إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 29 أبريل 2014

1251 قصة الحضارة ( ول ديورانت ) قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> هنري الثامن والكاردي -> طلاق الملك 4- طلاق الملك





1251


قصة الحضارة ( ول ديورانت )

 قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> هنري الثامن والكاردي -> طلاق الملك

4- طلاق الملك


جاءت كاترين الأراجونية، ابنة فرديناند وإيزابلا إلى إنجلترا عام 1501، وكانت في السادسة عشرة من عمرها وتزوجت (14 نوفمبر) من آرثر البالغ من العمر خمسة عشر عاماً، وهو أكبر أبناء هنري السابع. ومات آرثر في اليوم الثاني من أبريل عام 1502 وكان المفروض بوجه عام أن الزوج ذد دخل بزوجته. ومن ثم أرسل السفير الأسباني قياماً بالواجب "أدلة" إلى فرديناند، ولم ينتقل لقب أرثر، أمير ويلز رسمياً إلى شقيقه الأصغر هنري إلا بعد مرور شهرين على وفاة آرثر(49). ولكن كاثرين أنكرت أن زوجها دخل بها. وقد أحضرت معها صداقاً قدره 200.000 دوكات (5.000.000 دولار) وكره هنري السابع أن يدع كاثرين تعود إلى أسبانيا ومعها هذه الدوكات، وتلهف على أن يجدد مصاهرته لفرديناند القوي فاقترح أن تتزوج كاثرين من الأمير هنري على الرغم من أنها كانت تكبر الصبي بست سنوات. وكانت هناك آية في الكتاب المقدس (سفر اللاويين إصحاح 20 : آية 21) تحرم هذا الزواج:


"وإذا أخذ رجل امرأة أخيه فذلك نجاسة... يكونان عقيمين" ومهما يكن من أمر فإن هناك آية أخرى تنص على خلاف ذلك: "إذا سكن إخوة معاً ومات واحد منهم وليس له ابن... أخو زوجها يدخل عليها ويتخذها لنفسه زوجة". (سفر التثنية: إصحاح 25 آية 5). واستنكر كبير الأساقفة وارهام الزواج المقترح ودافع عنه الأسقف فوكس الونشستري إذا أمكن الحصول على محلل من البابا للمانع من المصاهرة. وطلب هنري السابع الحصول على المحلل. فمنحه له البابا يوليوس (1503) وجادل بعض خبراء القانون الكنسي في حق البابا في التحلل من مبدأ نص عليه الكتاب المقدس(50) وأكد البعض حقه في هذا، أما يوليوس نفسه فقد راودته بعض الشكوك(51). وأعلنت رسمياً الخطبة، وهي في الواقع زواج شرعي - عام 1503، ولما كان العريس لا يزال في الثانية عشرة من عمره فحسب فقد أجلت المعاشرة. وفي عام 1505 طلب الأمير هنري إعلان بطلان الزواج، لأن أباه أكرهه(52) عليه ولكنه أقنع بصحة الزواج على أساس أنه مصلحة إنجلترا.
وفي عام 1509، وبعد ستة أسابيع من ارتقائه العرش احتفل علناً بالزواج. وبعد سبعة شهور (31 يناير سنة 1510) أنجبت كاثرين أول طفل لها، وقد مات عند الولادة. وأنجبت بعد ذلك بعام ابناً وابتهج هنري بولادة وريث ذكر يصل به سلسلة نسب تيودور، ولكن الطفل مات بعد بضعة أسابيع وسقط ابن ثان وثالث بعد الولادة مباشرة (1513 و 1514). وبدأ هنري يفكر في الطلاق. أو بعبارة أدق في إعلان بطلان الزواج باعتباره غير صحيح. وحاولت كاثرين المسكينة مرة أخرى وفي عام 1516 أنجبت طفلة قدر لها أن تكون الملكة ماري. وأذعن هنري وقال لنفسه: "إذا كانت هذه المرة ابنة فإن الأبناء سوف يجيئون بعدها(53)"


بفضل الله ومنه. وفي عام 1518 أنجبت كاثرين ابناً آخر ولد ميتاً. واشتدت خيبة أمل الملك والبلاد لأن ماري البالغة من العمر عامين، كانت قد خطبت إلى ولي عهد فرنسا، وإذا لم يرزق هنري بولد فإن ماري سوف ترث العرش الإنجليزي، وعندما يصبح زوجها ملكاً على فرنسا فإنه سيكون في الواقع ملكاً على إنجلترا أيضاً، وتصبح بريطانيا مقاطعة تابعة لفرنسا، وكان دوقات نورفولك وبكنجهام تداعبهم الآمال في أن يزيحوا ماري ويضمنوا التاج لأنفسهم، وأطلق بكنجهام لسانه فاتهم بخيانة البلاد وقطع رأسه (1521)، وعبر هنري عن خوفه من أن يكون حرمانه من إنجاب ولد عقاباً من الله لأنه استخدم محللاً بابوياً(54) من وصية واردة في الكتاب المقدس. وأقسم ليقودن حملة صليبية ضد الأتراك إذا أنجبت له الملكة ولداً. غير أن كاثرين لم تحمل بعد ذلك. وما أن حل عام 1525 حتى تخلى عن كل أمل في الحصول على ذرية أخرى منها.
وكان هنري منذ أمد بعيد قد فقد الميل إليها باعتبارها أنثى. وكان وقتذاك في الرابعة والثلاثين، أي في عنفوان الرجولة الفتية، وكانت في الأربعين وتبدو أكبر من سنها. ولم تكن قط مغرية، والحق أن مرضها المتكرر، أو ما صادفها من سوء الحظ، قد شوه جسدها وأضفى إلى روحها قتامة، وكانت تبز النساء بثقافتها ودماثتها ولكن الأزواج قلما يرون أن التضلع في العلم خصلة محمودة في الزوجة. وكانت زوجة صالحة مخلصة، تحب زوجها حباً لا يفوقه إلا حبها لإسبانيا. وكانت ترى نفسها باعتبارها - وكانت كذلك لفترة ما - سفيرة لإسبانيا وكانت ترى أن إنجلترا يجب أن تقف دائما في صف فرديناند أو شارل. وفي حوالي عام 1518 اتخذ هنري أول حظية له عرفها بعد الزواج وهي اليزابيث بلاوتد شقيقة مونتجوي صديق أرازموس، وأنجبت له ابناً عام 1519 وأنعم هنري على الصبي بلقب


دوق رتشموند وسومرست، وفكر في أن يقف وراثة الهرش عليه. وفي عام 1524 اتخذ حظية أخرى، هي ماري بولين(55)، والحق أن سير جورج ثروكمورتون اتهمه في وجهه بالزنا مع أم ماري أيضاً(56). وكان هناك قانون غير مكتوب في ذلك العهد ينص على أن الملك إذا ما تزوج لأسباب تتعلق بمصلحة الدولة ولم يكن ذلك باختياره، فإن له الحق في أن ينشد خارج الزواج الغرام الذي فقده في المخدع الشرعي.
وفي عام 1527 أو قبله حول هنري فتنته إلى آن شقيقة ماري. وكان والدهما سير توماس بولين، تاجراً دبلوماسياً حظي منذ وقت طويل بعطف الملك، أما أمهما فكانت من آل هوارد، وهي ابنة الدوق نورفولك. وأرسلت آن إلى باريس لإتمام دراستها فيها، وهناك عينت وصيفة للملكة كلود ثم لمرجريت دي نافار، ولعلها تشربت منها بعض النوازع البروتستانتية. وكان في وسع هنري أن يراها فتاة طروباً في الثالثة عشرة من عمرها في ميدان كلوث أف جولد، وعندما عادت إلى إنجلترا وهي في الخامسة عشرة من عمرها (1522) أصبحت وصيفة للملكة كاثرين. ولم تكن رائعة الجمال، وكانت قصيرة القامة لها بشرة قاتمة وفم واسع ورقبة طويلة، ولكنها خلبت لب هنري وآخرين غيره بعينيها السوداويين البراقتين وشعرها البني المسترسل ورشاقتها وذكائها ومرحها. وكان لها بعض العشاق المولهين بها، ومنهم توماس ويات الشاعر، وهنري برسي، الذي اصبح فيما بعد أيرل نور ثمبرلاند، واتهمها أعداؤها فيما بعد بأنها كانت متزوجة في السر من برسي قبل أن تضع أنظارها على الملك، إلا أن الدليل لم يكن قاطعا(57). ولا نعرف متى بدأ هنري يطارحها الغرام وأقدم رسائل الحب الباقية التي كتبها لها ترجع فيما يرجح إلى يوليه عام 1527.
ما هي العلاقة بين هذه القصة الغرامية والتماس هنري الحكم ببطلان



زواجه؟ مما لا جدال فيه أنه قد فكر في هذا الأمر في وقت يرجع إلى عام 1514 عندما كانت آن فتاة في السابعة من عمرها. ويبدو أنه طرح الفكرة جانباً حتى عام 1524، عندما كف عن مباشرة علاقاته الزوجية مع كاثرين، وفقاً لروايته(58). وأقدم إجراءات سجلت ببطلان الزواج اتخذت في مارس عام 1527، بعد تعرف هنري بآن بوقت طويل، وفي الوقت الذي حلت فيه محل شقيقتها في أحضان الملك، والظاهر أن ولزى كان لا يعلم شيئاً عن أي نية للملك في الزواج من آن عندما ذهب في يوليو عام 1527 إلى فرنسا لإعداد العدة للزواج بين هنري ورينيه، ابنة لويس الثاني عشر التي سرعان ما أثارت حركة بروتستانتية في إيطاليا. وأول إشارة لما انتواه هنري وردت في خطاب أرسله يوم 16 أغسطس سنة 1527 السفير الإسباني إلى شارل الخامس يبلغه فيه أن هناك اعتقاداً عاماً في لندن بان الملك إذا حصل على "طلاق" فإنه سوف يتزوج "إبنة سير توماس بولين(59)" ولم يكن هذا يعني ماري بولين لأن هنري وآن كانا يعيشان في شقتين متجاورتين تحت نفس القف في جرينوتش(60) عند حلول نهاية عام 1527. وقد نستنتج من هذا أن هنري سارع بطلب بطلان الزواج على الرغم من أنه يصعب أن يقال إن السبب في ذلك هو افتتانه بآن. وكان السبب الأساسي رغبته في الحصول على ولد يمكن أن ينقل إليه العرش مع شيء من الثقة في خلافة هادئة. وكانت إنجلترا بأسرها تشاطره ذلك الأمل. وتذكر الناس في فزع السنوات العديدة (1454-85) التي نشبت فيها الحرب بين بيتيورك ولانكاستر على التاج، ولك يكن قد مضى على ظهور أسرة تيودور غير اثنين وأربعين عاماً في سنة 1527، وكان حقها قي العرش مشكوكاً فيه، ولم يكن في وسع أحد أن يصل حبل الأسرة الحاكمة دون منازع إلا ولد شرعي ينحدر مباشرة من صلب الملك، ولو لم يلتقِ هنري قط بآن بولين فإنه كان قميناً


بأن يرغب في الحصول على طلاق وزوجة ولود بصورة مقبولة. ولا شك أنه يستحق هذا.
واتفق ولزى مع الملك في هذا الموضوع وأكد له أنه يمكن الحصول على قرار من البابا ببطلان الزواج، وكانت سلطة البابا في منح مثل هذا الانفصال أمر مقبول بوجه عام، كإجراء حكيم لتلبية مثل هذه الضرورات الوطنية تماماً، ويمكن تقديم سوابق كثيرة. بيد أن تقدير الكاردينال المشغول لم يعمل حساباً لتطويرين بغيضين: فهنري لم يكن يريد رينيه بل كان يريد آن وبطلان الزواج سوف يصدر من بابا، كان عندما وصلته المشكلة، أسيراً لإمبراطور، كان لديه أكثر من سبب لمناصبة هنري العداء، وربما كان شارل حرياً بأن يعارض بطلان هذا الزواج ما دامت عمته تقاومه، وكان يعارض أكثر لو عقد زواج جديد، كما دير ولزى، بربط إنجلترا بحلف قوي مع فرنسا. ولم يكن السبب الأولي للإصلاح الديني الإنجليزي هو جمال آن بولين الصاعد، بل الرفض العنيد الذي بدا من كاثرين وشارل في إدراك عدالة رغبة هنري في الحصول على ولد. واشتركت الملكة الكاثوليكية مع الإمبراطور الكاثوليكي والبابا الأسير في انفصال إنجلترا عن الكنيسة. ولكن السبب النهائي للإصلاح الديني الإنجليزي لم يكن طلب هنري بطلان الزواج بقدر ما كان من ارتفاع شأن الملكية الإنجليزية وبلوغها درجة من القوة جعلتها قادرة على أن ترفض التسليم بسلطة البابا في التدخل في شئون انجلترا، وتحكمه في مواردها.
وأكد هنري أن رغبته العارمة في الحصول على بطلان الزواج إنما دعا إليها جبربيل دي جرامون الذي أقبل إلى إنجلترا في فبراير عام 1527 لمناقشة الزواج المقترح بين الأميرة ماري والأسرة الملكية الفرنسية. فقد أثار جرامون، كما يروي هنري، سؤالاً عن شرعية بنوة ماري،

على أساس أن زواج هنري بكاثرين قد يكون غير صحيح باعتباره مخالفة لأحد نواهي الكتاب المقدس ولا يستطيع البابا أن يمحوها. ظن البعض أن هنري لفق القصة(61)، ولكن ولزى رددها وأبلغت إلى الحكومة الفرنسية (1528)، ولم ينكرها، بقدر ما هو معروف جرامون، وجاهد جرامون لإقناع كليمنت بأن طلب هنري بطلان الزواج أمر عادل، وأبلغ شارل سفيره في إنجلترا (29 يوليو سنة 1527) أنه كان ينصح كليمنت برفض التماس هنري.
وبينما كان ولزى في فرنسا ابلغ على وجه التحديد بأن هنري لا يرغب في الزواج من رينيه بل يريد الزواج من آن. واستمر يعمل للحصول على البطلان، ولكنه لم يخفِ اكتئابه بسبب اختيار هنري. وتجاوز الملك حاجبه في خريف عام 1527، وبعث بكاتم سره وليام نايت لتقديم ملتمسين للبابا الأسير، الأول يتضمن أن كليمنت، إذ يتعرف على صحة زواج هنري الذي تكتنفه الشكوك وافتقاره إلى ذرية من الذكور وكراهية كاثرين للطلاق، يجب أن يسمح لهنري بالاحتفاظ بزوجتين. وأصدر الملك أمراً في آخر لحظة أثنى نايت عن تقديم هذا الاقتراح، وكانت جرأة هنري قد خمدت ولابد أنه ذهل، عندما تلقى، بعد ثلاث سنوات، خطاباً من جيوفاني كاسالي أحد وكلائه في روما، مؤرخاً في 18 سبتمبر سنة 1530 يقول فيه: "منذ بضعة أيام اقترح على البابا سراً أن يأذن لجلالتك باتخاذ زوجتين(62)". وكان ملتمس هنري الثاني لا يقل غرابة، على البابا أن يمنحه محللاً للزواج من امرأة كان للملك علاقات جنسية مع أختها(63). ووافق البابا على هذا بشرط أن يعلن بطلان الزواج بكاثرين إلا أنه لم يكن على استعداد لإعلان بطلان هذا الزواج. وكان كليمنت لا يخشى شارل فحسب بل كان ينفر من القاعدة التي تقضي بأن أحد

البابوات السابقين قد ارتكب خطأ جسيماً بإعلان صحة الزواج. وتلقى في نهاية عام 1527 ملتمساً ثالثاً - بأنه يجب أن يعين ولزى قاصداً رسولياً آخر لعقد محكمة في إنجلترا تسمع الدليل وتحكم بصحة زواج هنري بكاثرين. وأذعن كليمنت (13 أبريل سنة 1528)، وعين الكاردينال كامبيجيو لعقد جلسة مع ولزي في لندن ووعد - في منشور بابوي لا يطلع عليه سوى ولزى وهنري - أن يؤيد أي قرار يتخذه المندوبان البابويان(64). وربما كان لانضمام هنري إلى فرانسيس (يناير سنة 1528) في إعلان الحرب على شارل وتعهدهما بتحرير البابا قد أثر في إذعان البابا.
واحتج شارل وأرسل إلى كيمنت نسخة من وثيقة ادعى أنها وجدت في المحفوظات الأسبانيّة، وفيها أكد يوليوس الثاني صحة المحلل الذي اقترح هنري وولزى بطلانه. وتعجل البابا، وهو لا يدر يما يفعل ولا يزال أسيراً لشارل، فأرسل تعليمات إلى كامبيجو بألا ينطق بحكم قبل أن يحصل على تفويض صريح من الآن فصاعداً... فإذا ألحق بالإمبراطور ضرر كبير، فإن كل أمل في السلام العالمي يكون قد تبدد ولا تستطيع الكنيسة أن تنجو من الخراب التام لأنها تخضع خضوعاً كاملاً لسلطات أتباع الإمبراطور... أجل بقدر الإمكان(65").
وعند وصول كامبيجو إلى إنجلترا (أكتوبر
سنة 1528) حاول أن يحصل على موافقة كثرين بالاعتزال في دير للراهبات، فوافقت بشرط أن يحلف هنري أيمان الرهبان. ولكن لم تكن هناك أمور أبعد عن ذهن هنري من الفقر والخضوع والعفة، ومهما يكن من أمر فإنه اقترح أن يحلف هذا الأيمان إذا وعد البابا يحله منها عند الطلب ورفض كامبيجيو أن ينقل هذا الاقتراح إلى البابا وأبلغه بدلاً من ذلك (فبراير سنة 1529) بعزم الملك على الزواج من آن. وكتب يقول: "إن هذه العاطفة أمر خارق للعادة أنه لا يرى شيئاً ولا يفكر في شيء سوى حبيبته آن، إنه


لا يستطيع أن يستغني عنها ساعة واحدة. وإني لأشعر بالإشفاق عليه عندما أرى أن حياة الملك واستقرار وسقوط البلاد بأسرها تتوقف على هذه المسألة وحدها(66)".
وحدثت تغيرات في الموقف الحربي جعلت البابا يتحول أكثر فأكثر ضد اقتراح هنري. وفشل الجيش الفرنسي، الذي كان هنري قد ساعده بتمويله، في حملته الإيطالية، وترك البابا في حالة اعتماد كلي على الإمبراطور. وطردت فلورنسا حكامها من آل مديتشي - وكان كليمنت مخلصاً لتلك العائلة مثله في ذلك مثل شارل الذي كان مخلصاً لآل هابسبورج.
وانتهزت (فينيسيا) البندقية فرصة عجز البابا لكي تنتزع رافتا من الولايات البابوية، فمن كان وقتذاك يستطيع أن ينقذ البابوية سوى آسرها؟ وقال كليمنت "لقد استقر رأيي تماماً على أن أصبح من أنصار النظام الإمبراطوري، وسوف أعيش وأموت وأنا متمسك بهذا الرأي(67)". ووقع في التاسع والعشرين من يونيه معاهدة برشلونة، وبمقتضاها وعد شارل بإعادة فلورنسا لآل مديتشي ورافنا للبابوية والحرية لكليمنت، ولكن على شريطة ألا يوافق كليمن مطلقاً على بطلان زواج كاترين إلا برضا كاترين وإرادتها الحرة.
ووقع فرانسيس الأول في الخامس من أغسطس معاهدة كامبراي التي سلمت في الواقع إيطاليا والبابا للإمبراطور.
وفي 31 مايو افتتح كامبيجيو مع ولزى المحكمة المختصة بالقاصد الرسولي للنظر في الالتماس المقدم من هنري، بعد أن أجل افتتاحها لأطول مدة ممكنة. واستغاثت كاترين بروما، وأبت أن تعترف باختصاص المحكمة. ومهما يكن من أمر فإن كلاً من الملك والملكة حضرا يوم 31 يونيه.



وخرت كاترين على ركبتيها أمامه وتوسلت إليه بكلمات مؤثرة أن يستأنفا حياتهما الزوجية. وذكرته بأعمالها الكثيرة وإخلاصها التام، وصبرها على لهوه خارج الأسوار، وأقسمت أن الله يشهد على أنها كانت عذراء عندما تزوجها هنري، وتساءلت أي شيء صنعته أساءت به إليه(68)؟ فأنهضها هنري وأكد لها أنه لم يكن هناك ما يتمناه بحماسة أكثر التوفيق في زواجهما وأوضح لها أن الأسباب التي حملته على طلب الانفصال ليست شخصية، بل أملتها عليه مصلحة الأسرة المالكة والأمة. ورفض استغاثتها بروما على أساس أن الإمبراطور يسيطر على البابا، فانسحبت وهي تبكي، ورفضت أن تشترك بعد ذلك في الإجراءات القضائية. وتكلم الأسقف فيشر مدافعاً عنها ومن ثم اكتسب عداوة الملك. وطالب هنري بصدور قرار من المحكمة وتحايل كامبيجيو على المماطلة في إصدار الحكم وأخيراً (23 يوليو سنة 1529) أجل المحكمة إلى العطلة الصيفية. وألغى كليمنت القضية وحولها إلى روما لكي يجعل التردد أشد حسماً.
واستشاط هنري غضباً وشعر بأن كاترين عنيدة بصورة غير معقولة، فرفض أن تربطه بها أية علاقة بعد ذلك، وأخذ يقضي ساعات لهوه علناً مع آن وربما ترجع إلى هذه الفترة معظم رسائل الحب السبع عشرة التي نقلها كامبيجيو سراً من إنجلترا(69) والتي تحتفظ بها مكتبة الفاتيكان بين ذخائرها الأدبية. ويبدو أن آن المجربة التي خبرت أساليب معاملة الرجال والملوك لم تمنحه إلا تشجيعاً ودغدغة تثير عواطفه، وشكت وقتذاك من أن شبابها يضيع في الوقت الذي يتوانى فيه الكرادلة الذين لم يستطيعوا أن يدركوا رغبة عذراء في الظفر برجل ميسور عن اعتراف بحق هنري في أن يتوج الرغبة برباط الزواج. ولامت ولزى لأنه لم يتعجل البت في طلب هنري بعزم أشد وبلاغ أسرع، وشاركها الملك استياءها.


وقد بذل ولزى كل ما في وسعه وإن كان يعارض الأمر بكل جوارحه. وكان قد ارسل بالمال إلى روما لرشوة الكرادلة(70) ولكن شارل كان قد أرسل بدوره مالاً وجيشاً علاوة على هذا. بل إن الكردينال كان قد أغضى عن فكرة التزوج من اثنتين(71) كما فعل لوثر بعد بضع سنوات. ومع ذلك عرف ولزى أن آن وأقرباءها من ذوي النفوذ يقومون بمناورة لإسقاطه. وحاول أن يهدئ من تأثيرها بالأطعمة اللذيذة والهدايا الثمينة، غير أن عداءها كان يزداد كلما طال العهد على إصدار قرار ببطلان الزواج. وتحدث عنها فقال: "إنها العدو الذي لم تكتحل عيناه قط بالنوم، ولم يكف عن الدرس والتصور معاً، في النوم واليقظة على السواء، للقضاء المبرم عليه(72)". وتنبأ بأن البطلان لو منح فغن آن سوف تصبح ملكة وتقضي عليه، وأنه لو لم يمنح ذلك القرار فإن هنري سوف يستغني عنه باعتباره رجلاً فاشلاً. ويطلب محاسبته على ادارته، حساباً مالياً دقيقاً مفصلاً.
وكان لدى الملك أسباب كثيرة لعدم الرضى عن حاجبه، فقد فشلت السياسة الخارجية وأثبتت أن التحول من صداقة شارل إلى الحلف مع فرنسا قد أدى إلى عواقب وخيمة.
ولم يكن في إنجلترا وقتذاك أمرؤ يقول كلمة طيبة في صالح الكاردينال الذي تمتع يوماً بسلطة مطلقة، فقد كان رجال الدين يكرهونه بسبب حكمه المطلق، وكان الرهبان يخشون أن يشهدوا مزيداً من حل الأديار، والعامة يبغضونه لأنه أخذ أبناءهم وأموالهم لشن حروب لا طائل من ورائها، والتجار يمقتونه لأن الحرب مع شارل عاقت تجارتهم مع الفلاندرز، والأشراف يكرهونه بسبب ما انتزعه منهم ظلماً، ولكبريائه



الطارئة وثروته التي تضاعفت سريعاً. وأبلغ بعض الأشراف السفير الفرنسي (17 أكتوبر سنة 1525) بقولهم انهم "ينوون" عندما يموت ولزى أو يقضى عليه أن يتخلصوا من الكنيسة ويتلقوا أموال الكنيسة وولزى معاً(73). واقترح القماشون في كنت أن يوضع الكاردينال في قارب يتسرب منه الماء، ويترك لتتقاذفه الأمواج في البحر(74).
وكان هنري أشد دهاء. وفي اليوم التاسع من أكتوبر سنة 1529 أصدر أحد وكلائه أمراً قضائياً باستدعاء ولزى للمثول أمام قضاة الملك، للرد على اتهام بأن أعماله كقاصد رسولي قد خالفت قانون الخضوع لسلطة التاج (1392)، الذي يقضي بمصادرة أموال أي إنجليزي يأتي بالكتب البابوية إلى إنجلترا. ولم يختلف الموقف لأن ولزى كان قد كفل سلطة القاصد الرسولي بناء على طلب الملك(75)، وأنه استخدمها بخاصة لصالح الملك. وادرك ولزى أن قضاة الملك سوف يدينونه فأرسل إلى هنري امتثالاً ذليلاً، يعترف بفشله ويلتمس أن يتذكر الملك أيضاً خدماته وآيات ولائه. ثم غادر لندن في نقالة مائية سارت في نهر التيمس. وتلقى في بوتنى رسالة رقيقة من الملك. وجثا على الطين في شكر بائس وحمد الله. واستولى هنري على المحتويات الثمينة في قصر كاردينال في هويتهول إلا أنه سمح له بالاحتفاظ بمنصب رئيس أساقفة يورك وبأموال شخصية تكفي احتياجات 160 جواداً تجر 72 عربة إلى مقره الأسقفي(76). وخلف الدوق نورفولك ولزى في رئاسة الوزارة وخلفه مور في منصب الحاجب (نوفمبر سنة 1529).
واقبل الكاردينال الذي جرد من سلطاته، على عمله، كبير أساقفة، في ورع ومثالية، وأخذ يزور أبرشياته بانتظام ويدبر ترميم الكنائس،


ويعمل قاضياً موثوقاً به للتحكيم. وتساءل رحل من يوركشاير: "مَن كان أقل نصيباً من الحب في الشمال من مولاي الكاردينال قبل أن يعيش بينهم؟ ومَن كان محبوباً أكثر بعد أن عاش هناك فترة ما(77)؟" بيد أن الطموح استيقظ في أعماقه مرة أخرى وسكن روعه من الموت وكتب خطابا ليوستاس شابويس سفير الإمبراطور في إنجلترا، وضاعت هذه الخطابات، بيد أن هناك تقريراً من شابويس إلى شارل ورد فيه: "لدي خطاب من طبيب الكاردينال يقول إني سيده... رأى أن على البابا أن يمضي قدماً في إجراءات لوم أشد ويستدعي الجيش العلماني(78)". أي الحرمان من غفران الكنيسة والغزو والحرب الأهلية.
وعلم نورفولك بهذه الرسائل المتبادلة وقبض على طبيب ولزى وانتزع منه، بوسائل لم تعرف على وجه التحقيق، اعترافاً بأن الكاردينال قد أشار على البابا بحرمان الملك من غفران الكنيسة. ولا نعرف هل كان السفير أو الدوق هو الذي ابلغ صدقاً عن الطبيب، أو هل كان الطبيب هو الذي ابلغ حقاً عن الكاردينال، وعلى أية حال فإن هنري أو الدوق أمر بالقبض على ولزى.
واستسلم في هدوء (4 نوفمبر سنة 1530) وودع أسرته وانطلق إلى لندن. وأصيب في شيفلد بارك بدوزنتاريا شديدة ألزمته الفراش. وهناك اقبل جنود الملك يحملون أوامر باقتياده إلى البرج. واستأنف رحلته، ولكن بعد مضي يومين من الركوب بلغ من الضعف حداً جعل حارسه يسمح له بأن يلزم الفراش في دير ليسيستر. وغمغم أمام ضابط الملك سير وليام كنجستون بالكلمات التي نقلها كافنديش واقتبسها شكسبير "لو أنني خدمت الله بإخلاص وجد كما خدمت الملك لما أسلمني في شيخوختي(79)". ومات ولزى بالغاً من العمر خمسة وخمسين عاماً في دير ليسيستر يوم 29 نوفمبر سنة 1530.


يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن





 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق