إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 29 أبريل 2014

1296 قصة الحضارة ( ول ديورانت ) قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> القانون 2- القانون


1296

قصة الحضارة ( ول ديورانت )

 قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> القانون

2- القانون


لقد كان عصراً قاسياً رهيباً، انسجمت قوانينه مع اقتصاد لا يرحم، وإملاق مخزٍ وفن كئيب، ولاهوت تخلى ربه عن المسيح وتبرأ منه.
وكانت الجريمة أمراً طبيعياً، بين سكان كتب على معظمهم الفقر والفاقة في الدنيا، واللعنة في الآخرة. وكان القتل منتشراً بكثرة في كل الطبقات. وتدلى الخنجر من حزام أي رجل ذي وزن، أما الضعفاء فقد اعتمدوا على القانون في إصلاح أخطائهم. وكانت جرائم الهوى والانفعال كثيرة جداً قدر كثرتها في روايات شكسبير. فلم يكن في زمرة الرجال أي "عطيل" أخفق في ذبح زوجته التي اشتبه في سلوكها. واعتبر المسافرون قطع الطرق أمراً مفروغاً منه أو قضية مسلماً بها، فساروا في جماعات. وكان عدد اللصوص في المدن التي لم تزل غير مضاءة ليلاً، وفيراً قدر وفرة العاهرات. وكان لزاماً أن يكون بيت الرجل حصناً منيعاً. وفي أوج عظمة فرنسوا الأول، أعملت السلب والنهب في باريس في وضح النهار عصابة من اللصوص أطلق عليها اسم "الأولاد الأشرار". ويروي لنا برانتوم، رواية غير موثوقة كما تعودنا منه، كيف أن شار التاسع رغب في أن يعرف كيف ينفذ النشالون أفانينهم، "فأمر شرطته بدعوة بعضهم إلى حفلة راقصة ملكية، وطلب بعد انتهاء الحفل أن يرى غنائمهم، فوجد أن ما جمعوه من نقود وحلى وملابس بلغ دون تباه أو تفاخر، في هذا المساء، ما قيمته عدة آلاف من الدولارات، مما ظن معه أن الملك سيموت من كثرة الضحك". ورخص لهم في الاحتفاظ بحصيلة فنهم ودراستهم، ولكنه ضمهم إلى الجيش لأن مماتهم خير من بقائهم على قيد الحياة(13). فإذا صنفنا، باعتبارها جرائم، الغش في السلع، والمغالطة التي تتسم بها حيل رجال الأعمال، وتفشى الرشوة في المحاكم، والاستيلاء على أملاك الكنيسة، وتوسيع الحدود بالغزو

والفتح، نقول إذا صنفنا هذه كلها في عداد الجرائم، لوجدنا أن واحداً من بين كل اثنين في أوربا لص، وقد نضفي على بعضهم الحصانة الأكليريكية، وقد نسلم بوجود حرفي أمين هنا أو هناك. فإذا أضفنا إلى ذلك شيئاً من إحراق المباني عمداً، وبعضاً من حوادث اغتصاب الفتيات، وقليلاً من الخيانة، لبدأنا ندرك المشاكل التي تواجهها قوات النظام وحماة القانون.
وقد نظمت قوات النظام والقانون هذه، لتوقيع العقاب، أكثر منها لمنع الجرائم، وكان رجال الشرطة في بعض المدن الكبرى، مثل باريس، هم حفظه الأمن، وكان لكل قسم في المدينة مراقبوه وحراسه، ولكل أبرشية شرطتها. ولكن ضبط الأمن والنظام كان في المدن سيئاً إجمالاً. وأجهد رجال الحكم أنفسهم في مكافحة الطبيعة البشرية، وأخيراً قدروا أنه من الأفضل والأقل تكلفة، الحد من الجرائم بفرض عقوبات بالغة الشدة وتنفيذها علناً أمام أعين الناس... وكان هناك عشرات من الجرائم الرئيسية: القتل، الخيانة، الهرطقة، تدنيس المقدسات والمعابد، السحر، السلب، التزوير، التزييف، التهريب، الإحراق عمداً، الحنث بالقسم، الزنى، اغتصاب الفتيات (إذا لم يسو بالزواج)، اللوط، "الانغماس في الشهوات البهيمية"، غش الموازين والمقاييس، إفساد الطعام، تخريب الممتلكات ليلاً، الهروب من السجن، الإخفاق في محاولة الانتحار، وقد تكون العقوبة ضرب العنق بدون ألم أو تعذيب نسبياً، وهذا امتياز اختص به عادة السيدات وأفاضل الرجال، أما من هم أقل مكانة فكانوا يشنقون. أما الهراطقة وقتلة الأزواج فكانوا يحرقون. أما السفاحون البارزون فكانوا يشدون أطراف الواحد منهم (يديه ورجليه) إلى أربعة خيول يجري كل منها في اتجاه مضاد حتى يتمزق جسم المجرم. واصدر هنري الثامن في 1531 قانوناً يعاقب من يدس السم، بالغلي حياً(14)، كما نفعل نحن الأكثر وداعة ورقة بالمحار أو السمك.



ونص قانون محلي في سالزبرج بان يحرق المزور أو يغلى حتى الموت. وأن يقطع لسان الحانث في اليمين من رقبته. أما الخادم الذي يضاجع زوجة سيده أو ابنته أو شقيقته فيضرب عنقه أو يشنق(15). وأحرقت جولين رابو في آنجرز (1531) لأنها كانت قد قتلت طفلها أثر ولادة مؤلمة(16). وهناك أيضاً، إذا صدقنا ما رواه بودن، عدة أفراد أحرقوا أحياء لتناولهم اللحم يوم الجمعة، ورفضهم الندم على ما فعلوا، أما الذين أظهروا الندم فكانت عقوبتهم مجرد الشنق(17). وكانت العادة أن تترك جثة المشنوق معلقة حتى تنهش الغربان لحمها، ليكون عظة وعبرة للأحياء، وفي الجرائم الصغرى كان يجلد الرجل أو المرأة أو تقطع إحدى يديه أو قدميه أو أذنيه، أو انفه، أو تفقأ إحدى عينيه أو كلتاهما، أو يكوى بالحديد المحمى. وهناك جنح أخف كان عقابها السجن الذي تختلف فيه ظروف المعاملة بين المجاملة والخشونة، أو تعذيب المذنب بآلة خشبية ذات ثقوب تقيد فيها رجلاه ويداه، أو إدخال أيدي المذنب ورأسه في آلة خشبية تسمى "المشهرة"، أو الجلد، أو التعذيب على كرسي التغطيس. وكان السجن وفاء للدين معروفاً شائعاً في جميع أنحاء أوربا. وبصفة عامة كان قانون العقوبات في القرن السادس عشر أشد قساوة منه في العصور الوسطى، ولقد عكس الفوضى الأخلاقية في ذاك العصر.
ولم يكن الناس يستاءون من هذه العقوبات الصارمة، بل لقد أحسوا ببعض السرور والابتهاج في مشاهدة تنفيذها وساعدوا في بعض الأحيان في التنفيذ. ولما اعترف مونتكوكولى تحت وطأة التعذيب، بأنه كان قد سمم، أو حاول أن يسمم، فرانسيس، الابن العزيز المحبوب لفرانسوا الأول، مزقت أوصاله حياً، بربط أطرافه إلى أربعة خيول جرت في أربعة اتجاهات، (ليون 1536) وقيل إن الجمهور مزق بقايا جسمه إلى قطع


صغيرة، وفتت أنفه، واقتلع عينيه، وحطم فكيه، ومرغ رأسه في الوحل، وجعله يموت ألف مرة قبل أن يفارق الحياة(18).
وهناك إلى جانب القوانين التي شرعت للجرائم، وضعت "القوانين الزرقاء أو قوانين المتطهرين" ضد اللهو والتسلية التي يظن أنها تجافي التقي والورع، أو البدع التي تنافي العرف بشكل حاد، فقد اقتضى القانون العرفي في العالم الكاثوليكي أكل السمك في أيام الجمعة، كما اقتضته قوانين الدولة في إنجلترا البروتستانتية في عهد إدوارد السادس دعماً لصناعة صيد الأسماك، وتدريباً للرجال على ركوب البحر من أجل الأسطول(19).وكان الميسر دائماً غير مشروع، ودائماً شائعاً مرغوباً فيه. وأمر فرانسوا، الذي عرف أساليب اللهو والتسلية، بالقبض على من يلعبون الورق أو النرد في الحانات أو نوادي الألعاب (1526) ولكنه أباح إقامة "يانصيب" عام (1539). وقلما كان القانون يعاقب على إدمان الخمر، على حين اعتبر البطالة والخمول جريمة رئيسية تقريباً. أما قوانين التبذير أو الإنفاق بسخاء- وهي التي وضعت لضبط الأغنياء الجدد الذين ينفقون إنفاقاً مريباً يدعو إلى الاشتباه، والمحافظة على فوارق الطبقات، فقد حددت هذه القوانين، الأزياء والزينة والأثاث ووجبات الطعام وواجبات الضيافة. ويقول لوثر "عندما كنت صبياً كانت الألعاب محرمة، حتى أن صانعي أوراق اللعب، والعازفين على المزمار والممثلين لم يكن يسمح لهم بشهود الأسرار المقدسة. أما من كانوا قد اشتركوا في الألعاب، أو حضروا حفلات الألعاب أو الروايات، فكانوا يجعلون هذا موضوع اعتراف أمام القسيس"(20). وعاشت هذه المحرمات بعد الإصلاح الديني. وبلغت ذروتها في أخريات القرن السادس عشر.
وثمة بعض العزاء في أن التطبيق قل أن كان على قدر صرامة القانون،

وكان التهرب أمراً ميسوراً. وكم من قاض أو محلف، بدافع الشفقة أو التخويف أو بفضل الرشوة- أطلق سراح كثير من الأوغاد مقابل عقوبة يسيرة أو غرامة.وكانت قوانين اللجوء إلى الكنيسة لا يزال معمولاً بها في عهد هنري الثامن. وكانت المرونة في التطبيق، على أية حال، تتوازن مع استعمال التعذيب لانتزاع الاعترافات أو البيانات. وهناك كانت قوانين هنري الثامن، على الرغم من كونها أقسى القوانين في تاريخ إنجلترا- نقول كنت متقدمة عن زمانها(21)، لأنها حرمت التعذيب إلا إذا رؤى أن للجريمة علاقة بالأمن القومي(32)، ويمكن أن يكون الإبطاء في محاكمة المتهم تعذيباً أيضاً. فقد شكا كورتيز الأسباني إلى شارل الخامس من أن المتهمين، حتى بأخطاء يسيرة، طال بقاؤهم في السجن عشر سنين أو نحوها، قبل أن يحاكموا، وأن المحاكمات قد تتلكأ لمدة عشرين عاماً(23).
وترعرع المحامون وتضاعف عددهم مع اضمحلال جماعة الكهنة، وملئوا مناصب السلطة القضائية والبيروقراطية العالية، ومثلوا الطبقات الوسطى في الجمعيات الوطنية والبرلمانات الإقليمية، وحتى الطبقة الأرستقراطية ورجال الدين اعتمدوا على المحامين في القضايا المدنية، وتكونت منهم في فرنسا طبقة جديدة: "نبلاء الرداء- الروب"، أو على حد قول رابليه الهجاء الفرنسي "القطط ذوات الفراء".واختفى القانون الكنسي في الأقطار البروتستانتية. وحلت فلسفة التشريع محل اللاهوت "كأداة للمقاومة" في الجامعات. وعاد القانون الروماني إلى الحياة في الأقطار اللاتينية، وسيطر على ألمانيا في القرن السادس عشر، وعاش القانون المحلي معه جنباً إلى جنب في فرنسا. أما في إنجلترا فقد فضلوا عملية "القانون العرفي". ولكن كان لقوانين جستنيان بعض الأثر في تشكيل وتدعيم الحكم المطلق الذي أقامه هنري الثامن. على أنه في


بلاط هنري الثامن نفسه، ألف قسيسه الخاص توماس ستاركي (1537) "حواراً" كانت الفكرة الأساسية فيه أن القوانين يجب أن تفرض إرادة الملك، وأن الملوك يجب أن يخضعوا للانتخاب والعزل.
لا يمكن أن يطول حكم هذه البلاد حكماً صالحاً،

أو الاحتفاظ فيها بسياسة حكيمة، طالما أنها تحكم بإرادة

فرد لم يتم اختياره بطريق الانتخاب، بل أنى إلى العرش بالتعاقب

الطبيعي. فقلما شهدنا أن الذين يأتون إلى العرش أو الممالك

عن طريق هذا التعاقب، كانوا جديرين بتولي هذه المناصب

السامية والسلطات العالية.... وأي شيء أبغض إلى الطبيعة من

أن تحكم أمة بأسرها وفق إرادة أمير؟؟ وأي شيء أكثر تنافياً

مع العقل من أن شعباً برمته يحكمه من يعوزه العقل عموماً؟؟..

وليس ثمة إنسان يستطيع أن يخلق أميراً حكيماً عاقلاً ممن ينقصه

الذكاء والحصافة بالطبيعة... ولكن في مقدور الإنسان أن

ينتخب ويختار من يتوفر فيه العقل والعدالة معاً، فينصبه

أميراً، ومن ثم يخلع الطاغية المستبد(24).

وكان موضع العجب والغرابة أن يموت ستاركي موتاً طبيعياً بعد عام واحد من كتابه "حواره" الذي لم يطبع إلا بعد 334 سنة من تدوينه.


يتبع
 يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق