إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 29 أبريل 2014

1290 قصة الحضارة ( ول ديورانت ) قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> اليهود -> التائهون الفصل الثاني والثلاثون اليهود 1300 - 1564 1- التائهون


1290

قصة الحضارة ( ول ديورانت )

 قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> اليهود -> التائهون

الفصل الثاني والثلاثون


اليهود


1300 - 1564


1- التائهون


روى روجر وندوفر Wendover R.في كتابه Flores Historiarum (1228) أن أحد رؤساء أساقفة أرمينيا كان يزور دير القديس ألبان في أوائل القرن الثالث عشر، فسئل عن القصة التي تقول بأن يهودياً كان قد تحدث إلى السيد المسيح، لا يزال على قيد الحياة في الشرق الأدنى، فأكد رئيس الأساقفة للرهبان أنها صحيحة. وأضاف المرافق أن رئيس الأساقفة كان قد تناول الغداء مع هذا الرجل الخالد قبل مغادرته أرمينيا بوقت قصير، وأن اسم هذا الرجل، على الطريقة اللاتينية "كارتوفيلس". وأنه لما هم السيد المسيح بمغادرة محكمة بلاطس البنطي، ضرب كارتوفيلس السيد المسيح على ظهره وقال له: "أسرع". وأن يسوع قال له : "إني ذاهب، ولكنك سوف تبقى حتى أحضر". وكرر أرمنيون آخرون زاروا دير سانت ألبان في سنة 1252 نفس القصة، وزاد عليها القصص الشعبي، وبدل من اسم التائه، وروى كيف أنه في كل مائة عام أو نحوها، يصاب بمرض عضال، ويروح في سبات عميق يفيق منه شاباً يمتلئ رأسه بذكريات لا تزال حية عن محاكمة المسيح وموته وبعثه. وانقطع ورود القصة على الألسنة فترة، ولكنها ظهرت من جديد في القرن السادس عشر. وادعى أوربيون غلب عليهم التأثر، أنهم رأوا "أحشويروش" - وسمي الآن


اليهودي الخالد، أو اليهودي التائه- رأوه في همبرج (1547،1564) وفي فيينا (1599)، وفي لوبك (1601) وفي باريس (1644)، وفي نيوكاسل (1790)، وأخيراً في ولاية يوتا في غرب الولايات المتحدة (1868). وتلقت أوربا، التي كانت تفقد إيمانها، بالترحاب هذه الأسطورة على أنها برهان يؤكد من جديد ألوهية المسيح وبعثه، وضمان جديد لمجيئه ثانية. وعندنا أن الأسطورة رمز كئيب لشعب فقد وطنه في السنة الحادية والسبعين من بداية المسيحية، وبات يتيه في الأرض في قارات أربع، وعانى الاضطهاد والتعذيب المرة بعد المرة، قبل أن يسترد موطنه القديم في خضم زماننا المتقلب المزعزع(1).
ولاقى يهود "الشتات" هؤلاء أقل العناء والشقاء في ظل السلاطين الأتراك والبابوات في فرنسا وإيطاليا، وعاشت الأقليات اليهودية آمنة في القسطنطينية وسالونيك وآسيا الصغرى وسوريا وفلسطين والجزيرة العربية ومصر وشمال أفريقية وأسبانيا تحت حكم العرب. وتسامح البربر معهم كارهين. على أن سيمون ديوران ترأس مستوطنة مزدهرة في الجزائر، وعاشت الجالية اليهودية في الإسكندرية- كما وصفها الحبر أوباديا برتينورو في 1488- حياة طيبة، وشربوا الخمر بكثرة، وتربعوا على البسط كما فعل المسلمون، وخلعوا نعالهم عند دخول المعبد أو بيت أحد الأصدقاء(2). وكتب اليهود الألمان الذين لجئوا إلى تركيا إلى أقربائهم وصفاً خماسياً للحياة الطيبة التي ينعمون بها هناك(3). ورخص الباشا (الوالي) العثماني في فلسطين لليهود هناك في أن يبنوا معبداً على جبل صهيون. وحج بعض اليهود الغربيين إلى فلسطين، واعتقدوا أن من حسن حظهم أن تفيض أرواحهم في الأرض المقدسة، والأفضل منها في أورشليم بالذات.
ومهما يكن من أمر، فإن الذي كان يستأثر بتفكير اليهود ويستهوي قلوبهم في هذا العصر تركز في الغرب الذي لا يغفر ولا يصفح. فقد لاقوا



اقل الأحوال شقاء في إيطاليا المستنيرة. وفي نابلي سعدوا بصداقة روبرت ملك أبحو، وازدهروا في أنكونا وفيرارا وبادوا والبندقية وفيرونا ومانتوا وفلورنسه وبيزا وغيرها من خلايا النهضة. قال إرزم 1518 "يوجد في إيطاليا كثير من اليهود، ولكن لا يكاد يوجد في أسبانيا مسيحيون(4)". وكانت إيطاليا تقدر التجارة والموارد المالية تقديراً عظيماً، ومن ثم كان لليهود الذين تولوا هذه المرافق الضرورية فيها شأن كبير، باعتبارهم دعامة حافزة منشطة في الاقتصاد. أما ما كان يطلب من اليهود قديماً من وضع شارة أو ارتداء لباس مميز فقد تجاهله الإيطاليون في شبه الجزيرة بصفة عامة، وارتدى اليهود الموسرون زي الإيطاليون من مثل طبقتهم، والتحق الشباب اليهودي بالجامعات، وتزايد عدد المسيحيين الذين يدرسون العبرية.
وبين آونة وأخرى كان بعض رجال الدين المسيحي الذين يبغضون اليهود، مثل القديس يوحنا أوف كاببسترانو، قد يهيج حفيظة سامعيه، ليطالبوا بالتطبيق الكامل للقوانين الكنسية المتشددة الخاصة بالتجريد ضد اليهود. ولكن على الرغم من أن كابسترانو كان يلقى تأييداً من البابا يوجينيوس الرابع والبابا نيقولا الخامس، فإن تأثير بلاغته كان تأثيراً عابراً في إيطاليا. وهاجم راهب آخر من طائفة الفرنسيسكان هو برناردينو أوف فلتر، اليهود مهاجمة صاخبة عنيفة، إلى حد أن السلطات المدنية في ميلان وفرارا وفلورنسه أمرته بالتزام الصمت أو الرحيل. ولما عثر على طفل في سن الثالثة ميتاً بالقرب من بيت أحد اليهود في ترنت (شمال إيطاليا) في سنة 1475، أعلن برناردينو أن اليهود قتلوه، فألقى الأسقف بكل يهود ترنت في السجن، واعترف بعضهم تحت وطأة التعذيب بأنهم ذبحوه وشربوا من دمه، باعتبار أن هذا من طقوس عيد الفصح عندهم. واحرق كل يهود ترنت حتى الموت، وحفظ جثمان الطفل "سيمون الصغير"، وعرض على أنه "بقايا مقدسة"، وحج آلاف من السذج المؤمنين إلى المزار الجديد،


وانتشرت قصة الفظاعة المزعومة عبر جبال الألب إلى ألمانيا فزادت من حدة شعور العداء ضد "السامية" هناك. واتهم سناتو البندقية القصة بأنها كذوبة دينية، وأمر كل السلطات في نطاق الولاية القضائية للبندقية بحماية اليهود. وقدم من بادوا إلى ترنت اثنان من المحامين لفحص الأدلة، ولكن الأهالي هناك مزقوهما تقريباً. واستحثوا البابا سكستس الرابع على ضم سيمون إلى قائمة القديسين ولكنه أبى، وحرم تمجيد سيمون باعتباره قديساً(5). ومهما يكن من شيء، فإن سيمون أعلن قديساً في سنة 1582.
وفي روما نعم اليهود لعدة قرون بظروف مواتية في الحياة، وبالحرية أكثر مما لاقوا في أي مكان آخر في العالم المسيحي، من جهة لأن البابوات كانوا مثقفين، ومن جهة أخرى لأن المدينة كان يحكمها ويتنازعها حزباً أورسيئي وكولانا، وكلتا الجماعتين كانت مشغولة بالقتال بينهما، إلى حد يتعذر معه التفرغ لعداوة الآخرين، وربما كان ثمة سبب آخر هو أن الرومان كانوا أوثق ارتباطاً بالجانب العملي في المسيحية منهم بالتعصب لديانتهم. ولم يوجد آنذاك حي خاص باليهود في رومه، ولكن معظمهم عاش في حي العبرانيين على الضفة اليسرى من نهر التيبر. ولم يكونوا ملزمين بذلك، فقد قامت كنائس المسيحيين(6). ولكن ظل بعض الظلم يقع عليهم، فكانت بعض الضرائب تفرض عليهم من أجل الإنفاق على الألعاب الرياضية، وكانوا يرغمون على إرسال ممثلين عنهم للاشتراك فيها وهم أنصاف عرايا، وهذا أمر يتنافى مع أعراف اليهود وأذواقهم. وظلت العداوة العنصرية باقية، فمثل اليهود في رسوم كاريكاتورية في المسرح الروماني، وفي الروايات الهزلية في الملاهي، ولكن اليهوديات كن يقدمن على أنهن مهذبات جميلات. لاحظ التناقض بين باراباس

وأبيجيل في رواية مارلو "يهودي مالطة"، وبين شيلوك وجسيكا في رواية شكسبير "تاجر البندقية".
وعامل البابوات، إجمالاً، اليهود معاملة كريمة بالقدر الذي ينتظر من رجال مجدوا المسيح على أنه المخلص، وأنكروا عقيدة اليهود على انه لم يأت بعد، وعندما أنشئت محاكم التفتيش أعفى البابوات من سلطتها القضائية اليهود الذين لم يتحولوا عن دينهم. وكانت المحكمة تستطيع أن تستدعي أمثال هؤلاء اليهود، بسبب مهاجمتهم للمسيحية، أو محاولتهم رد المسيحي إلى اليهودية فحسب."إن اليهود الذين لم يكفوا قط عن إعلان إيمانهم باليهودية تركوا، إجمالاً، دون إزعاج"(7)من الكنيسة، ولكنهم لقوا الإزعاج من الدولة أو من الأهالي. وأصدر عدة بابوات مراسيم بقصد التخفيف عن حدة العداوة الشعبية. وبذل البابا كليمنت السادس جهداً شاقاً في هذا السبيل، فجعل مدينة أفنيون البابوية ملجأ رحيماً لليهود الفارين من الحكومة الوحشية في فرنسا(8). وفي 1419 أعلن مارتن الخامس إلى العالم الكاثوليكي:
"من حيث أن اليهود خلقوا على صورة الرب،

وان بقية منهم لا بد يوماً أن تخلص. ومن حيث

أنهم توسلوا إلينا لحمايتهم، فإننا سيراً على نهج

أسلافنا، نأمر بألا يزعجهم أحد في معابدهم،

وألا يهاجم أحد قوانينهم وحقوقهم وأعرافهم،

وألا يعمدوا قسراً، وألا يكرهوا على حضور

الأعياد المسيحية أو وضع شارات جديدة، وألا

يعترض سبيلهم في إقامة علاقات العمل بينهم وبين

المسيحيين (9).

وأصدر يوجينيوس الرابع، ونيقولا، كما سنرى، تشريعاً مقيداً لليهود، ولكن بالنسبة لسائر البابوات كما يقول جرايتز "من بين سادة إيطاليا كان البابوات أكثرهم وداً وصداقة لليهود"(10) وكثير منهم: الإسكندر السادس، يوليوس الثاني، ليو العاشر- تجاهلوا المراسيم القديمة، وعهدوا بحياتهم إلى أطباء يهود. وشاد كتاب يهود معاصرون، شاكرين، بالأمن الذي تمتع به قومهم في ظل بابوات أسرة مديتشى(11). وكان أحدهم وهو كليمنت السابع، "صديقاً كريماً لإسرائيل(12).
ويقول مؤرخ إسرائيلي عالم :
إن هذا كان ذروة عصر النهضة. واعتبر جماعة

متعاقبة من البابوات المثقفين المهذبين المترفين

المشهود لهم بالحكمة في روما أن تقدم الثقافة جزء هام

من عملهم في تعزيز المصالح الدينية للكنيسة

الكاثوليكية. "ولذلك اتجهوا من أواسط القرن

الخامس عشر، فما بعده، إلى التغاضي عن التفاصيل

المزعجة في القانون الكنسي.... وإلى إظهار التسامح

الكبير مع غير الكاثوليك. وكان رجال المصارف

المقرضون اليهود يشكلون جزءاً لا يتجزأ من الحركة

الاقتصادية في ممتلكاتهم، على حين أن البابوات وهم

رجال دنيا واسعوا الآفاق، قدروا كل التقدير مناقشتهم

مع الأطباء اليهود وغيرهم ممن اتصلوا بهم. ومن ثم

فإن هؤلاء البابوات أهملوا إهمالاً يكاد يكون تاماً كل

التعليمات والقواعد التي كان آباء الكنيسة قد أصدروها،

وصنفها في عداد القوانين مجلساً لاتيران الثالث

والرابع. ولما رأى سائر إيطاليا هذا المثل


الرائع أمام أعينهم- أمراء مديتشى في فلورنسه،

إستنسى في فيرارا، جنزاجو في منتوا، حذوا إلى

حد كبير حذو البابوات. إن اليهود، ولو أنهم قد

أزعجتهم بين الحين والحين فترات من العنف

أو التعصب- مثال ذلك عندما سيطر سافونا رولا

على فلورنسه 1497- امتزجوا بجيرانهم وشاركوهم

حياتهم، بدرجة لا يكاد يكون لها مثيل من قبل.

وقاموا بنصيب ممتاز في جوانب معينة في النهضة...

عكسوها في حياتهم هم أنفسهم وفي أنشطتهم الأدبية

باللغة العبرية، وأسهموا بإضافات هامة في الفلسفة

والموسيقى والمسرح. وكانوا شخصيات حبيبة

في بلاط كثير من المراء الإيطاليين(13).

إن بعضاً من الشخصيات التي كانت يوماً مشهورة لتكشف لنا عن هذه الفترة المشرقة في العلاقات بين المسيحيين واليهود. ولد إمانويل بن سولومون الحارومي (الرومي) وفي نفس السنة التي ولد فيها دانتي (1265) وأصبح صديقاً له، وكان رجلاً من رجال النهضة قدر ما يستطيع يهودي مخلص أن يكونه. وكان يحترف الطب، كما كان واعظاً، وعالماً دينياً، وعالماً من علماء النحو، ومن المشتغلين بالعلوم، ومن أصحاب المال والأعمال، وشاعراً، و "مؤلفاً لأغان ماجنة كثيراً ما جاوزت حدود الحشمة"(14). ولما كان يتقن العبرية كل الإتقان : فإنه أدخل إلى هذه اللغة المقطوعة الشعرية ذات الأربعة عشر بيتاً (Sonnet) وكاد ينافس الإيطاليين في الفصاحة والسلاسة والروح، ولم يظهر أي شاعر يهودي قط قبل "هين" مثل ما أظهر إمانويل من موهبة الهجاء والروعة والذكاء. وربما كان إمانويل قد تشرب بعض مبادئ مذهب ابن رشد في الشك،



الذي ساد في ذاك العصر، فإن إحدى قصائده تعبر عن نفوره من السموات بما فيها من أناس أطهار (ذهب إلى أن النساء الدميمات الخلقة هن فقط الفضليات)، وعن إيثاره للجحيم، حيث توقع أن يجد فيها أكثر الجميلات إغراء في كل الأزمان. وألف في شيخوخته قصيدة ضعيفة يقلد فيها دانتي في "السماء والجنة". ولم يكن ثمة في اليهودية مطهر، مثلها في ذلك مثل المذهب البروتستانتي. وكان إمانويل أكرم من دانتي، فأفسح في الجنة مجالاً لكل "الأبرار في العالم بأسره"(15)، متبعاً في ذلك نهج تقاليد أحبار اليهود. على أنه أدخل أرسطو إلى الجحيم لأنه انتهى إلى خلود الكون.
وثمة روح مرح جذل شبيهة بهذا الذي أسلفنا، أضفت سلاسة وحيوية على كتابات كالونيموس بن كالونيموس، وشاهد روبرت ملك نابلى في إحدى زياراته لبرفانس هذا العالم الصغير ذا الاسم الجميل، وأخذه معه إلى إيطاليا. وكان كالونيموس في البداية متفرغاً إلى العلوم والفلسفة، وترجم أرسطو وأرشميدس وبطليموس وجالن والفارابي وابن رشد إلى العبرية، وكتب بروح أخلاقية عالية. ولكنه وجد أنه من اليسير عليه أن يتمثل طباع المرح والبهجة في نابولي ويتشربها. فلما انتقل إلى رومه أصبح هوراس اليهود (شاعر روماني في القرن الأول ق.م) يهجو هجاء لطيفاً أخطاء المسيحيين واليهود وأخطاءه هو نفسه، ونقاط الضعف فيهم وفي شخصه. وندب حظه لأنه ولد رجلاً، فإنه لو كان امرأة، لما كان عليه أن يطيل التنقيب والتفكير في التوراة والتلمود ويحفظ مبادئ القانون البالغ عددها 613. وسخرت روحه المرحة من التلمود. وتوحي الشعبية التي حظي بها هجاؤه لدى اليهود الرومان بأنهم لم يكونوا أنقياء متدينين بالقدر الذي كان عليه أخوانهم الأكثر شقاء في سائر البلاد.
ولم تحي النهضة الدراسات اليونانية فحسب بل العبرية كذلك. ودعا الكاردينال أجديو دي فيتربو العالم اليهودي إيليا لفيتا من ألمانيا إلى رومة


(1509)، وبقى العالم اليهودي ثلاثة عشر عاماً ضيفاً مكرماً في قصر الكاردينال يعلمه العبرية ، ويتلقى عنه اليونانية. وبفضل جهود إجديو، ورخلين، وآخرين من التلامذة المسيحيين الذين يتلقون العلم عن المعلمين اليهود، أنشئت كراسى اللغة العبرية، في كثير من الجامعات والأكاديميات في إيطاليا. وحظي إيليا دل مديجو الذي كان يعلم العبرية في بادوا بتقدير عظيم هناك، رغم رفضه التحول عن دينه، إلى حد أنه لما حدث خلاف عنيف بين الطلبة المسيحيين حول بعض الشئون الثقافية، عينت السلطات الجامعية والسناتو في البندقية دل مديجو للتحكيم، فعالج الموضوع بحزم ولباقة، وخرج الجميع راضين. ودعاه بيكو دللا ميراندولا ليعلم العبرية في فلورنسة، وهناك انضم إيليا إلى الحلقة الإنسانية لأسرة مديتشى، ولا زلنا نراه من بين الشخصيات التي رسمها بينوتزو جوتزولى على جدران قصر مديتشى. ولم يشجع هذا العالم فكرة بيكو عن وجود بعض عقائد مسيحية في "القبالة" ، بل على النقيض من ذلك، سخر من سفر الرؤيا على أنه مجموعة من سخافات حمقاء.
وكان اليهود القاطنون في شمال جبال الألب أقل حظاً من اليهود إيطاليا. فقد طردوا من إنجلترا في سنة 1290، ومن فرنسا في سنة 1306، ومن فلاندرز في سنة 1370. ودعوا إلى فرنسا ثانية في 1315 شريطة أن يعطوا الملك ثلثي أي مال يكونون قد جمعوه من فوائد القروض التي عقدوها قبل طردهم(16). وما أن انتهت مكاسب الملك من هذه العمليات حتى نفى اليهود ثانية في سنة 1321. وعادوا في الوقت الناسب ليلقوا التأنيب على "الموت الأسود" ويحملوا مسئوليته، ونفوا مرة أخرى (1349)، وأعيدوا من



جديد (1360) ليقدموا قروضاً مالية ويسهموا بمهارتهم، عوناً منهم على افتداء ملك فرنسا الذي أسر في إنجلترا. ولكن في عام 1394 اختفى في ظروف غامضة إسرائيلي ارتد إلى المسيحية. واتهم اليهود بقتله، واعترف بعض اليهود تحت وطأة التعذيب، بأنهم كانوا قد نصحوا هذا المرتد بالعودة إلى اليهودية، وثار الرأي العام، وأمر شارل السادس كارهاً، بنفي الجنس المنهوك ثانية.
وكان في براغ جالية يهودية قوية، ذهبوا إلى هناك ليستمعوا إلى عظات رائد "هس " وهو ميلز Miliez، لأنه أظهر اطلاعاً واسعاً وتقديراً كبيراً للتوراة. ودرس هس العبرية، وقرأ التعليقات العبرية، واقتبس عن راشى وموسى بن ميمون. وأطلق التابوريون الذين مضوا بإصلاحات هس أشواطاً حتى باتت قريبة من الشيوعية- على أنفسهم "الشعب المختار" وأطلقوا أسماء "إدوم، ومؤاب، وعمالق"، على الولايات الجرمانية التي شنوا عليها الحرب. ولم تكن جيوش هس، على أية حال، تستنكف عن قتل اليهود، عندما استولوا على براغ (1421)، ولم يتركوا لهم الخيار: الارتداد أو الجزية، مثل المسلمين، بل إن أيسر خيار كان : الارتداد إلى المسيحية أو الموت(17).
ومن كل الدول المسيحية تأتي بولندة في المحل الثاني بعد إيطاليا في حسن وفادتها لليهود، وفي 1098، 1146، 1196 هاجر يهود كثيرون من ألمانيا إلى بولندة، فراراً من الموت على أيدي الصليبيين، ولقوا ترحيباً وازدهرت أحوالهم هناك، وفي 1207 أصبح بعضهم يمتلك ضياعاً واسعة. وفي 1264 منحهم الملك بوليسلاف التقي صكاً بالحقوق المدنية. وبعد الموت

الأسود انتقل عدد أكبر من الألمان إلى بولندة، ورحبت بهم هناك الأرستقراطية الحاكمة، بوصفهم خميرة تقدمية اقتصادية في أمة لازالت تفتقر إلى طبقة وسطى. وثبت كازيمير الثالث الأكبر (1333-1370) حقوق اليهود البولنديين ووسعها، وضمن الدوق الأعظم فيتوفست Vitovst هذه الحقوق ليهود لتوانيا. ولكن في 1407، أبلغ أحد الكهنة شعب الكنيسة في كراكاو أن اليهود قد قتلوا طفلاً مسيحياً، وأخذوا يمتعون أنظارهم بدمه. وحرض هذا الاتهام على وقوع المذابح. وجدد كازيمير الرابع حريات اليهود وزاد فيها (1447)، وقال: "نريد أن يشعر اليهود الذين نرغب في أن نحميهم من أجل مصلحتنا، ومصلحة خزانة الدولة- أن يشعروا بالراحة في ظل حكمنا الخير"(18). واتهم رجال الدين الملك، وأنذره أولسنيكى رئيس الأساقفة بسوء المصير في الجحيم، وألقى يوحنا كابسترانو، الذي جاء إلى بولندة ممثلاً للبابا، خطباً ملتهبة مثيرة في سوق بلدة كراكاو (1453)، ولما هزم الملك في الحرب ارتفعت الصيحات بأن عقاب الله قد نزل به لمساندته الكفار. ومذ كان في حاجة إلى تأييد رجال الدين للدخول في حرب أخرى، فإنه ألغى صك حريات اليهود. ووقعت المذابح المنظمة في 1463، 1494، وربما كان لمنع هذه الهجمات أن طلب إلى يهود كراكاو بعد ذلك أن يقطنوا ضاحية "كازيمييريه".
وفي تلك الضاحية وفي غيرها من المراكز في بولندة ولتوانيا، زاد اليهود عدداً وازدهاراً بعد أن ذللوا كل العقبات، وفي عهد سجسمند الأول أعيدت لهم حرياتهم فيما عدا حرية الإقامة. وظلوا على علاقة طيبة مع سجسمند. وفي 1556 اتهم ثلاثة من اليهود في بلدة سوخاشيف، بطعن "القربان المكرس" حتى أدمى، وأعلنوا براءتهم، ولكنهم أعدموا حرقاً بأمر من أسقف خلم Khelm. واستنكر سجسمند الثاني هذه العملية على أنها "أكذوبة دينية" قصد بها أن يثبت لليهود والبروتستانت أن الخبز المقدس كان قد تحول

فعلاً إلى جسد المسيح ودمه، وقال الملك "لقد صعقت لهذه الجريمة البشعة، وإني لا يعوزني حسن الإدراك إلى حد يجعلني أومن بأنه يمكن أن يكون هناك دم في القربان(19)، ولكن بموت هذا الملك المتشكك، انتهت فترة المشاعر الطيبة بين الحكومة واليهود في بولندة.
وعاش اليهود حقبة من الزمن في سلام في ألمانيا في العصور الوسطى. وعملوا بجد ونشاط على طول المنافذ التجارية النهرية الكثيرة، وفي المدن الحرة والثغور، وحتى رؤساء الأساقفة أنفسهم كانوا يطلبون ترخيصاً من الإمبراطور لإيواء اليهود. وبمقتضى المرسوم البابوي (1355) شارك الإمبراطور شارل الرابع الناخبين الإمبراطوريين امتيازهم في الانتفاع باليهود، أي حق الناخبين في استقبال اليهود في دوائرهم، وحمايتهم واستخدامهم، وابتزاز أموالهم. وفي ألمانيا، كما كان الحال في إيطاليا، تلهف الطلاب على تفهم التوراة في نصوصها الأصلية ومن ثم درسوا العبرية. وحفز النزاع بين رخلين وبفركورن إلى هذه الدراسة، كما قوت طباعة التلمود كاملاً لأول مرة (1520) من هذا الحافز.
وبلغ تأثير اليهودية ذروته في الإصلاح الديني. ومن الوجهة الدينية، كان هذا الإصلاح رجوعاً إلى أصل العقيدة البسيطة والأخلاق الصارمة في صدر المسيحية اليهودية. فإن عداء البروتستانتية للصور الدينية والتماثيل، كان عوداً إلى عداء السامية "للصور المنحوتة". واحتفلت بعض الفرق البروتستانتية بيوم السبت (مثل اليهود). وإن إنكار عبادة العذراء، وعبادة القديسين ليقترب كثيراً من التوحيد الصارم عند اليهود. كما أن ارتضاء القساوسة الجدد للزواج والجنس، جعلهم أشبه بأحبار اليهود، منهم بالكهنة الكاثوليك. إن نقاد رجال الإصلاح الديني اتهموهم "بالتهود"، وأسموهم "أشباه اليهود" أو "أنصاف اليهود"(20). وقال كارلستاد نفسه إن ملانكتون (من رجال الإصلاح اللوثري في ألمانيا) أراد أن يرجع إلى موسى


وشريعته. وضم كلفن تهمة "التهود" إلى آثام سرفيتس السيئة، وسلم الأسباني بأن دراساته العبرية أثرت عليه في مناقشة لاهوت التثليث. وأعاد حكم كلفن في جنيف إلى الأذهان تسلط الكهنة في إسرائيل القديمة. واتهم زونجلى بأنه متهود لأنه درس العبرية مع اليهود، وبنى كثيراً من عظاته وتعليقاته على النص العبري للتوراة. واعترف بأنه مفتون باللغة العبرية:
لقد ألفيت "اللغة المقدسة" فوق كل ما يعتقده الناس، لغة مهذبة رشيقة جليلة. وعلى الرغم من فقرها في عدد الكلمات، فإن أحداً لا يشعر بهذا النقص، لأنها تستخدم حصيلتها من الألفاظ بأساليب شتى. والحق أنى قد أجرؤ على القول بأن الإنسان إذا أدرك جلالها ورشاقتها، لوجد أنه ليس هناك لغة أخرى تستطيع أن تعبر عن الكثير بمثل هذا العدد القليل من الألفاظ، وبمثل هذه التعابير القوية. وليس ثمة لغة مثلها غنية بأساليب التصوير المتعددة الجوانب الزاخرة بالمعاني. وليس هناك لغة مثلها تبهج القلب وتنفذ إليه بسرعة(21).
ولم يكن لوثر متحمساً إلى مثل هذا الحد. وقال شاكياً:"كيف أبغض قوماً يقحمون على الناس لغات كثيرة كما يفعل زونجلي، فقد تحدث على المنبر باليونانية والعبرية في همبرج"(22). وهاجم لوثر في نزق شيخوخته وخرفه، اليهود وكأنه لم يتعلم منهم شيئاً. وليس ثمة إنسان بطل في رأى دائنه. وفي نشرة عن "اليهود وأكاذيبهم" (1542) أفرغ لوثر وابلاً من الحجج ضد اليهود، على أنهم كانوا قد أبوا أن يرتضوا المسيح إلهاً، وأن ما عانوا طوال حياتهم أثبت غضب الله عليهم، وأنهم دخلاء على أراضي المسيحيين، وأنهم كانوا وقحين في ثرائهم القائم على الربا، وأن التلمود أجاز الخداع والسرقة والسلب وقتل المسيحيين، وانهم سمموا العيون والآبار، وذبحوا

أطفال المسيحيين ليستخدموا دماءهم في الطقوس الإسرائيلية. وقد رأينا في دراستنا له في شيخوخته كيف أنه نصح الألمان بإحراق بيوت اليهود، وإغلاق معابدهم ومدارسهم، ومصادرة ثرواتهم، وتجنيد رجالهم ونسائهم في أعمال السخرة، وأن يخير جميع اعتناق المسيحية أو قطع ألسنتهم. وفي عظة ألقاها قبل موته بوقت قصير، أضاف أن الأطباء اليهود كانوا يتعمدون تسميم المسيحيين(23). وساعدت هذه التصريحات على أن تجعل البروتستانتية- وهي المدينة كثيراً لليهودية- أشد عداوة للسامية من الكاثوليكية الرسمية، ولو أنها ليست في هذا المجال أكثر من جماهير الكاثوليك الذين أثروا على الناخبين في سكسونيا وبراندنبرج ليطردوا اليهود من هذه البقاع(24). لقد أشاعوا هذه النغمة في ألمانيا على مدى عدة قرون، وأعدوا شعبها لإبادة الجنس حرقاً.

يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق