1227
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> لوثر وأرازموس -> العلماء الإنسانيون و
3- العلماء الإنسانيون والإصلاح الديني
إن العقيدة المتعصبة للمصلحين الدينيين، وعنف كلامهم وتشيعهم الطائفي واحتقارهم، وتدميرهم للفن الديني، ولاهوتهم القائل بالجبر قضاء وقدراً وعدم اكتراثهم بالتعليم الدنيوي وتأكيدهم المتجدد للشياطين والجحيم،
وتركيزهم على الخلاص الشخصي في حياة بعد القبر، كل هذه شاركت في تنفير علماء الإنسانيات من الإصلاح الديني، فقد كان المذهب الإنساني ردة وثنية إلى الثقافة الكلاسية، أما البروتستانتية فقد كانت عودة تتسم بالورع إلى أوغسطين الحزين، إلى المسيحية الأولى، بل إلى الدين اليهودي في العهد القديم، وتجدد النضال بين الهلينية والعبرية. وكان علماء الإنسانيات قد أحرزوا تقدماً ملحوظاً داخل حظيرة الكاثوليك وقبضوا على زمام البابوية في شخص نيكولاس الخامس وليو العاشر، ولم يتسامح معهم البابوات فحسب، بل إنهم أسبغوا عليهم حمايتهم، وعاونوهم على استرداد الكنوز الضائعة من الأدب والفن الكلاسيين، وكل هذا على أساس الفهم الضمني بأن كتاباتهم سوف توجه، فرضاً باللاتينية، إلى الطبقات المتعلمة، ولن تهدم العقيدة الكاثوليكية عند الناس.
ووجد علماء الإنسانيات، وقد أزعجهم وقتذاك هذا الاتفاق الودي المريح، أن أوروبا التيتونية كانت أقل مبالاة بهم وبثقافتهم الأرستقراطية منها بالحديث الحار عن الروح للوعاظ الجدد الذين يتكلمون باللغة الوطنية، والذي يدور حول الرب والجحيم والخلاص الفردي. وسخروا من كل المناقشات المتحمسة التي ثارت بين لوثر وإيك، وبين لوثر وكارلشتادت، وبين لوثر وزونجلى، باعتبارها معارك حول نتائج، اعتقدوا أنه قضي عليها منذ عهد بعيد، أو انطوت في غمار النسيان برقة. ولم يستسيغوا اللاهوت وأصبحت السماء والجحيم أساطير بالنسبة إليهم، وأقل حقيقة من ميثولوجيا اليونان وروما. ورأوا أن البروتستانتية خيانة لعصر النهضة، وأنها كانت تستعيد كل المذاهب الفوق الطبيعية واللاعقلية والشيطانية التي رانت بالظلام على عقلية القرون الوسطى، وقد شعروا بأن هذا لم يكن تقدماً، بل رجعية... كان إخضاعاً من جديد للعقل المتحرر لسيطرة الأساطير البدائية للسوقة. واستاءوا من طعن لوثر للعقل ومن تمجيده للعقيدة كما كان يعرفها البطارقة أو الحكام من البروتستانت. وماذا بقي للإنسان من
تلك الكرامة التي كان بيكوديلا ميراندولا قد وصفها بمثل هذا النبل، إذا كان كل شيء حدث على ظهر الأرض - كل بطولة وكل تضحية، وكل تقدم في أدب السلوك الإنساني يستحق الذكر - مجرد عمل آلي، قام به أناس عاجزون تافهون، لتحقيق ما سبق في علم الله، وتنفيذ أوامره التي لا نعرفها؟.
وليس من شك في أن علماء الإنسانيات الذين افتقدوا الكنيسة، وإن كانوا لم يتركوها قط - وينفي لينج وبياتوس رينانوس وتوماس مورنر وسيباستيان برانت - قد سارعوا وقتذاك إلى الإعراب عن ولائهم.
وابتعد عن لوثر كثير من علماء الإنسانيان الذين هللوا لصورة لوثر الأولى باعتبارها إصلاحاً شاملاً لظلم مخجل، وذلك كلما تشكل اللاهوت والجدل الديني للبروتستانت. وها هو فيليبالد بيركهايمر وهو هليني وسياسي، كان قد أيد لوثر علناً، حتى أنه حرم من غفران الكنيسة في المسودة الأولى للمنشور Exsurge Domine راعه عنف كلام لوثر وقطع صلته بالثورة، وفي عام 1529 وبينما كان لا يزال ينتقد الكنيسة كتب يقول:
"لا أنكر أن كل أعمال لوثر لم تبد عبثاً في مبدأ الأمر، مادام لا يوجد رجل صالح يستطيع أن يرضى عن كل تلك الأخطاء والضلالات التي تراكمت، تدريجياً في المسيحية. وعلى هذا فإني كنت أرجو أنا وآخرون أن يستخدم دواء ما لمثل هذه الآفات العظيمة، ولكني كوفئت بخديعة قاسية، لأنه قبل استئصال شأفة الأخطاء الآنفة الذكر، تسللت أخطاء لا تغتفر أشد جسامة، إذا قورنت بها الأولى، فإنها تبدو من قبيل عبد الأطفال... لقد وصلت الأمور إلى معبر دفع الأفاقين الإنجيليين إلى إظهار زملائهم البابويين، وهم يرتدون مسوح الفضيلة... ولابد أن لوثر
بلسانه اللاذع، الذي لا يعرف الخجل، قد انزلق إلى الخبل أو استلهم الشيطان"(75).
ووافق موتيانوس على هذا وكان قد حيى لوثر ووصفه بأنه "نجم الصباح في فيتنبرج" وسرعان ما شكا من أن لوثر "تعتريه لوثة مجنون"(76) أما كروتوس روبيانوس، الذي كان قد مهد الطريق للوثر بـ "خطابات من أناس مغمورين" فإنه فر عائداً إلى حظيرة الكنيسة عام 1521. وأرسل رويخلين إلى لوثر خطاباً رقيقاً، ومنع إيك من إحراق كتب لوثر في أنجولشتادت، ولكنه ندد بابن أخيه ميلانكتون، لأنه تبنى اللاهوت اللوثري ومات بين ذراعي الكنيسة. وأما جوهانس دوبينيك كوكلايوس فقد ناصر لوثر في مبدأ الأمر، ثم انقلب عليه في عام 1522، وبعث له برسالة أنبه فيها قائلاً.
"هل تظن أننا نريد العفو أو الدفاع عن آثام رجال الدين وشرهم؟ نسأل الله النجاة؟ إننا لنفضل أن نستأصل شأفتهم، مادام هذا يمكن أن يتم بطريقة مشروعة... ولكن المسيح لا يعلمنا مثل هذه الطرق التي تعمل بها على تلك الصورة المؤذية مع خصم المسيح" و"مواخير" و "أعشاش الشيطان" و "بالوعات" وألفاظ سب أخرى لم يسمع بها أحد من قبل فما بالك بالتهديدات بالضرب بالسيف وسفك الدماء والقتل يا لوثر! إن المسيح لم يعلمك قط هذه الطريقة في العمل"(77).
ولعل علماء الإنسانيات في ألمانيا قد نسوا بذاءة أسلافهم الإيطاليين - فيليلفو وبوجيو وكثيرين غيرهما - تلك البذاءة جعلت لوثر يسارع بأن يشرع قلمه المتمرد العنيد. ولكن أسلوب لوثر في العراك لم يكن إلا سطحاً لاتهامهم. ولاحظوا - كما لاحظ لوثر - فساد الأخلاق والسلوك في ألمانيا، وعزوا ذلك إلى تفكك السلطة الكهنوتية وإسقاط اللوثريين "للأعمال الصالحات"، باعتبارها مبرراً للخلاص. وساءهم انتقاص البروتستانت
للتعليم ومساواة كارلشتادت بين العلامة التحرير وبين الفلاح، وتهون لوثر من شأن التضلع في العلم والحصافة، وأعرب أرازموس عن الرأي العام لعلماء الإنسانيات. وهنا سلم ميلانكتون(78) بهذا الرأي في حزن - وهو يذهب إلى أنه حيث تنتصر اللوثرية ينحط شأن الآداب (أي التعليم والأدب)(79). ودفع البروتستانت هذه التهمة بقولهم إن هذا يرجع إلى أن التعليم بالنسبة لعالم الإنسانيات يعني، أولاً وقبل كل شيء، دراسة الكلاسيات الوثنية والتاريخ الوثني. وشغلت الكتب والمجلات في المجادلات الدينية الذهن والمطابع في ألمانيا وسويسرة مدة جيل بأسره، حتى فقد كل شيء آخر من أشكال الأدب (غير الهجو) تقريباً جمهوره. ووجدت دور النشر مثل دار فروبن للنشر في بازيل والاطلانسي في فيينا عددا قليلاً من المشترين للمؤلفات العلمية التي أصدرتها وكلفتها غالياً، حتى أشرفت على الإفلاس(80) وحجب تعصب المنافسين النهضة الألمانية الفتية، ووصل مسار مسيحية عصر النهضة نحو التوفيق بينها وبين الوثنية إلى نهايته.
وظل بعض علما الإنسانيات مثل أيوبان هيس وأورلريخ فون هوتن مخلصين للإصلاح الديني، وانتقل هس من موقع إلى موقع معاد إلى ارفورت ليجد أن الجامعة قد هجرها روادها. ومات وهو يقرض الشعر في مابورج (1540) وهرب هوتن، بعد سقوط سيكنجن، إلى سويسرة، ولجأ إلى السرقة للحصول على طعامه، وهو في الطريق(81)، وبحث عن ارازموس في بازيل (1522)، وهو يعاني من المرض والخصاصة، على الرغم من أنه كان قد دمغ علناً عالم الإنسانيات بأنه جبان، لأنه لم ينضم إلى المصلحين الدينيين(82). ورفض أرازموس أن يراه وزعم أن موقده لا يصلح لتدفئة عظام هوتن. ونظم الشاعر الآن قصيدة بعنوان "تحذير" ندد فيها بأرازموس ووصفه بأنه زنديق مارق، يفرق كفرخ الدجاج، ووعد بأن يمسك عن نشرها إذا دفع له أرازموس، ولكن أرازموس خيب ظنه، وحث هوتن على التزام جانب الحكمة وتسوية خلافاتهما سلميا،
غير أن هوتن كان قد سمح بتداول النسخة الخطية لقصيدته الهجائية بين الخاصة، ووصل ذلك إلى علم أرازموس ودفعه هذا إلى الانضمام إلى رجال الدين في بازيل في طلبهم بإلحاح من مجلس المدينة إقصاء الهجاء الحانق، وبعث هوتن بقصيدته "تحذير" إلى المطبعة وانتقل إلى مولهاوس. وهناك تجمع حشد من الغوغاء. وهاجم البيت الذي لاذ به، ففر مرة أخرى، وقبض عليه زونجلى في زيورخ (يونية 1533)، وقال المصلح الديني وهو هنا كريم خير أكثر من عالم الإنسانيات "انظروا... إلى هذا المخرب، انظروا إلى هوتن الرهيب، الذي نراه مغرماً جداً بالناس وبالأطفال؛ إن هذا الفم الذي تهم منه أعاصير على البابا لا ينفث غير الرقة والطيبة"(83). وفي غضون ذلك رد أرازموس على "تحذير" في رسالة كتبها على عجل وعنوانها Spongia Erasmi advrsus aspergimes Hutteni، (أي إسفنجة أرازموس على مطاعن هوتن) وكتب إلى مجلس المدينة في زيورخ محتجاً على "أكاذيب" هوتن التي تحدث بها عنه وأوصى بنفي الشاعر(84). ولكن هوتن كان يحتضر وقتذاك، فقد أنهكته حرب الأفكار وأتلف الزهري صحته وأطلق زفرته الأخيرة (29 أغسطس سنة 1523) فوق جزيرة في بحيرة زيورخ، بالغاً من العمر خمساً وثلاثين عاماً، وهو لا يملك من حطام الدنيا سوى ملابسه وقلمه.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق