوق منحدر سحيق، ثم أعود فاسمع الطيور في غنائها وصفيرها بعد أن طغى عليها ضجيج المياه. وأنا أرهق ذهني وأزيد صداعي"(26)، وعاودتها النوبات القلبية، وكان عسيراً


على معدتها أن تحتفظ بالطعام، وراحت على الرغم من هذا تتنقل في ألم من دير إلى دير من تلك الأديار الكثيرة التي أسستها، فاحصة مصلحة، ملهمة. وفي ملقا أصابتها نوبة شلل. ثم شفيت، ومضت إلى طليطلة، فنزلت بها نوبة أخرى. ثم شفيت، ومضت إلى سقوبية وبلد الوليد، وبلنسيه، وبرغش وألبه، وهناك اضطرها نزف في رئتيها أن تتوقف. واستقبلت الموت ببشاشة، واثقة أنها إنما ترحل عن عالم من الألم والشر إلى صحبة المسيح الخالدة.
ودفنت في وسقط رأسها بعد منافسة معيبة بين ألبة وآبلة وخطف جسدها المرة بعد المرة. وزعم المصلون الأتقياء أن جسدها لم يفسد قط، وروى حدوث العجائب الكثيرة عند قبرها. وفي عام 1593 تلقت طريقة الراهبات الكرمليات الحافيات اعتماد البابا. واشترك نفر من أشهر الأسبان مثل سرفانتس ولوبي دي فيجا في توجيه نداء إلى البابا يلتمسون فيه على الأقل تطويبها. وهذا ما حدث (1614)، وبعد ثماني سنوات تقرر أن تكون تريزا إحدى اثنين من قديسي أسبانيا الحامين، أما الثاني فهو الرسول يعقوب.
في غضون هذا خرج من أسبانيا من هو أعظم من تريزا ليصلح الكنيسة ويهز الدنيا.

يتبع
 يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق