إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 29 أبريل 2014

1292 قصة الحضارة ( ول ديورانت ) قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> اليهود -> الشتات الثاني 3- الشتات الثاني


1292

قصة الحضارة ( ول ديورانت )

 قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> اليهود -> الشتات الثاني

3- الشتات الثاني



إلى أين يذهب اليهود؟ إن جزيرتي سردينيا وصقلية اللتين كانوا قد قطنوا فيهما لمدة ألف سنة من قبل، قد شملهما، بالإضافة إلى أسبانيا، المرسوم الذي أصدره فريناند بطردهم. وما جاءت 1493 حتى كان آخر يهودي قد غادر بالرمو. وفي نابولي استقبل فرانت الأول والإخوان الدومينيكان والجالية اليهودية المحلية، آلاف اللاجئين بالترحاب. ولكن شارل الخامس أصدر في سنة 1540 مرسوماً بطرد اليهود من نابولي.
وكان في جنوة لزمن طويل قانون يحدد دخول أعداد إضافية من اليهود. ولما وصل المرتدون من أسبانيا 1492، لم يسمح لهم بالبقاء لأكثر من بضعة أيام قليلة. ولقد وصفهم مؤرخ جنوي بأنهم أشباح بالغة الهزال والشحوب والنحول، عيونهم غائرة، ولا يفرقهم عن الموتى سوى قدرتهم على الحركة"(55). ومات الكثير منهم جوعاً، وحملت الأمهات أطفالاً موتى، وباع بعض الآباء أبناءهم ليدفعوا أجر الانتقال من جنوى. واستقبل نفر قليل من المنفيين في فيرارا، ولكن طلب إليهم أن يضعوا شارات صفراء(56) وربما كان هذا بمثابة احتياط ضد انتشار المرض.
وكانت البندقية لعهد طويل مأوى لليهود. وكم من محاولات كانت قد بذلت لإخراجهم منها (1395-1487) ولكن السناتو تولى حمايتهم لأنهم كانوا يسهمون إسهاماً هاماً في الاقتصاد والمال، ويتولون الجزء الأكبر من تجارة الصادرات في البندقية، وكانوا نشيطين في استيراد الصوف



والحرير من أسبانيا، والتوابل واللؤلؤ من الهند(57). ولفترة طويلة كانوا يقطنون، بمحض اختياراهم الحي الذي سمي باسمهم (حي اليهود). وفي 1516 وبعد تشاور مع زعماء اليهود، قضى السناتو بأن يقطن كل اليهود، فيما عدا نفر قليل مرخص لهم بصفة خاصة، في قطاع من المدينة عرف باسم Ghetto أي حي خاص، والظاهر أن هذا اللفظ مأخوذ عن كلمة getto، أو مسبك كان هناك(58). وأمر السناتو كل اليهود المرتدين بمغادرة البندقية، وقد شجع المسيحيون المنافسون هذا الإجراء. على أن بعض التجار المسيحيين عارضوه لأنه يهدد بفقدان أسواق معينة، وخاصة في العالم الإسلامي، ولكن شارل الخامس استخدم كل نفوذه في الموضوع، ونفذ مرسوم الطرد(59). على أنه لم يمض وقت طويل حتى زحف التجار اليهود إلى البندقية ثانية، وحل المنفيون من البرتغال محل اليهود المتنصرين الذين طردوا، وأصبحت اللغة البرتغالية لبعض الوقت هي لغة اليهود البنادقة.
واستقبل البابا الإسكندر استقبالاً كريماً في رومه كثيراً من المنفيين من شبه جزيرة إيبيريا، وازدهرت أحوالهم في عهد جوليوس الثاني، وليو العاشر، وكليمنت السابع، وبول الثالث. وأباح كليمنت للمرتدين ممارسة الطقوس اليهودية في حرية تامة، مؤمناً بأنهم غير ملزمين بأي تعميد إجباري(60). وفي أنكونا، ثغر الولايات البابوية على الأدرياتيك، حيث كان اليهود عنصراً نشيطاً في التجارة الدولية، أنشأ كليمنت مأوى لليهود الذين أعلنوا عن ديانتهم وضمن لهم عدم التحرش بهم. أما بالنسبة للبابا بول الثالث فيقول الكاردينال سادوليتو: "لم يغدق أي من البابوات على المسيحيين من التكريم والحفاوة والامتيازات والمنح مثل ما أغدق بول الثالث على اليهود. إنهم لم يحظوا بالمساعدة فقط بل إنهم تزودوا كذلك عملياً بالمنافع والامتيازات(61)". وشكا

أحد الأساقفة من أن اليهود المرتدين عند دخولهم إلى إيطاليا أسرعوا بالعودة إلى ممارسة الطقوس اليهودية وختان أطفالهم المعمدين، تحت بصر البابا والأهالي، في الغالب. وتحت ضغط هذه الانتقادات أعاد بول محاكم التفتيش في رومه (1542)، ولكنه، وقف إلى جانب المرتدين طوال حياته(62).
وتحول خلفاؤه - وقد ضيقت عليهم الخناق انتكاسة عن أساليب الرفق واللين التي سادت عصر النهضة - تحولوا إلى سياسة إزعاج اليهود وإقلاق بالهم. وطبقت المراسيم البابوية القديمة. وفرض بول الرابع (1555-1559) على كل معبد أن يسهم بعشرة دوكات (250دولار؟) في إقامة دار للمتنصرين ليتلقى فيها اليهود تعاليم المسيحية. وحرم عل اليهود استخدام خدم أو مرضعات مسيحيات أو علاج مرضى مسيحيين، أو أن يبيعوا المسيحيين شيئاً غير الملابس القديمة، أو أن يقيموا مع المسيحيين أية معاملات أو علاقات ممنوعة. وما كان لهم أن يستعملوا إلا التقويم المسيحي. وهدمت كل معابد اليهود في رومه إلا واحداً، وحرم على اليهودي أن يمتلك عقاراً، وإذا كان لأحد منهم أي عقار فعليه أن يبيعه في بحر ستة شهور، وبهذه الطريقة استطاع المسيحيون أن يشتروا بما يعادل 500.000 كراون (12.500.000 دولار) من أملاك اليهود بخمس قيمته الفعلية(63). وانحصر كل اليهود الذين بقوا آنذاك في رومه (1555) في حي منعزل عاش فيه عشرة آلاف شخص في كيلومتر مربع فقط، وشغلت عدة أسرات حجرة واحدة. وتعرض الحي، بسبب انخفاض مستواه، للفيضان الدوري لنهر التيبر، حتى جعل من هذه البقعة مستنقعاً ملوثاً بالطاعون(64). وأحيط الحي بأسوار كئيبة تغلق أبوابها في منتصف الليل وتفتح عند الفجر، فيما عدا أيام الأحد والعطلات المسيحية فإنها تظل مغلقة طوال اليوم. وألزم اليهود بأن يلبسوا خارج هذا المعزل زياً مميزاً - للرجال


قبعة صفراء، للنسوة خمار أو شارة صفراء - وأقيمت أحياء منعزلة مثل هذا في فلورنسا وسيينا؛ وبمرسوم من البابا في أنكونا وبولونيا، وكانت تسمى هناك Enferno(65) (الجحيم). واصدر بول الرابع أمراً سرياً بوضع كل المرتدين في انكونا في سجون محكمة التفتيش وبمصادرة بضائعهم. وأحرق هناك أربعة وعشرون رجلاً وامرأة واحدة أحياء بتهمة أنهم هراطقة مرتدون (1556)(66) وأرسل سبعة وعشرون يهودياً للتجديف على السفن الشراعية إلى الأبد(67). وكان هذا بالنسبة ليهود إيطاليا انتقالاً من عصر ذهبي إلى شفق شاحب.
وتسللت حفنة من اللاجئين اليهود إلى فرنسا وإنجلترا على الرغم من القوانين التي تنص على إبعادهم. وكانت ألمانيا كلها تقريباً مغلقة في وجوههم. وقصد كثيرون إلى أنتورب، ولكن سمح لنفر قليل منهم فقط بالإقامة لمدة تزيد على شهر. وأسس ديوجومنديس - وهو برتغالي مرتد - في أنتورب فرعاً للبنك الذي كانت أسرته قد أسسته في لشبونة. وفي 1532 لاقى من النجاح ما حدا مجلس أنتورب على القبض عليه مع خمسة عشر آخرين بتهمة ممارسة اليهودية. وتدخل هنري الثامن الذي استخدم منديس وكيلاً مالياً، وأطلق سراح ثلاثة عشر، بعد دفع غرامة فادحة، وهذا هو "الغرض الأسمى" من كل حالات القبض. وانتقل اليهود الآخرون إلى أمستردام حيث كان من الممكن أن تنتعش أحوالهم بعد تحرر هولندة من نير أسبانيا سنة 1589.
أما هؤلاء اللاجئون الذين التمسوا مأوى في الأراضي الإسلامية التي لا تخضع مباشرة لسيطرة سلطان تركيا، فقد صاروا إلى حالة أحسن بقليل منها في العالم المسيحي. وأطلق المغاربة النار على اليهود الذين حاولوا أن يحطوا رحالهم في أوران والجزائر وبوجيا، ولقي عدد وفير منهم حتفهم. ولما منعوا من الدخول إلى المدن أقاموا معزلاً مرتجلاً من الأكواخ من خشب الأشجار، وشبت النيران في أحد الأكواخ، فالتهمت المستوطنة عن آخرها

مع كثير من اليهود، أما الذين قصدوا إلى فاس فقد وجدوا الأبواب موصدة دونهم، فاحتلوا بعض الحقول وعاشوا على الأعشاب وجذور الشجر، وقتل الأمهات أطفالهن خيراً من أن يرينهم يموتون جوعاً. وباع الآباء أبناءهم في مقابل قطعة من الخبز. وأنى الطاعون على مئات من الأطفال والشبان. وهاجم القراصنة وسرقوا الأطفال ليبيعوهم بيع الرقيق(68). ومزق القتلة أجسام اليهود عساهم يعثرون على مجوهرات اعتقدوا أن اليهود قد ابتلعوها(69). وبعد كل هذه المصائب والكوارث، أنشأ الذين عمروا بعدها، في شجاعة لا تصدق، في ظل ألوان من الضعف والعجز لا نهاية لها، جاليات يهودية جديدة في المغرب العربي. وفي الجزائر، خاطر سيمون ديوران الثاني بحياته المرة بعد المرة، لحماية المنفيين، وتنظيمهم بشكل يوفر شيئاً من الأمن. وفي فاس أصبح يعقوب بيراب أشهر علماء التلمود في زمانه.
ولقي المنفيون من أسبانيا، استقبالاً إنسانياً في القاهرة تحت حكم سلاطين المماليك والعثمانيين، وسرعان ما سموا إلى زعامة الجالية اليهودية. وألغى سليم الأول وظيفة Nagid "الأمير" وفيها كان يتولى أحد الأحبار تعيين سائر الأحبار، ويشرف على شئون كل اليهود في مصر، وبعد ذلك أصبح لكل جالية يهودية أن تختار حبراً لها وان تتولى شئونها الداخلية بنفسها، وأنهى حبر القاهرة الجديد وهو داود بن أبي زمرة وهو مهاجر أسباني - استخدام التقويم البابلي القائم على تقسيم الزمن إلى فترات - الذي كان يهود أسيا وأفريقية يستعملونه - وحثهم على اقتباس تقويم آخر (كما فعل يهود أوربا في القرن الحادي عشر) وهو تقويم قائم على حساب السنين منذ بدء الخليقة الذي حدد مؤقتاً بعام 3761 قبل الميلاد.
وحيثما ذهب يهود أيبيريا (Sephardic) حظوا بالزعامة الثقافية، والسياسية


في الغالب، على اليهود المحليين. ففي سالونيك أصبحوا، وظلوا حتى 1918، غالبية عددية بين السكان، حتى أن اليهود غير الأسبان الذين جاءوا ليعيشوا في هذه المدينة، كان لزاماً عليهم أن يتعلموا اللغة الإسبانية. وفي ظل هذه السيطرة اليهودية، كانت سالونيك لفترة من الزمن أكثر المراكز التجارية ازدهاراً في شرق البحر المتوسط.
ورحب السلطان بايزيد الثاني في تركيا باليهود المنفيين، لأنهم أحضروا معهم، على وجه الدقة، تلك المهارات اللازمة للحرف والصناعات اليدوية والتجارة والطب. مما لم تكن تركيا قد توسعت فيه وطورته إلا في أقل الحدود. وقال بايزيد عن فرديناند الكاثوليكي: "إنكم تقولون إن فرديناد ملك حكيم عاقل ذلك الذي أفقر بلاده وأغنى بلادنا"(70). وخضع اليهود، شأنهم شأن غير المسلمين في أرض الإسلام، لضريبة الرأس، ولكن هذه الضريبة أعفتهم من الخدمة العسكرية. وبقي معظم يهود تركيا فقراء، ولكن كثيراً منهم أثرى وسما إلى مراكز النفوذ. وسرعان ما أصبح كل أطباء القسطنطينية تقريباً من اليهود. وكان طبيب سليمان من ذوي الحظوة لديه، إلى درجة أنه أعفاه وأعفى أسرته من كل الضرائب وبرز اليهود في الناصب الدبلوماسية في عهد سليمان، حتى أن السفراء المسيحيين كان لزاماً عليهم أن يتوددوا إليهم تقرباً إلى السلطان. وكان لأنباء اضطهاد اليهود في أنكونا على يد بول الرابع وقع شديد في نفس سليمان، واحتج عليها لدى البابا (9 مارس 1556) وطلب الإفراج عن رعايا تركيا من اليهود في أنكونا، وفعلاً أطلق سراحهم(71). وآوى جراسيا منديزيا، وهو أحد أفراد أسرة منديس الذين اشتغلوا بالأعمال المصرفية، إلى اسطنبول ليجد فيها أخيراً الأمن والطمأنينة، بعد أن أتى كثيراً من أعمال البر



والخير في أنتورب وفيرارا والبندقية، ولقي جزاء سنمار من الإساءة والأذى.
وفي عهد الأتراك استقبلت الأرض المقدسة مرة أخرى، القوم الذين كانوا قد أضفوا عليها القداسة أول الأمر. ولما كانت القدس مقدسة لدى المسيحيين والمسلمين، قدر ما هي مقدسة لدى اليهود، فإنه لم يسمح بالإقامة فيها إلا لعدد محدود من العبرانيين. أما في صفد في الجليل الأعلى، فقد ازداد عدد اليهود وارتفعت مكانتهم الثقافية بسرعة، حتى أن يعقوب بيراب حاول أن ينشئ هناك جمعية Sonhedrin ، تكون بمثابة هيئة عليا تتولى الحكم بين جميع اليهود. وكانت تلك فكرة جريئة. ولكن اليهود كانوا موزعين في شتى البلاد متباينين في اللغة وطرق الحياة، إلى حد لا يسمح بتوحيد الحكم. وعلى الرغم من ذلك فإن اليهود في أرض الإسلام وفي العالم المسيحي، كانوا في صلواتهم يتضرعون إلى الرب "ليجمع شتاتهم ويلم شملهم من أركان الأرض الأربعة". وفي يوم الكفارة Yom Kippur، وفي يوم الفصح يجتمع اليهود في كل مكان في العالم حول الأمل الذي تشبثوا به فأبقى عليهم وسط المحن، ويرددون: "سنكون في العام القادم في فلسطين"(72).


يتبع
 يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق