1232
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
صة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> العقائد في الحرب -> انتصار البروتستانتية
4- انتصار البروتستانتية
1542 - 55
ومات قبل عام من وقوع الكارثة، التي لاح للناس أنها قاضية لا محالة على البروتستانتية في ألمانيا.
وفي عام 1545 أكره شارل الخامس، الذي لقي العون من الجيوش اللوثرية، فرانسيس الأول على توقيع صلح كريبي. وعقد سليمان، وكان في حرب مع فارس، هدنة لمدة خمس سنوات مع الغرب. ووعد البابا بول الثالث أن يقدم إلى الإمبراطور 1.100.000 دوكات و12.000 من جنود المشاة و 500 جواد، إذا تحول بكل قوته لمحاربة الهراطقة... وأحس شارل بأن في وسعه أن يحقق آخر الأمر أمله، وأن ينفذ سياسته. أن يسحق البروتستانتية، وأن يمنح مملكته عقيدة كاثوليكية موحدة، تدعم في رأيه حكومته وتسهل مهمتها. وكيف يكون إمبراطوراً بحق في ألمانيا، إذا استمر الأمراء البروتستانت في الاستهانة بسلطانه وعجز أن يملي عليهم الشروط التي يقبلون بموجبها تنصيبه إمبراطوراً؟ ولم يكن قد اتخذ البروتستانتية ديناً بصفة جدية، ولم تكن المنازعات بين لوثر وعلماء اللاهوت من الكاثوليك تعنيه قليلاً أو كثيراً، ولكن البروتستانتية باعتبارها لاهوت الأمراء المصلحين والمتحالفين ضده، وباعتبارها قوة سياسية، قادرة على تحديد مصير انتخاب الإمبراطور القادم، وبصفتها عقيدة كتاب الرسائل،
الذين وجهوا إليه هجاء متقعاً، وعقيدة للفنانين الذين رسموا له صوراً ساخرة، وعقيدة الوعاظ الذين لقبوه باسم ابن الشيطان(57) - كان في وسعه أن يتحمل هذا في صمت كئيب - أما الآن فإنه حر في أن يناضل من جديد خلال موسم سرعام ما ينقضي، وأن يصوغ مملكته، التي مزقتها الفوضى، في دولة واحدة، تؤمن بعقيدة واحدة، ولها قوة واحدة، واستقر رأيه على الحرب.
وحشد في مايو عام 1546 جيوشه الإسبانية والإيطالية والألمانية، والهولندية، واستدعى دوق ألفا أقدر قواده للوقوف بجانبه، وعندما أوفد إليه الأمراء البروتستانت نواباً عنهم إلى راتسبون للاستفسار عن معنى حركاته، رد عليهم قائلاً بأنه قد اعتزم أن يعيد ألمانيا إلى حظيرة الإمبراطوريّة. وفي أثناء انعقاد ذلك المؤتمر كسب إلى صفه أقدر قائد عسكري في ألمانيا، وهو الشاب الطموح الدوق موريس صاحب سكسونيا الألبرتينية، ووعد آل فوجر بتقديم العون المالي له، وأصدر البابا منشوراً يحرم فيه من الغفران كل مَن يقاوم شارل، ويعرض منح صكوك الغفران بلامقابل، لكل مَن يساعده في هذه الحرب المقدسة.
وأصدر شارل قراراً إمبراطورياً أعلن فيه حرمان الدوق جون صاحب ساكسونيا الأرنستية ولاندجراف فيليب الهسي، وأحل رعاياهما من الولاء لهما، وأقسم أن يستصفي أراضيهما وأموالهما. ولكي يفرق بين المعارضة أعلن أنه لن يتدخل في شئون البروتستانتية في أية منطقة، تكون قد استقرت فيها بصفة نهائية، وقدم أخوه فرديناند تعهداً مماثلاً لبوهيميا. وكان موريس مرتبطاً بالقضية بوعد صدر له بأن يحل محل جون كأمير مختار لساكسونيا. وتنازع الأمراء المختارون، في كولونيا وبراندنبرج، وكونت بالاتين، الخوف والأمل، أما أمير نورمبرج البروتستانتي فظل محايداً. وأدرك جون أمير ساكسونيا وفيليب الهسي وأمراء أنهالت وحكام مُدن أوجسبورج وستراسبورج وأولم أن الخطر لا يتهدد لاهوتهم فحسب،
ولكنه يتهدد أموالهم أيضاً، فعبأوا كل قواتهم، وحشدوا في ميدان القتال 57.000 رجل.
ولكن عندما زحف جون وفيليب جنوباً يتحديان شارل، سار فرديناند شمالاً وغرباً للاستيلاء على دوقية جون، وانضم إليه موريس في غزو ساكسونيا الارنستية، لكي يساعد بشيء ما. وقدر جون عاقبة هذا الأمر، فهرع إلى الشمال للدفاع عن دوقيته، وقام بهذه المهمة خير قيام، ولكن في غضون ذلك بدأ جنود فيليب في الفرار من فرقهم، بسبب الامتناع عن دفع رواتبهم، وسارعت المُدن البروتستانتية تنشد السلام مع شارل، بعد أن أغرتها الوعود بالعدل في المعاملة، ولكنه أطلق حريتها بعد أن فرض عليها غرامات باهظة، حطمت العمود الفقري لماليتها، مقابل الحصول على حريتها، وكان شارل وقتذاك متفوقاً في السلاح، وفي الدبلوماسية على السواء. وكانت القوة الوحيدة التي وقفت في صف البروتستانت هي قوة البابا، إذا كان بول الثالث قد بدأ يخشى ما أحرزه الإمبراطور من نجاح عظيم، فإذا لم يبق من أمراء البروتستانت مَن يكبح جماح السلطة الإمبراطوريّة، فإن الأمور سوف تدين لها في شمال وجنوب إيطاليا على السواء، وسوف تحدق بالولايات البابوية وتبتلعها، وينتهي بها الأمر إلى أن تسيطر على البابوية سيطرة لا تقاوم. وفجأة (يناير سنة 1547) أصدر بول الثالث أوامره للجيوش البابوية، التي كانت تحارب مع شارل. بالتخلي عنه والعودة إلى إيطاليا، فأطاعت الأمر في اغتباط، ووجد البابا نفسه يطرب كأي هرطيق لانتصارات الأمير المختار جون في ساكسونيا، ولكن شارل كان مصمماً على أن يصل بالحملة إلى نهايتها الحاسمة، فزحف نحو الشمال، والتقى بقوات الأمير المختار المنهكة في ميلبرج، على مدينة مايسين، وقضى عليها قضاء مبرماً (24 أبريل 1547) وأسر جون. وطالب فرديناند بإعدام الأمير الباسل، غير أن شارل الذكي وافق على أن يخفف الحكم
إلى السجن مدى الحياة، إذا فتحت فيتنبرج أبوابها له، فخضعت المدينة لأمره، وهكذا سقطت عاصمة البروتستانتية الألمانية في أيدي الكاثوليك، بينما كان لوثر يرقد في هدوء تحت صفائح بارزة في كنيسة القصر.
وأقنع موريس أمير ساكسونيا وجواكيم أمير براندنبرج، فيليب الهسي بالتسليم ووعداه بأن يطلق سراحه فوراً. ولم يكن شارل قد قطع على نفسه مثل هذا العهد، وكان أقصى ما وصلت إليه رحابة صدره أن يعد فيليب بإطلاق سراحه بعد خمسة عشر عاماً. ويبدو أنه لم يبق هناك أحد يتحدى الإمبراطور المظفر، إذ كان هنري الثامن قد مات في يوم 28 يناير، ومات فرانسيس الأول يوم 31 مارس. ومنذ عهد شارلمان لم تكن قوة الإمبراطوريّة عظيمة إلى هذا الحد.
ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهيه السفن. فقد اجتمع الأمراء الألمان في مجلس نيابي آخر في أوجسبورج (سبتمبر سنة 1547)، وقاوموا جهود شارل لدعم انتصاره العسكري، وتحويله إلى حكم مطلق شرعي. واتهمه بول الثالث بالتغاضي عن مقتل بيير لويجي فارنيزي، الابن غير الشرعي للبابا، وانقلبت بافاريا ضد الإمبراطور، وكانت دائماً موالية للكنيسة. وتكونت من جديد أغلبية بروتستانتية بين الأمراء، وانتزعوا من شارل موافقة مؤقتة على زواج رجال الكهنوت، ومناولة القربان بالطريقتين المعروفتين، واحتفاظ البروتستانت بأملاك الكنيسة (1548). وتميز البابا غضباً من دعوى الإمبراطور أن له السلطة في أن يصدر أحكاماً، في مثل هذه الأمور. وتهامس الكاثوليك بأن شارل كان يهتم في مد رقعة إمبراطوريته، وتعزيز سلطان آل هايسبورج، أكثر من اهتمامه باستعادة العقيدة الخالصة الوحيدة. ووجد موريس وقتذاك الأمير المختار لساكسونيا نفسه في فيتنبرج يعد بروتستانتياً ومنتصراً، ومكروها إلى حد خطير وسط قوم من البروتستانت المغلوبين على أمرهم، وكانت خيانته قد سممت ما فاز به من سلطان. وتجاهل شارل ما وجهه إليه من نداءات لإطلاق سراح اللاندجراف. وبدأ
يتساءل هل اختار الفريق الأحسن، وانضم سراً إلى الأمراء البروتستانت، ووقع معهم معاهدة شامبورد (يناير 1525)، وفيها وعد هنري الثاني ملك فرنسا بتقديم العون لطرد شارل من ألمانيا. وفي الوقت الذي غزا فيه هنري اللورين، واستولى على ميتز وتول وفردون، زحف موريس وحلفاؤه من البروتستانت جنوباً على رأس جيش قوامه 30.000 رجل. وسرح شارل جنوده، دون أن يقدر العواقب، مستنداً إلى أكاليل الغار التي توجت رأسه في أنزبروك، ولم يكن أمامه وقتذاك ما يدافع به إلا الدبلوماسية. ولقد أثبت موريس تفوقه في هذه اللعبة التي تحتاج إلى الدهاء، واقترح فرديناند عقد هدنة، وأطال موريس المفاوضات مستخدماً كل ما أوتي من لباقة، وفي غضون ذلك أخذ يتقدم نحو أنزبروك. وفي يوم 9 مايو انتقل شارل بصعوبة فوق محفة، يصحبه بضع نفر من أتباعه، تحت المطر والجليد، متسربلاً بظلام الليل. وعبر ممر برينر إلى فيلاخ في كازنثيا. وهكذا حولت ضربة واحدة من ضربات الحظ سيد أوربا إلى شريد، يعاني من آلام النقرس، ويرتجف في جبال الألب.
والتقى موريس والبروتستانت الظافرون يوم 26 مايو بفرديناند وبعض زعماء الكاثوليك في باساو. ووافق شارل، بعد فترة شعر فيها بضآلة شأنه، على أن يوقع فرديناند معاهدة (20 أغسطس 1552) يطلق بموجبها صراع فيليب، وتنص على تسريح الجيوش البروتستانتية، وأن يتمتع البروتستانت والكاثوليك على السواء بحرية العبادة إلى أن يجتمع مجلس نيابي جديد، وإذا فشل هذا المجلس في الوصول إلى تسوية مقبولة، فإن حرية العبادة هذه تستمر إلى الأبد. وهي عبارة محببة في المعاهدات. وهكذا بدأ موريس بالخيانة، وارتفع إلى مصاف رجل السياسة المظفرين، وقدر له أن يموت وشيكاً (1553) من أجل بلده بالغاً من العمر ثلاثين عاماً، في معركة وقعت بينه وبين ألبرخت السيبياديس، الذي كان قد حول نصف ألمانيا إلى منطقة تسودها فوضى خطيرة بالنسبة للجميع.
وعندما يئس شارل من الوصول إلى حل لمشكلاته في ألمانيا، تحول نحو الغرب ليجدد صراعه مع فرنسا. ورأس فرديناند، متذرعاً بالصبر، المجلس النيابي التاريخي في أوجسبورج (5 فبراير - 25 سبتمبر 1555)، وهو المجلس الذي منح ألمانيا أخيراً سلاماً دام نصف قرن. ورأى أن المبدأ الإقليمي، الذي ينص على حرية الدوقات، كان قوياً إلى الحد الذي لا يسمح فيه بمثل هذه السيادة المركزية المطلقة، التي فاز بها الملوك في فرنسا، وكان النواب الكاثوليك يمثلون الأغلبية في المجلس النيابي، غير أن البروتستانت كانوا يفوقونهم في القوة العسكرية، فتشبثوا بكل مادة وردت في إقرار أوجسبورج عام 1530، وتمسك الأمير المختار أوغسطوس، الذي خلف موريس في ساكسونيا، بوجهة نظر البروتستانت، وأدرك الكاثوليك أن عليهم أن يخضعوا، أو تتجدد الحرب، وحث شارل، وهو في خرف دبلوماسيته، الأمراء المختارين على تعيين ابنه فيليب خلفاً له في حمل اللقب الإمبراطوري. وخشي الكثالكة مطمع هذا الإسباني القاسي في حكمهم، ولما كان فرديناند يطمع في ارتقاء العرش نفسه فإن الأمل لم يراوده في أن يفوز به، دون أن يعاضده البروتستانت في المؤتمر الانتخابي.
وساعدت الأسلحة والظروف على رجحان كفة البروتستانت، فطالبوا بكل شيء: يجب أن يكونوا أحراراً في ممارسة عقيدتهم في كل أرجاء ألمانيا، وأن تحرم عبادة الكاثوليك في الأرض التي تسود فيها العقيدة اللوثرية، وأن تبقى صحيحة ولا تتعرض للإلغاء إجراءات تصفية أملاك الكنيسة في الحاضر والمستقبل على السواء(58). وتوصل فرديناند وأوغسطوس إلى اتفاق أرضى الطرفين يتلخص في هذه الكلمات الأربع المشهورة Cuius regio eius religio، وهي تجسم الضعف الروحي الذي انتاب الأمة والعصر. ولتحقيق السلام بين الولايات وفي داخلها، يجب على كل أمير أن يختار بين الكاثوليكية الرومانية، وبين اللوثرية، وعلى كل رعاياه أن يقبلوا اعتناق دينه السائد في دولته، وكل مَن لا يحب أن
يعتنق هذا الدين عليه أن يهاجر من الإقليم. ولم يظهر أي جانب ميلاً إلى التساهل والواقع أن المبدأ، الذي أيده الإصلاح الديني في فتوة ثورته - الحق في الحكم الخاص - رفضه رفضاً باتاً زعماء البروتستانت والكاثوليك على السواء. فقد أدى ذلك المبدأ إلى تعدد الطوائف واصطدامها، إلى درجة أن الأمراء شعروا بأن لديهم ما يبرر استعادة السلطة العقيدية، حتى لو انقسمت إلى أجزاء بقدر عدد الولايات. واتفق البروتستانت وقتذاك في الرأي مع شارل والبابوات بأن وحدة العقيدة الدينية لا غنى عنها للنظام الاجتماعي والسلام، وليس في وسعنا أن نحكم عليهم حكماً عادلاً، ما لم ينكشف لأنظارنا الحقد والشقاق اللذين كانا يمزقان ألمانيا، وكانت النتائج سيئة وحسنة في آن واحد. فالتسامح وقتذاك كان، بعد الإصلاح الديني، أقل قطعاً من قبله(59)، ومع ذلك فإن الأمراء أقصوا المنشقين بدلاً من أن يحرقوهم أحياء وهذه شعيرة كانت مقصورة على الساحرات. وأضعف مراكزهم جميعاً تضاعف ما نتج عن ذلك من دعاوى العصمة.
ولم يكن الانتصار الحقيقي في حرية العبادة، ولكن في الحرية التي أصبح ينعم بها الأمراء، فقد غدا كل منهم، مثل هنري الثامن ملك انجلترا، الرئيس الأعلى للكنيسة في إقليمه، وله الحق المطلق في أن يعين رجال الدين، الذين يحددون للناس العقيدة التي يتعين عليهم أن يعتنقوها. وكان المبدأ الأراستي - وينص على أن الدولة يجب أن تحكم الكنيسة - قد استقر قطعاً. ولما كان الأمراء وليس علماء اللاهوت، هم الذين عملوا على انتصار البروتستانتية، فمن الطبيعي أن يجنوا ثمار هذا النصر - سيادتهم الإقليمية على الإمبراطور، وسيادتهم الكهنوتية على الكنيسة. كانت البروتستاتية هي القومية ممتدة إلى الدين، ولكن القومية لم تكن تعني قومية ألمانيا، بل كانت وطنية كل إمارة، ولم تتقدم ألمانيا خطوة نحو الوحدة، بل إن
الثورة الدينية عاقت هذه الوحدة، وإن لم يكن من المؤكد أنها كانت نعمة وبركة. وعندما اختير فرديناند إمبراطوراً (1558) كانت سلطاته الإمبراطوريّة أقل من السلطات التي كان يتمتع بها حتى شارل المتعب المقيد. وترتب على هذا أن الإمبراطوريّة الرومانية المقدسة لم تمت في عام 1806، وإنما ماتت في عام 1555.
وضاعت المُدن الألمانية، مثل الإمبراطوريّة، في غمار انتصار الأمراء. كانت المقاطعات الإمبراطوريّة تحت رعاية الإمبراطور، يحميها من سيطرة الحكام الإقليمية، أما الآن - بعد أن أصبح الإمبراطور عاجزاً، فقد صار الأمراء أحراراً في أن يتدخلوا في الشئون البلدية، وتضاءل استقلال. وفي غضون ذلك ابتلعت قوة هولندة النامية معظم التجارة، التي كانت تصب المنتجات الألمانية في بحر الشمال، عن طريق مصبات نهر الراين، وضعف شأن المُدن الجنوبية، بانحطاط تجارة البندقية والبحر الأبيض المتوسط نسبياً. وليس من شك في أن الإضعاف من شأن التجارة والسياسة يترتب عليه اضمحلال الثقافة ولم يتيسر للمُدن الألمانية، في مدى مائتي عام بعد ذلك، أن تتمتع مرة أخرى بحيوية التجارة والفكر التي سبقت عهد الإصلاح الديني وعدمته...
وعاش ميلانكتون خمس سنوات بعد صلح أوجسبورج، ولم يكن واثقاً من أنه كان يريد الإمهال. كان قد عمر أكثر من زعيمه، لا في المفاوضات مع الكثالكة فحسب، ولكن في تحديد اللاهوت البروتستانتي. كان قد حرر نفسه من لوثر من جهة رفضه التسليم بحتمية القدر كلية، وحضور المسيح بجسده في القربان المقدس(60)، وجاهد في الحفاظ على أهمية الأعمال الصالحات، وإن كان قد أصر مع لوثر على أنها لا يمكن أن تحقق لصاحبها الخلاص. وثار جدل مرير بين (الفلبيين) - ميلانكتون وأتباعه - وبين اللوثريين المحافظين الذين انفجروا أساساً من ينا، وأطلق هؤلاء على ميلانكتون لقب "المملوك المارق" و "خادم الشيطان"، ووصفهم هو بأنهم
أغبياء سفسطائيون من عبدة الأوثان(61). وكان الأساتذة يعينون أو يفصلون، ويسجنون أو يطلق سراحهم، حسب مد وجزر الحمم اللاهوتية. واتفق الطرفان على أن يعلنا حق الدولة في قمع الهرطقة بالقوة. وحذا ميلانكتون حذو لوثر في إقرار العبودية والتمسك بالحق الإلهي للملوك(62)، ولكنه تمنى لو وضعت الحركة اللوثرية نصب عينيه حماية أرستقراطيات أوساط الناس، كما في زيورخ وشتراسبورج ونورمبورح وجنيف بدلاً من أن تأتلف مع الأمراء. وفي أكثر لحظاته دلالة تحدث مثل الأرازمي الذي كان يتطلع إلى أن يكونه: "فلنتحدث فقط عن الإنجيل وعن الضعف الإنساني وعن رحمة الله وعن تنظيم الكنيسة، وعن العبادة الحقة. أليس جوهر المسيحية أن تحقق الطمأنينة والهدوء للأرواح، وأن تهب لها قاعدة للعمل المستقيم، أما الباقي فإنه جدل وفلسفة كلامية ومنازعات طائفية"(63). وعندما دنت منيته رحب بالموت، باعتباره تحريراً لطيفاً من "غضب علماء اللاهوت"، ومن همجية "العصر السفسطائي"(64). والحق أن التاريخ قد أخطأ في اختياره للقادة روحاً تنزع بفطرتها إلى البحث والصداقة والسلام، وأجبرها على الدخول في حرب ثورية لم تخلق لها.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق