إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 29 أبريل 2014

1263 قصة الحضارة ( ول ديورانت ) قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> إدوارد السادس وماري -> ماري الدموية 4- ماري الدموية 1554-1558







1263


قصة الحضارة ( ول ديورانت )

 قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> إدوارد السادس وماري -> ماري الدموية

4- ماري الدموية


1554-1558


كثيراً ما أدان مستشاروها سياستها القائمة على الصفح. وقد لامها الإمبراطور وسفيره على السماح بالحياة بل وبالحرية لأشخاص تآمروا ضدها وسوف يكونون أحراراً لتكرار هذا - وسئلت كيف يستطيع فيليب أن يأمن على نفسه في بلد ترك فيه أعداؤه يمرحون بلا عائق ليدبروا مؤامرة لإغتياله؟ وكان من رأي الأسقف جاردنر أن الرحمة بالأمة تتطلب إعدام الخونة. وتملك الذعر الملكة فمالت إلى العمل بآراء مستشاريها. وأمرت بإعدام الليدي جين جراي التي لم ترغب قط في أن تكون ملكة، وزوج جين الذي أراد أن يكون ملكاً. وانطلق جين، وهي في السابعة عشرة من عمرها، إلى حتفها وهي تؤمن بأن هذا قدرها، دون أن تبدي احتجاجاً أو تذرف دموعاً (12 فبراير سنة 1554). وقطع رأس والدها سفولك وشنق مائة من صغار الثوار. وأبقي على حياة بعض المتآمرين إلى حين أملاً في أن ينتزع منهم اعترافات مفيدة، واتهم ويات في مبدأ الأمر اليزابث بأنها على علم بالخطة، ولكن عندما وقف على المنصة (11 أبريل سنة 1554) برأها من كل علم بها. وأطلق سراح كورنتاي بعد أن سجن عاماً وأقصي عن البلاد. وأشار شارل على ماري بإعدام كورنتاي واليزابث باعتبارهما مصدر تهديد دائم لحياتها. وأرسلت ماري إلى اليزابث بالحضور واحتفظت بها في قصر سانت جيمس شهراً ثم سجنتها شهرين في البرج. وحثها رينارد على تنفيذ حكم الإعدام فيها فوراً، ولكن ماري اعترضت وقالت إنه لم يثبت اشتراك اليزابث في الجريمة(40)، وظلت حياة اليزابث خلال هذه الشهور المشئومة معلقة في الميزان، وساعد هذا الرعب على تكوين شخصيتها القائمة على الريبة


واستشعار الخطر، وكان له صداه فيما اتسم به عهدها المتأخر من قسوة عندما ساورها بشأن ماري ستيوارت نفس القلق الذي كان يساور ماري تيودور وقتذاك حول اليزابث. وفي 18 مايو نقلت مَن أصبحت ملكة في الأيام التالية إلى وود ستوك حيث عاشت مطلقة السراح في معتقل تحت الرقابة. وأدى خوف ماري من مؤامرة أخرى تدبر لتولية اليزابث على العرش إلى أن تتعجل ماري الزواج أملاً في أن تحظى في الأمومة.
ولم يكن فيليب متلهفاً إلى هذا الحد. وتزوج ماري يوم 6 مارس سنة 1554 بطريق الوكالة ولكنه لم يصل إلى إنجلترا قبل يوم 20 يوليو، ودهش الإنجليز وسرهم أن يجدوه شخصاً يمكن احتماله بدنياً واجتماعياً: وجه غريب مثلث الشكل تقريباً ينحدر من جبهة عريضة إلى ذقن مدبب يزينه شعر أصفر ولحية، ولكه يمتاز بخلق كريم وبديهة حاضرة ومواهب تصلح لأي شيء، ولم يبدِ أي إيماءة بأنه هو وحاشيته يعدون الإنجليز برابرة. بل إنه قال كلمة رقيقة في صالح اليزابث، ولعله كان يتنبأ بأن ماري ربما لا ترزق بذرية وأن اليزابث قد تكون يوماً ملكة، وذلك يكون شراً أهون من أن ترتقي ماري ملكة الإسكوتلنديين - التي ارتبطت منذ عهد بعيد بفرنسا - عرش إنجلترا. وعلى الرغم من أن ماري كانت أكبر سناً بكثير من فيليب فإنها تطلعت إليه بإعجاب ساذج، وكانت متعطشة إلى الحب طوال سنوات عديدة، فابتهجت وقتذاك لفوزها بأمير ساحر وقوي إلى هذا الحد، ومنحته نفسها بإخلاص لا شك فيه إلى حد أن الحاشية تساءلت هي أصبحت إنجلترا بالفعل تابعة لإسبانيا، وكتبت لشارل الخامس في تواضع رسالة تقول فيها إنها: "أسعد مما أستطيع التعبير عنه لأني في كل يوم أكتشف في زوجي الملك من الفضائل العديدة وصفات الكمال ما يدفعني باستمرار إلى أن أتضرع إلى الله أن يهبني العون لأسعده(41)".


وكانت رغبتها في أن تلد ابناً لفيليب وولي عهد لإنجلترا، عارمة استغرقت كل اهتمامها إلى حد أنها سرعان ما تصورت أنها حامل. ولقي انقطاع الطمث عندها وقتذاك ترحيباً، باعتباره شارة ملكية، وألجم الأمل ألسنة مَن خطر لهم أن تلك الحالة حدثت لها كثيراً من قبل. وتقبل الناس الاضطرابات الهضمية على أنها أدلة أخرى على الأمومة، وأبلغ سفير البندقية أن "حلمتي" الملكة قد انتفختا ودر ثدياها لبناً. وابتهجت ماري وقتاً طويلاً عندما راودتها فكرة أنها أيضاً يمكن أن تحمل طفلاً شأنها في هذا شأن أفقر امرأة في مملكتها، ولا نستطيع أن نتصور مدى تعاستها عندما أقنعها أطباؤها آخر الأمر أن انتفاخ بطنها إنما حدث بسبب الاستسقاء. وفي غضون ذلك كانت شائعات حملها قد اكتسحت إنجلترا وأقيمت الصلوات ونظمت المواكب من أجل ولادتها السعيدة، وسرعان ما انتشرت شائعة بأنها أنجبت ولداً. وأغلقت الحوانيت ابتهاجاً واعتبر اليوم عطلة واحتفل الرجال والنساء في الشوارع، وقرعت نواقيس الكنائس وأعلن أحد رجال الدين أن الطفل "أشقر وجميل" كما يليق بأمير(42). وتحطمت ماري من الإحباط والخجل فانزوت شهوراً عن أنظار الجمهور.
وشعرت بالعزاء إلى حد ما بعودة الكاردينال بول إلى إنجلترا. وكان شارل قد أخر بول عن السفر في بروكسل لأنه عارض الزواج الاسباني، أما وقد تم هذا الزواج فإن اعتراضات الإمبراطور هدأت، وعبر الكاردينال القناة بصفته قاصداً رسولياً (20 نوفمبر سنة 1554) إلى البلاد التي كان قد تركها منذ اثنين وعشرين عاماً، وقوبل بترحيب حار من الموظفين ورجال الأكليروس والشعب أثبت الرضا العام عن تجديد العلاقات مع البابوية. وحيا ماري بعبارة تكاد تكون منتقاة من معجمه: "السلام عليك يا مريم، الممتلئة بالنعمة، الرب معكِ، أنت مباركة بين النساء Ave Maria, gratia Plena Dominus tecum, benedicta tu in mulieribus وكان على ثقة


من أنه قريباً سوف يردف قائلاً: "مباركة ثمرة رحمك(43)".
وعندما علم المجلس النيابي أن بول جاء معه بموافية البابا على احتفاظ الحائزين الحاليين بأملاك الكنيسة المصادرة فرح الجميع، كما يحدث في أي زفاف. وأعرب أعضاء المجلس النيابي وهم راكعون عن ندمهم لما ألحقوه من إساءات بالكنيسة ومنح الأسقف جاردنر التائبين الغفران بعد أن اعترف بتذبذبه. واعترف بسيادة البابا في الشئون الكنسية وتأكد حقه في دخول السنة الأولى للأساقفة حديثي التعيين و"الثمرات الأولى" وأعيد إنشاء المحاكم الأسقفية وأعيدت ضرائب العشور الأبرشية لرجال الأكليروس وجددت القوانين القديمة ضد اللوردية وأعيدت الرقابة على المطبوعات من سلطات الدولة إلى سلطات الكنيسة. وبدا كل شيء كسابق عهده بعد فتنة دامت عشرين عاماً.
ولبث فيليب مع ماري ثلاثة عشر شهراً يأمل في أن يرزق بطفل، وحينما لم يظهر أي دليل مؤكد رجاها أن تسمح له بالذهاب إلى بروكسل حيث كان نزول والده عن العرش يقتضي حضوره. ووافقت في حزن وانطلق معه إلى النقالة المائية التي سوف تقله إلى أدنى نهر التيمس، وأخذت ترقب النقالة من نافذة إلى أن اختفت (28 أغسطس سنة 1555). وشعر فيليب أنه قد أدى واجبه طوال سنة لقي فيها من أمره عسراً وهو يطارح الغرام امرأة مريضة، وكافأ نفسه بسيدات بروكسل القويات البنية.
وكان بول وقتذاك أعظم رجل يتمتع بالنفوذ في إنجلترا. وشغل نفسه بإعادة تنظيم الكنيسة الإنجليزية وإصلاحها. وأعاد فتح بعض أديار الرهبان ودير للراهبات بمساعدة ماري. وسعدت ماري عندما رأت بعث العادات الدينة القديمة، وسرها أن ترى الصلبان والصور المقدسة في الكنائس مرة أخرى، وأن تشترك في مواكب تتسم بالورع مع القساوسة أو الأطفال والطوائف المهنية فتجلس أو تركع لتحضر قداسات تقام للأحياء والأموات.


وغسلت وقبلت يوم خميس العهد عام 1556 أقدام إحدى وأربعين امرأة مسنة وهي تدلف على ركبها من واحدة لأخرى ومنحتهن جميعاً صدقات(44). وما دام الأمل في الأمومة قد تبدد أصبح الدين سلواها التي تعينها على الاحتمال.
ولكنها لم تستطع أن تبعث الماضي تماماً. فقد حفزت الأفكار الجديدة إلى اضطراب مثير في عقول أهل المدينة، وكانت لا تزال هناك اثنتا عشرة طائفة تنشر كتبها وعقائدها في الخفاء. وتألمت ماري عندما سمعت عن جماعات تنكر ألوهية المسيح ووجود الروح القدس وانتقال الخطيئة الأولى. وخيل إليها أن الهرطقات تعد جرائم مهلكة بالنسبة لإيمانها الساذج وأنها أسوأ بكثير من خيانة الدولة. هل في وسع الهراطقة أن يعرفوا كيف يعاملون الروح البشرية خيراً مما يعرفه كاردينالها المحبوب؟ وترامى إلى أسماعها أن واعظاً تضرع بصوت عال أمام جمهور أبرشيته أن يهديها الله أو يرفعها من الأرض(45). وألقي يوماً كلب ميت، حلق شعر رأسه جرياً على عادة الرهبان، وحول عنقه حبل، من نافذة في غرفة الملكة(46). وفي كنت جدع أنف قسيس(47). ورأت ماري أنه من غير المعقول أن يقوم المهاجرون البروتستانت الذين سمحت لهم بالرحيل عن إنجلترا في سلام، بإرسال كتيبات يهاجمونها فيها ويصفونها بأنها حمقاء رجعية ويتحدثون عن "صلاة لاتينية مكروهة عند إقامة قداس وثني(48)". وحثت بعض الكتيبات قوادها على أن يهبوا في ثورة ويخلعوا الملكة(49). وعقد اجتماع من 17.000 شخص في اولدجيت (14 مارس سنة 1554) ونادى بوضع اليزابث على العرش(50). وكانت حوادث التمرد في إنجلترا من تدبير البروتستانت الإنجليز في الخارج.
وكانت ماري تنزع بفطرتها وعادتها إلى الرحمة - حتى عام 1555. فماذا حولها إلى ملكة تحظى بأكبر قدر من الكراهية بين الملكات


الإنجليزيات؟ هناك استفزاز الهجمات التي أظهرت عدم الاحترام لشخصها أو عقيدتها أو مشاعرها من ناحية، وهناك الخوف من أن تكون الهرطقة ستاراً لثورة سياسية من ناحية ثانية، وهناك الشدائد التي عانتها وخيبة الأمل المتكررة التي كدرت صفو روحها وجعلت حكمها على الأشياء مظلماً من ناحية ثالثة، وهناك إيمانها الذي لا يتزعزع بصواب آراء مستشاريها الذين تثق بهم أكثر من أي شخص آخر - فيليب وجاردنر وبول - التي تذهب إلى أن الوحدة الدينية أمر لا غنى عنه للتضامن القومي وبقائه. وسرعان ما أفصح فيليب عن مبادئه في الأراضي المنخفضة. وكان الأسقف جاردنر قد أقسم بالفعل (ربيع عام 1554) أن يحرق الأساقفة البروتستانت الثلاثة - هوبر وريدلي ولاتيمر - ما لم يرتدوا عن عقيدتهم(51). وكان الكاردينال بول، مثل ماري، ينزع بفطرته إلى الرحمة ولكنه كانت لا تلين له قناة في العقيدة، وقد أحب الكنيسة حباً جماً إلى حد أنه كان يرتجف للتشكك في عقائدها أو سلطتها. ولم يكن له دور قيادي مباشر أو شخصي فيما قامت به ماري من اضطهاد، وأشار بالاعتدال وأطلق مرة سراح عشرين شخصاً كان الأسقف بونر قد حكم عليهم بالموت حرقاً(52).
ومع ذلك فإنه أصدر تعليماته لرجال الأكليروس بأنه إذا فشلت كل طرق الإقناع سلمياً فإن كبار الهراطقة يجب أن تنتزع منهم الحياة ويستأصلوا مثل الأطراف الفاسدة من الجسد(53). وأعربت ماري عن رأيها في تردد. "نعتقد أن إثارة عقاب الهراطقة يدب أن يتم بغير اندفاع ولا نتخلى في الوقت نفسه عن إقامة العدالة لهؤلاء الذين يسعون إلى خداع البسطاء(54)". وكانت مسئوليتها في بادئ الأمر مقصورة على الإذن ولكنها كانت حقيقة.
وعندما تبين لها (1518) أن الحرب مع فرنسا قد عادت عليها وعلى


إنجلترا بالوبال عزت الفشل إلى غضب الله عليها لترفقها بالهرطقة وتشددت قطعاً بعد ذلك في الاضطهاد.
وافتتح جاردنر عهد الإرهاب بأن استدعى إلى محكمته الأسقفية ستة من رجال الأكليروس (22 يناير سنة 1555) كانوا قد رفضوا قبول العقيدة التي توطدت من جديد .
وارتد واحد منهم وأحرق أربعة منهم جون هوبر وأسقف جلوسستر وورسستر الذي أقيل (4-8 فبراير سنة 1555). ويبدو أن جاردنر أصيب بانتكاس في الشعور بعد تنفيذ هذه الأحكام بالإعدام فلم يشترك بعد ذلك في الاضطهاد، وانهارت صحته ومات في نوفمبر من هذا العام واضطلع الأسقف بونر بالمذبحة. ونصح فيليب، وكان لا يزال بإنجلترا، بالاعتدال وعندما أدان بونر ستة، وحكم عليهم بالحرق اعترض سفير الإمبراطور رينار على "هذا التهور البربري(57)" وندد كاهن الاعتراف الخاص لفيليب، وهو أخ أسباني من الرهبان، وهو يعظ أمام الحاشية،


بالأحكام باعتبارها مخالفة للروح المعتدلة والمتسامحة التي حث عليها المسيح(58) مراراً وتكراراً. وأوقف بونر الأحكام لمدة خمسة أسابيع، ثم أمر بتنفيذها، واعتقد أنه كان رقيقاً متساهلاً، والحق أن مجلس الملكة أنبه يوماً لأنه لا يظهر حماسة كافية في مطاردة الهرطقة(59). وعرض على كل هرطيق منحه عفواً كاملاً إذا ارتد عما يقول، وكثيراً ما أضاف وعداً بتقديم مساعدة مالية أو عمل صريح(60)، ولكن عندما كانت هذه الإغراءات تفشل كان يجيز الحكم بشراسة، وكانت توضع عادة حقيبة ممتلئة بالبارود بين ساقي المحكوم عليه حتى تؤدي ألسنة اللهب إلى موت سريع، ولكن الخشب احترق ببطيء في حالة هوبر، وخاب أثر البارود فلم ينفجر، وقاسى الأسقف السابق آلاماً استمرت ساعة تقريباً.
وكان معظم الشهداء عمالاً بسطاء تعلموا تلاوة الكتاب المقدس وشجعوا على العمل بالتفسير البروتستانتي له إبان الحكم السابق. ولعل المضطهدين رأوا أن من العدل استدعاء رجال الدين الذين بذلوا الجهد لتحفيظ مبادئ العقيدة البروتستانتية، ليشهدوا لها بالاستشهاد، وفي سبتمبر سنة 1555 أحضر كرانمر وعمره ستة وستون عاماً، وريدلي وعمره خمسة وستون عاماً، ولاتيمر، البالغ من العمر ثمانين عاماً، من سجن البرج ليقفوا للمحاكمة في أكسفورد. وكان لاتيمر قد لطخ صفحة حياته البليغة بالموافقة على إحراق المنكرين للتعميد والفرنسسكان العنيدين في عهد هنري الثامن. وكان ريدلي قد أيد بنشاط اغتصاب جين جراي للعرش، ووصف ماري بأنها ابنة سفاح وساعد في خلع بونر وجاردنر من كرسيهما الأسقفيين.
وكان كرانمر الرأس المفكر للإصلاح الديني الإنجليزي، فقد أحل زواج هنري وكاثرين، وزوج هنري من آن بولين، واستبدل بالقداس كتاب الصلاة العامة، واضطهد فريث ولامبرت وغيرهما من الكثالكة،



ووقع وصية إدوارد بالتاج لجين جراي، وندد بالقداس باعتباره كفراً، وكان هؤلاء الرجال وقتذاك في البرج منذ عامين يتوقعون الموت كل يوم.
وحوكم كرانمر في أكسفورد في اليوم السابع من سبتمبر. وقام قضاته بكل جهد ممكن للحصول منه على إنكار لما ذهب إليه. فتمسك بموقفه بحزم وحكم عليه بأنه مذنب، ولكن لما كان رئيساً للأساقفة فإن الحكم عليه ترك للبابا وأعيد إلى سجن البرج. وفي 30 سبتمبر حوكم ريدلي وتشبث بموقفه وفي اليوم نفسه اقتيد لاتيمر أمام المحكمة الكنسية، وكان وقتذاك رجلاً لا يبالي بالحياة، يرتدي ثوباً قديماً مهلهلاً ورأسه الأبيض تكسوه قلنسوة فوق طاقية نوم فوق منديل وتتدلى نظارتاه من عنقه وربطت بزنارة نسخة من العهد الجديد. وفي اليوم الأول من أكتوبر حكم عليهم بالإدانة وأحرقوا في اليوم السادس من أكتوبر. وركعوا أمام المحرقة وصلّوا معاً. وربطوا بالأغلال إلى عمود حديدي وعلقت حول عنق كل لجر حقيبة ممتلئة بالبارود وأشعلت حزم الحطب وقال لاتيمر: "تهلل ولا تبتئس يا سيد ريدلي وتصرف كرجل، فإننا في هذا اليوم سوف نشعل شمعة بفضل الله في إنجلترا، وأنا على يقين أنها لن تطفأ أبداً(61)".
وفي الرابع من ديسمبر أيد البابا الحكم على كرانمر. واستسلم رئيس الإساقفة البروتستانتي الأول في كنتربري لخوف يغتفر له، ولم يكن في وسع رجل استطاع أن يكتب بإنجليزية قوية الدلالة كتاباً مثل كتاب الصلاة العامة مواجهة هذه المحن دون أن يتعرض لآلام غير عادية في الجسد والعقل.
ولعل كرانمر تأثر بنداء بول الحار فقرر قوله إنه: "تخلى عن كل طرق الهرطقة وأخطاء لوثر وزونجلى وكرهها وأبغضها". وأقر بإيمانه بالشعائر المقدسة السبع واعترف بالتجسيد والمطهر وكل تعاليم الكنيسة الرومانية.



وكان إنكاره هذا قميناً بأن يستبدل به الحكم بسجنه جرياً على ما حدث في جميع السوابق، ولكن ماري (طبقاً لما قاله فوكس) رفضت إنكاره لمعتقده على أساس أنه يفتقر إلى الإخلاص وأمرت بإعدام كرانمر(62).
وفي كنيسة سانت ماري بأكسفورد تلاقى صبيحة يوم إعدامه (31 مارس سنة 1556) إنكاره السابع والأخير. ثم أضاف لدهشة جميع الحاضرين.
وأجيء الآن إلى الأمر العظيم الذي يؤرق ضميري أكثر من أي شيء آخر فعلته أو قلته طوال حياتي وذلك هو تدبيج رسالة في الخارج تخالف الحقيقة. وأنا الآن أتبرأ منها وأرفضها... إنها كتبت خوفاً من الموت... وذلك شأن جميع البيانات والأوراق التي كتبتها أو وقعت عليها بيدي منذ تجريدي من منصبي... وما دامت يدي قد أثمت، بكتابة ما يخالف صدق مشاعري فإن يدي سوف تعاقب على ذلك لأنها... سوف تحرق أولاً... أما بالنسبة للبابا فإني أرفض اعتباره عدواً للمسيح وخارجاً على المسيحية(63).
وعندما اقتربت ألسنة النيران من جسده وهو على المحرقة مد يده فيها واحتفظ بها هناك، كما يقول فوكس: "ثابتة لا تتحرك... حتى يستطيع كل الناس أن يروا يده تحترق قبل أن تمس النار جسده. وأخذ يردد كثيراً كلمات ستيفن "رباه! تقبل روحي" في عظمة اللهب الذي سلم الروح القدس(64).
وكانت وفاته دليلاً على بلوغ الاضطهاد ذروته. ومات نحو 300 شخص في أثنائه منهم 273 في السنوات الأربع الأخيرة من ذلك العهد. وكلما مضت المحرقة قدماً أصبح من الواضح أنها كانت خطأ. واستمدت البروتستانتية القوة من شهدائها كما فعلت المسيحية في بواكير عهدها وانزعج كثير



من الكثالكة في عقيدتهم وشعروا بالخزي من ملكتهم بسبب ما كابده الضحايا من آلام وما أظهروه من جلد. وعلى الرغم من أن الأسقف بونر لم ينعم بالعمل فقد أطلق عليه اسم "بونر الدموي" لأن أسقفيته شهدت معظم ما نفذ من أحكام الإعدام ووصفته امرأة بأنه "الذباح المعروف وعبد المجزرة العامة لكل الأساقفة في إنجلترا(65)"، ووجد المئات من الإنجليز البروتستانت ملجأ في فرنسا الكاثوليكية وسعوا هناك إلى وضع نهاية للعهد الحزين.
وبينما كان هنري الثاني يطارد البروتستانت الفرنسيين فإنه شجع على تدبير المؤامرات الإنجليزية ضد ماري الكاثوليكية التي أدى زواجها بملك أسبانيا إلى ترك فرنسا محاطة بقوى معادية. واكتشف العملاء البريطانيون في أبريل عام 1556 مؤامرة يتزعمها هنري ددلي لخلع ماري وتولية اليزابث على العرش. وتم القبض على عدة أشخاص منهم اثنان من أفراد بين اليزابث، وأقحم اعتراف اسم اليزابث نفسها والملك الفرنسي. وقمعت الحركة ولكنها تركت ماري في خوف دائم من الاغتيال.
وواجهت جماعة من الهاربين محناً كشفت عن مزاج العصر الذي تتسلط العقيدة عليه، فقد جاء إلى لندن عام 1548 جان لاسكي، وهو كالفيني بولندي وأنشأ هناك أول كنيسة مشيخية في إنجلترا. وبعد ارتقاء ماري العرش بشهر ترك لاسكي وجانب من جمهور المصلين معه لندن في سفينتين دنمركيتين. وفي كوبنهاجن منعوا من الدخول ما لم يوقعوا على الاعتراف الرسمي اللوثري الخاص بالعقيدة. فأبوا باعتبارهم كالفينيين متمسكين بعقيدتهم. ولم يسمح لهم بالنزول فسافروا بحراً إلى وسمار ويبسك وهامبورج، وفي كل حالة كانوا يواجهون بالمطلب نفسه ويردون بالرفض(66). ولم يذرف اللوثريون في ألمانيا أية دموع على ضحايا ماري بل نددوا بهم باعتبارهم هراطقة مكروهين و"شهداء للشيطان" بسبب إنكارهم وجود المسيح حقاً في القربان(67) المقدس. وأدان كالفن تعصب اللوثريين الذي لا يعرف الرحمة، وفي ذلك العام


(1553) أحرق سرفيتوس في المحرقة.وبعد أن ظل الهاربون تتقاذفهم أمواج بحر الشمال معظم أيام الشتاء سمح لهم بالدخول أخيراً ووجدوا معاملة إنسانية في إمدن.
وسارت ماري إلى نهايتها المحتومة بقدر كئيب. وكان زوجها التقى في حرب غير منطقية وقتذاك مع البابوية وكذلك مع فرنسا، وجاء إلى إنجلترا (20 مارس سنة 1557) وحث الملكة على أن تشترك إنجلترا في الحرب باعتبارها حليفة. ولكي يخفف من كراهية الإنجليز لمهمته، أقنع ماري بالاعتدال في الاضطهاد(68)، ولكنه لم يستطع أن يكسب بسهولة تأييد الجمهور بل كان الأمر على العكس، فبعد شهر من وصوله أشعل توماس ستافورد، ابن أخي الكاردينال بول، ثورة لتحرير إنجلترا من ماري وفيليب على السواء، ولكنه هزم وشنق (28 مايو سنة 1557) ولقد اترع البابا كاس الملكة تعاسة برفضه الاعتراف ببول قاصداً رسولياً واتهم بالهرطقة. وكانت ماري في لهفة لإرضاء فيليب ومقتنعة أن هنري الثاني قد أيد ستافورد في مؤامرته، وأعلنت الحرب على فرنسا في 7 يونيه. وبعد أن حقق فيليب غرضه غادر إنجلترا في يوليو وراود الشك ماري في أنها لن تراه أبداً مرة أخرى. وقالت: "سوف أعيش ما بقي من أيامي دون رفيق من الرجال(69)". وفقدت إنجلترا في هذه الحرب التي لم ترغب فيها كاليه (6 يناير سنة 1558) التي كانت قد احتفظت بها 211 عاماً وآلاف الإنجليز من الرجال والنساء الذين عاشوا هناك وفروا الآن إلى بريطانيا، لاجئين معدمين، وأذاعوا الاتهام المرير المنسوب إلى حكومة ماري بأنها أهملت إهمالاً إجرامياً في الدفاع عن آخر ممتلكات إنجلترا في القارة. وعقد فيليب صلحاً موافقاً له دون أن يطب استعادة كاليه. وكانت ثمة عبارة قديمة تتردد هي أن ذلك الميناء الثمين كان "ألمع جوهرة في التاج الإنجليزي". وأضافت ماري عبارة أخرى إلى الحكاية "عندما أموت وتفتحون صدري فسوف



تجدون كاليه في قلبي(70)". وفي أوائل عام 1558 اعتقدت الملكة مرة أخرى أنها حامل. وكتبت وصيتها إذ كانت تتوقع أن تكون ولادتها خطيرة وبعثت برسالة إلى فيليب تتوسل إليه فيها أن يحضر الحادث السعيد... فبعث إليها بتهانيه ولكن لم تكن هناك ضرورة لحضوره، فقد كانت ماري على خطأ. وكانت وقتذاك امرأة مهجورة من الجميع، ولعلها كانت مخبولة إلى حد ما. كانت تجلس على الأرض الساعات الطوال وركبتاها مرفوعتان إلى ذقنها، وكانت تتجول في قاعات القصر مثل شبح، وكتبت رسائل لطختها بدموعها للملك الذي توقع وفاتها، فأمر عملاءه في إنجلترا أن يستميلوا قلب اليزابث للزواج من أمير إسباني أو من فيليب نفسه.
وفي أيام الصيف الأخير من حياة ماري انتشر وباء حمى البرداء في إنجلترا. وأصيبت به الملكة في سبتمبر عام 1558 وتحالف مع الاستسقاء و"زيادة الصفراء السوداء" فأضعفها إلى حد أن رغبتها في الحياة تلاشت. وفي 6 نوفمبر بعثت بجواهر التاج إلى اليزابث. وكان هذا عملاً كريماً أذعن فيه حبها للكنيسة لرغبتها في منح إنجلترا وراثة منظمة للعرش. وتعرضت للغيبوبة فترات طويلة واستيقظت من إحدى هذه الغيبوبات لتروي كيف رأت حلماً سعيداً عن أطفال يلعبون ويغنون أمامها(71). وفي 17 نوفمبر سمعت القداس مبكراً وهتفت بالعبارات التي يرددها المصلون عادة وراء القس بحرارة. وماتت قبل الفجر.
وفي اليوم نفسه مات الكاردينال بول، الذي مني بهزيمة منكرة مثل ملكته. ولابد لنا عند تقديره أن نسجل الحقيقة المرة وهي أنه كان قد أدان ثلاثة رجال وامرأتين وحكم عليهم بالموت حرقاً بتهمة الهرطقة في مستهل الشهر الأخير. صحيح أن كل الطوائف ما عدا المنكرين للتعميد في تلك السنوات التي عرفت جنون اليقين ووافقت على ضرورة المحافظة على الوحدة الدينية ولو أدى الأمر بالضرورة إلى معاقبة المنشقين بالإعدام، ولكن لم

يحدث في أي مكان في العالم المسيحي المعاصر - حتى في أسبانيا - أن أحرق هذا العدد الكبير من الرجال والنساء بسبب آرائهم كما حدث في عهد تولى ريجينالد بول رئاسة الكنيسة الإنجليزية.
وفي وسعنا أن نقول كلمة رقيقة عن ماري. فقد أدى الحزن والمرض وكثير مما تعرضت له من أخطاء إلى انحراف عقلها. ولم تتحول من الحلم إلى القسوة إلا بعد مؤامرات كانت تستهدف حرمانها من التاج الذي تضعه على رأسها وأصاخت السمع في ثقة زائدة لرجال الدين الذين سعوا إلى الانتقام بعد أن تعرضوا هم أنفسهم للاضطهاد. وكانت تعتقد حتى آخر لحظة في حياتها أنها بالقتل إما تؤدى فرائضها نحو العقيدة التي أحبتها كمجال حيوي لبقائها. وهي لا تستحق اسم "ماري الدموية" ما لم تسحب تلك الصفة على عصرها بأسره، فهو يهون بلا رحمة من شأن شخصية فيها الكثير من الصفات التي تستحق الحب.
وإن امتيازها العجيب إنما هو استمرارها في العمل الذي بدأه والدها لإبعاد إنجلترا عن روما. وأظهرت لإنجلترا، ولما تزل كاثوليكية، أسوأ جانب للكنيسة التي خدمتها، ولما ماتت كانت إنجلترا مهيأة أكثر من ذي قبل لاعتناق العقيدة الجديدة التي جاهدت للقضاء عليها.


يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن








ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق