إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 29 أبريل 2014

1291 قصة الحضارة ( ول ديورانت ) قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> اليهود -> على السفود 2- على السفود


1291

قصة الحضارة ( ول ديورانت )

 قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> اليهود -> على السفود

2- على السفود


لماذا كان المسيحيون واليهود يمقتون بعضهم بعضاً؟ لا ريب أنه كان هناك سبب يسود بينهم باستمرار، ذلك هو الصراع الحاد بين العقائد الدينية، حيث كان اليهود يشكلون تحدياً ثابتاً معمراً للمعتقدات المسيحية الأساسية.
وأدى العداء الديني إلى فصل عنصري جاء في أول الأمر طوعاً، ثم بات قسراً فيما بعد، حيث انبثق في إنشاء أول حي يهودي في سنة 1516. وأبرز هذا الفصل العنصري الاختلافات في اللباس وطرق الحياة والملامح والصلاة والكلام. وشجع هذا التباين على عدم الثقة والخوف المتبادلين بين الطرفين. وولد هذا الخوف كراهية. وحول اليهود ما ألفوا من منع زواجهم من المسيحيين مفخرة لهم. وتمخض اعتزازهم بجنسهم عن تباهيهم بأنهم سلالة ملوك قد حكموا إسرائيل ألف سنة قبل ظهور المسيح. واحتقروا المسيحيين بوصفهم مشركين يؤمنون بالخرافات، وأنهم يتصفون بشيء من



بطئ الفهم، ولكنهم يتشدقون بعبارات ملؤها الرياء المهذب على حين يأتون بأعمال وحشية لا يستشعرون فيها الرحمة، ويعبدون "أمير سلام" على حين يشن الأخوة الحرب تلو الحرب ضد أخوتهم. كما احتقر المسيحيون اليهود على أنهم كفرة غرباء لا يؤلفون. ويروي توماس مور قصة سيدة تقية صعقت عندما علمت أن السيدة العذراء كانت أصلاً يهودية، فاعترفت بأنها لن تستطيع بعد ذلك أن تكن "لأم الإله" ما كانت تكنه لها من حب من قبل(25).
وأصبحت قصة القربان المقدس مأساة لليهود. فقد طلب إلى المسيحيون أن يؤمنوا بأن الكاهن كان يحول رقائق الخبز غير المخمر إلى جسد المسيح ودمه، وقد ارتاب في هذا بعض المسيحيين، مثل "طائفة المتمتمين "، وربما أمكن أن يقوى من هذا الاعتقاد ما روى من قصص عن بعض رقائق الخبز المكرس التي تقطر دماً عند أية وخزة من سكين أو دبوس. ولكن من ذا الذي يقدم على هذه الفعلة الشنيعة غير اليهود؟ وفي القرون الخيرة من العصور الوسطى كانت مثل هذه الأساطير التي تروي عن القربان الذي يقطر دماً كثيرة جداً. وفي حالات عديدة: في نيوبرج (بالقرب من باسو) 1338، وفي بروكسل 1369، أدت هذه المزاعم إلى ذبح اليهود وإحراق بيوتهم. وأقيم في كاتدرائية سانت جود ول في بروكسل مصلى خاص لتخليد ذكرى القربان الذي أدمى 1369، واحتفل بهذه المعجزة سنوياً في عيد يطلق عليه Flemish Kermess،(26). واعترف أحد الكهنة في نيوبرج بأنه كان قد غمس قرباناً غير مكرس في الدم وخبأه في إحدى الكنائس ثم اتهم


اليهود بطعنه(27). وينبغي أن نضيف إلى هذا أن رجال الكنيسة المستنيرين مثل نيقولا أوف كوزا دمغ أساطير هجمات اليهود على القربان بأنها ضروب من القسوة مخزية.
واستترت المنافسات الاقتصادية وراء العداء الديني. فعلى حين امتثل المسيحيون لأمر البابا بتحريم الفوائد الربوية، حصل اليهود على ما كاد يكون احتكاراً لإقراض النقود في العالم المسيحي. ولما تجاهل بعض أصحاب المصارف المسيحيين هذا التحريم، هبت شركات مثل Strozzi, Pitti, Bordi في فلورنسه، وولزرز Fuggers, Hochstetters, Welsers في أوجزبرج، هبت تتحدى هذا الاحتكار، ومن ثم تركزت هنا إثارة جديدة للخواطر، وتقاضى الطرفان, المسيحيون واليهود، كلاهما نسبة عالية من فوائد القروض، مما يعكس المغامرة بإقراض النقود في اقتصاد غير مستقر، زاد من زعزعته ارتفاع الأسعار وانخفاض قيمة العملة. وغامر المقرضون اليهود أكثر مما فعل منافسوهم. وباتت ديون اليهود على المسيحيين غير محققة وغير مأمونة تكتنفها مخاطرة كبيرة، فقد تعلن السلطات الكنسية تأجيل الدفع، كما حدث في الحروب الصليبية، وربما فرض الملوك، وقد فرضوا بالفعل، على اليهود ضرائب يصادرون بها أموالهم، أو ابتزوا القروض منهم قسراً وإلا طردوهم وأحلوا مدينيهم من ديونهم أو تقاضوا نصيباً من المسموح بجمعه من الأموال. وفي شمال الألب ظلت كل الطبقات تقريباً، فيما عدا رجال الأعمال، تعتبر الفائدة رباً، ودمغوا بالإجرام أصحاب المصارف اليهود، وخاصة من يقترضون منهم. ومذ كان اليهود بصفة عامة أكثر رجال المال خبرة وتجربة، فقد استخدمهم الملوك في كثير من الأقطار لإدارة الشئون المالية في الدولة. وكانت رؤية اليهود الأثرياء يتقلدون مناصب مريحة ويجمعون الضرائب من الناس تثير استياء الشعب وسخطه.


ومع هذا كله، رحبت بعض المجتمعات المسيحية بأصحاب المصارف من اليهود: وقدمت لهم فرانكفورت امتيازات خاصة شريطة تقاضيهم نسبة32% فقط، على حين تقاضوا من آخرين 43%(28)، وقد نرى في هذا ما يثير نفورنا الشديد، ولكنا نسمع عن مقرضي نقود مسيحيين بلغ ما تقاضوه 266%، وتقاضى آل هولز هورز في نورمبرج 220% في 1304، وتقاضى المقرضون المسيحيون في برنديزي 240%(29). كما نسمع عن مدن طالبت بعودة أصحاب المصارف اليهود باعتبارهم أكثر تساهلاً ورفقاً من نظرائهم المسيحيين. واشترطت رافنا، في معاهدة مع البندقية، وجوب إرسال ماليين يهود إليها لفتح حسابات مصرفية للنهوض بالزراعة والصناعة(30).
وأضافت الروح القومية نغمة جديدة إلى أنشودة البغض والكراهية. وذهبت كل أمة إلى أنها بحاجة إلى وحدة عرقية ودينية. وطالبت بامتصاص اليهود فيها أو تحولهم عن دينهم. وكانت عدة مجالس كنسية، كما كان بعض البابوات يكرهون اليهود بشكل يتسم بالعدوان. وحرم مجلس فيينا (1311) أي تعامل بين المسيحيين واليهود. واستن مجلس زمورا (1313) قاعدة بأن يبقوا في حالة خضوع وعبودية صارمة. وجدد مجلس بال (1431-1433) القوانين الكنسية التي تحرم على المسيحيين معاشرة اليهود، أو خدمتهم، أو استخدامهم كأطباء، وأصدرت التعليمات إلى السلطات المدنية بعزل اليهود في أحياء مستقلة، وإلزامهم بوضع شارة مميزة، والتحق من حضورهم عظات تهدف إلى تحويلهم عن دينهم(31). ولم يطق البابا يوجينيوس الرابع، الذي كان في نزاع مرير مع مجلس بال، أن يتفوق عليه هذا المجلس في إزعاج اليهود، فأكد التجريد من الحقوق الذي وضعه هذا المجلس، وأضاف أنه يجب ألا يكون اليهود مؤهلين لأية وظيفة عامة، وألا يرثوا أية ممتلكات مسيحية، وألا يشيدوا مزيداً من المعابد، وأن يقبعوا في دورهم خلف الأبواب والنوافذ المغلقة


في أسبوع الآلام، (احتياط حكيم ضد عنف المسيحيين)، أضف إلى ذلك أنه لا يعتد قانوناً بشهادة اليهود ضد المسيحي. وشكا يوجينيوس من أن بعض اليهود افتروا على يسوع ومريم في أحاديثهم. ويحتمل أن هذا كان صحيحاً(32). فإن الكراهية تولد الكراهية. وأصدر يوجينيوس بعد ذلك موسوماً آخر يقضي بأنه وجد يهودي يقرأ التلمود، فلابد من مصادرة أملاكه. وفوض البابا نيقولا الخامس القديس يوحنا كابسترانوا (1447) ليراقب أن كل مادة في هذا التشريع المذل توضع يده على ممتلكات أي يهودي تولى علاج فرد مسيحي(33).
وعلى الرغم من كل هذه المراسيم كان سلوك جمهور المسيحيين مع اليهود يتسم بتلك الروح الطيبة التي تسيطر على كل الناس تقريباً، رجالاً ونساء. بل وعلى الحيوانات، إذا لم يعترض سبيلهم أو يمس مصالحهم شيء. ولكن من الجائز أن يوجد في معظم الجماعات أقلية لا تتورع عن ممارسة أعمال القسوة إذا أمكن القيام بها مع الإفلات من العقوبة بصفة جماعية. ومن هذا القبيل جماعة "الباستير"، وقد نشئوا كرعاة مرتبطين بالأرض المقدسة، وجذبوا أنظار الدهماء من الناس لدى مرورهم بفرنسا (1320)، فقد عقدوا العزم على قتل كل من يصادفهم من اليهود الذين رفضوا التعميد. وفي تولوز اعتصم نحو 500 من اليهود بأحد الأبراج، فحاصرهم حشد هائج من الغوغاء، وخيروهم بين التعميد أو الموت، وحاول محافظ المدينة عبثاً إنقاذهم. ولما أدرك اللاجئون أن المقاومة ضرب من المحال، أمروا نفراً من الأقوياء فيهم بأن يذبحوهم. وقيل إنهم جميعاً بهذه الطريقة لقوا حتفهم فيما عدا واحداً، عرض الإبقاء على حياته، مع الإذعان للتعميد، ولكن الحشد الثائر مزقه إرباً. وبمثل هذه الطريقة استأصل نحو 120 جالية يهودية في جنوب فرنسا وشمال أسبانيا ولم يخلفوا وراءهم إلا بقية معدمة(34). وفي 1321 أحرق في شينون

120 يهودياً بتهمة تسميم الآبار(35)، وفي 1336 أعلن أحد المتعصيين الألمان أنه تلقى الوحي من عند الله يأمره بقتل اليهود ثأراً لموت المسيح، فجمع حوله نحو خمسة آلاف من الفلاحين، أطلقوا على أنفسهم اسم Armleder نسبة لشريط من الجلد ربطوه حول أذرعهم، وجلسوا خلال الألزاس وأراضي الراين، وقتلوا كل يهودي عثروا عليه. واجتاحت حمى القتل بافاريا وبوهيميا ومورافيا والنمسا (1337) وحاول البابا بندكت الثاني عشر وقفها دون جدوى، ولكن في راتسبون وفيينا فقط أمكن حماية اليهود بطريقة فعالة، أما في الأماكن الأخرى فقد عذب الآلاف من اليهود وقتلوا(36).
وكان الموت السود كارثة خاصة حلت باليهود في العالم المسيحي. لقد أودى الطاعون نفسه بحياة المغول والمسلمين في آسيا،وهناك لم يفكر أحد في إلقاء اللوم على اليهود، ولكن في أوربا الغربية حيث جن جنون الأهالي لهول الوباء وما أحدثه من دمار، اتهم اليهود بتسميم الآبار في محاولة لاستئصال المسيحيين. ونسج الخيال المسعور كثيراً من التفاصيل. فقيل بأن يهود طليطلة أرسلوا رسلهم بصناديق ملآى بالسم الذي صنعوه من السحالي والعظاءات (نوع من الزواحف) وقلوب المسيحيين، إلى جميع الجاليات اليهودية في أوربا، مع توجيهات بإلقاء هذه السموم المركزة في الآبار والعيون.ودمغ الإمبراطور شارل الرابع هذا الاتهام بالسخف الذي لا يعقل، وكذلك فعل البابا كليمنت السادس(37)، وأيد كثيرون من عمد المدن والمجالس البلدية هذا الرأي، ولكن ذلك كله لم يأت بنتيجة تذكر، وساد بين المسيحيين اعتقاد باطل بأن الطاعون لم يكن يمس اليهود بسوء. وربما كانت الحمى في بعض المدن أقل فتكاً باليهود منها بالمسيحيين. تبعاً لاختلاف القوانين الصحية والرعاية الطبية(38), ولكن في بعض الأماكن مثل فيينا، راتسبون، أفنيون، روما، عانى اليهود من الطاعون ما عانى

المسيحيون(39)، ومع ذلك عذب اليهود حتى اعترفوا بتوزيع السم(40). وأغلق المسيحيون آبارهم وعيونهم، وشربوا ماء المطر أو الثلج المذاب، وانتشرت المذابح الرهيبة في فرنسا وأسبانيا وألمانيا. وفي إحدى المدن في جنوب فرنسا ألقيت الجالية اليهودية بأسرها في النار. وأحرق كل اليهود في سافوي، وحول بحيرة ليمان وفي برن وفريبورج وبروكسل. ومرة أخرى استنكر كليمنت السادس هذا الإرهاب وهذه التهمة, وأعلن براءة اليهود، وأشار إلى أن الطاعون كان شديداً حيث لا يوجد يهود، قدر شدته في أي مكان آخر، وحث رجال الدين على أن يكبحوا جماح الناس في أبرشياتهم، وحرم من الكنيسة كل من قتل اليهود أو اتهمهم ظلماً وافتراء، ولكن في ستراسبورج، على أية حال، شارك الأسقف في توجيه الاتهام، وحرض المجلس البلدي، على كره من المجلس، على أن ينفى كل اليهود. ورأى الجمهور أن هذا الإجراء معتدل، فطرد المجلس وعين مجلساً غيره، أمر بالقبض على كل اليهود في المدينة، وهرب بعض هؤلاء إلى الريف ولكنهم لقوا حتفهم بأيدي الفلاحين. وبقى ألفان من اليهود في المدينة فأودعوا السجون، وفرض عليهم التعميد، فأذعن نصفهم، ورفض الباقون فأحرقوا (14فبراير 1439). وبلغ مجموع من أبيدوا نحو 510 جاليات يهودية في أوربا المسيحية نتيجة هذه المذابح(41). وهلك عدد أكبر من ذلك، ففي سرقسطة على سبيل المثال، عاش واحد من بين كل خمسة من اليهود بعد الموت الأسود وما صحبه من اضطهادات(42). وقدر لي Lea أن 3000 من اليهود قتلوا في أرفورت، 12000 في بافاريا(43). وفي فيينا بناء على نصيحة الحبر جونة Jonah تجمع كل اليهود في المعبد وقتلوا أنفسهم بأيديهم، وحدث مثل هذا الانتحار الجماعي في ورمز، أوبنهايم، كرمز Krems، فرانكفورت(44). وحمل الذعر آلافاً من اليهود على الفرار من أوربا الغربية إلى بولندة أو تركيا. وقد يكون من


العسير أن نعثر، قبل زماننا أو في سجلات للوحشية، على أية أعمال أشد وحشية من قتل اليهود بالجملة في الموت الأسود.
وزحف اليهود الذين عمروا بعد الموت الأسود، وئيداً إلى المدن التي كانت قد سلبتهم، وأعادوا بناء معابدهم، ولكن اشتد شعور الكراهية نحوهم، حيث نسب الخطأ إليهم. وفي 1385 أودع السجون كل اليهود في مدن "العصبة السوابية" وعددها36 مدينة، ثم أطلقوا سراحهم على شريطة إلغاء كل الديون التي لليهود، ونال هذا الإجراء كل الرضا في نورمبرج بصفة خاصة لأنها كانت قد اقترضت منهم ما يعادل نحو 700.000 دولار(45). وفي 1389 ذبح عدد من اليهود بتهمة أنهم كانوا قد انتهكوا قدسية قربان مكرس. وبنفس التهمة أحرق 14 يهودياً في بوتزن (1399)(46). ولأسباب مختلفة طرد اليهود من كولون (1424)، ومن سيبير Speyer (1435)، ومن ستراسبورج وأوجزبرج (1439)، ومن ورزبرج (1498)، ومن أولم (1499). وأقر مكسيمليان الأول طردهم من نورمبرج على أساس أنهم "قد كثر عددهم وأنهم بفضل معاملاتهم الربوية وضعوا أيديهم على ممتلكات كثير من أفاضل المواطنين، وجروهم إلى مهاوي البؤس والعار"(47). وفي 1446 أودع كل اليهود في نطاق براندنبرج السجون وصودرت بضائعهم باتهامات دمغها ستيفن أسقف المدينة بأنها تخفي وراءها الجشع والطمع، "لقد تصرف تصرفا جائراً أولئك الأمراء الذين دفعهم جشعهم المفرط إلى القبض تصرفاً جائراً أولئك في غياهب السجون دون مبرر عادل. وهم يرفضون أن يعوضوهم عما ابتزوا منهم"(48). وفي 1451 فرض نيقولا كاردينال كوزا, وهو من أكثر الرجال استنارة في القرن الخامس عشر، على اليهود المقيمين في حدود ولايته وضع الشارة. وبعد ذلك بعامين بدأ يوحنا كابسترانو بوصفه ممثلاً للبابا نيقولا الخامس،


مهمته في ألمانيا وبوهيميا ومورافيا وسيلزيا وبولندة. واتهم في عظاته الملتهبة اليهود بقتل الأطفال وتدنيس القربان، وهي اتهامات كان قد دمغها البابوات بأنها خرافات قتالة. وأخرج أدواق بافاريا كل العبرانيين من دوقيتهم بعد أن ألهبهم "سوط اليهود". هذا. أما جودفري أسقف ورزبرج الذي كان قد منح اليهود امتيازاتهم كاملة في فرانكونيا، فإنه عاد الآن فنفاهم، وفي المدينة تلو المدينة قبض عليهم وألغيت كل الديون التي كانت لهم. وفي برسلار سجن عدد من اليهود بناء على طلب كابسترانو, وأشرف هو بنفسه على التعذيب الذي انتزع من بعضهم أي اعتراف أمر كابسترانو بالإدلاء به، وعلى أساس هذا الاعتراف أعدم أربعون منهم حرقاً (2 يونية 1453). ونفى اليهود الباقون، ولكن أطفالهم انتزعوا منهم وعمدوا بالقوة(49). وضم كابسترانو إلى القديسين 1690.
وإن محنة اليهود في راتسبون لتوضح حقيقة هذا العصر. فقد زعم هانز فوجل، وهو يهودي تنصر أن أحد الأحبار واسمه إسرائيل برونا، في الخامسة والسبعين من العمر كان قد ابتاع منه طفلاً مسيحياً وقتله، ليستخدم دمه في أحد الطقوس اليهودية. وآمن الناس بصحة الاتهام، وتعالت صيحاتهم مطالبين بعقوبة الموت للحبر العجوز. وألقى الإمبراطور فريدريك الثالث بالإفراج عنه. ولم يجرؤ المجلس على الامتثال للأمر، ولكنه قبض على فوجل، وأبلغه أنه لا مناص عن موته، وطلب إليه أن يعترف بخطاياه. فأقر أن برونا بريء، وأفرج عن الحبر. ولكن ترامت الأنباء إلى راتسبون عن اعتراف بعض اليهود تحت وطأة التعذيب بقتل طفل مسيحي في ترنت. وهنا نشا من جديد الاعتقاد بصحة اتهام فوجل، فأمر المجلس باعتقال كل يهود راتسبون ومصادرة بضائعهم، وتدخل فرديك، وفرض على المدينة غرامة قدرها ثمانية آلاف جيلدر، ووافق المجلس على إطلاق سراح اليهود


إذا دفعوا هذه الغرامة، وفوقها مبلغ 10 آلاف جيلدر بصفة كفالة (250.000 دولار؟). فأجاب اليهود بأن هذا المبلغ (18.000 جيلدر) يزيد على كل ما تبقى لهم من ممتلكات، ومن ثم يتعذر عليهم دفعه. وقضوا في السجن عامين آخرين. ثم أطلق سراحهم بعد أن أقسموا اليمين بألا يغادروا راتسبون وألا يحاولوا الانتقام. على أن رجال الدين أهاجوا الشعور لطردهم وهددوا بالحرمان من الكنيسة كل تاجر يبيع اليهود شيئاً. ولم يبق في سنة 1500 سوى 24 أسرة يهودية، وطرد هؤلاء في 1519(50).
ووصف طرد اليهود من أسبانيا، فيما أسلفنا من قبل، بأنه عملية مهمة بالنسبة لتاريخ تلك البلاد. وتجدد في البرتغال اضطهادهم عندما سمح البابا كليمنت السابع، بتحريض من شارل الخامس، للأساقفة البرتغاليين بإنشاء محكمة التفتيش (1531) بقصد فرض الشعائر المسيحية على "المسيحيين الجدد"، ومعظمهم من اليهود الذين كانوا قد عمدوا رغم إرادتهم. وطبق قانون توركيمادا الصارم، وبثت العيون والأرصاد لملاحظة ارتداد أي من المتنصرين إلى شيء من الطقوس الدينية اليهودية، وسجن الألوف من اليهود، وحرمت عليهم الهجرة، لأن مهامهم الاقتصادية كانت لا تزال ضرورية للاقتصاد البرتغالي. وحرم على المسيحيين شراء شيء من أملاك اليهود منعاً لهم من الهرب، وأرسل مئات من هؤلاء إلى المحرقة لمحاولتهم مغادرة البلاد، وصعق كليمنت لهذه الإجراءات، وربما أثرت فيه هدايا اليهود، فأبطل سلطة محكمة التفتيش البرتغالية، وأمر بإطلاق سراح كل من أمرت بسجنهم، وإعادة بضائعهم المصادرة. ونص مرسومه الصادر في 17 أكتوبر 1532 على بعض مبادئ إنسانية للتعامل مع المرتدين عن المسيحية.
لما كانوا قد سيقوا إلى التعميد قسراً، فلا يجوز أن يعتبروا أعضاء

في الكنيسة. وإن في معاقبتهم على الهرطقة والانتكاس

إلى شعائرهم الأولى، خرقاً لمبادئ الإنصاف والمساواة،


والأمر يختلف فيما يتعلق بأبناء وبنات الموارنة الأولين فإنهم

يتبعون الكنيسة كأعضاء مختارين غير مكرهين. وبما انهم

نشأوا في أحضان أقرباء لهم من اليهود، وشاهدوا هذا

النموذج ماثلاً دوماً تحت بصرهم، فإنه من القسوة أن

نعاقبهم بمقتضى قانون الكنيسة، بتهمة التردي في أساليب

اليهود ومعتقداتهم. إنهم يجب أن يظلوا في أحضان

الكنيسة بالمعاملة الحسنة(51).

ويتبين أن كليمنت كان مخلصاً من رسالة بها عند ما شعر بدنو أجله، إلى القاصد الرسولي في البرتغال في 26 يوليو 1534، يأمره بالإسراع بإطلاق سراح المسجونين المرتدين(52).
وتابع البابا الثالث بذل الجهد لمعاونة اليهود البرتغاليين، وأطلق سراح 1800 من المسجونين، ولكن عندما عاد شارل من حملته التي كانت في ظاهرها ناجحة ضد تونس، طالب، مكافأة له، بإعادة محكمة التفتيش في البرتغال، ووافق بول على كره منه (1536)، ولكن بشروط بدا للملك جون الثالث أنها تنسخ موافقته - منها ضرورة مواجهة المتهم بمن اتهمه. وإثبات حق المحكوم عليه في استئناف الحكم أمام البابا. وساعد مرتد متعصب المحققين بأن علق على جدران كاتدرائية لشبونة إعلاناً جريئاً جاء فيه: "أن المسيح المخلص لم يظهر بعد، وأن يسوع ليس هو المخلص، وأن المسيحية محض افتراء"(53). ولما كان من الواضح أن مثل هذه العبارات قصد بها إيذاء اليهود، فإن لنا أن نرتاب بحق في أحد العملاء المحرضين. وعين بول لجنة من الكاردينالات لفحص إجراءات محكمة التفتيش البرتغالية. وقد جاء في تقريرها:
إذا اتهم مسيحي زائف - وغالباً ما يكون ذلك عن طريق

شهود مفترين - ساقه المحققون إلى منعزل موحش لا يرى


فيه أرضاً ولا سماء، وأقل ما يقال إنه لا يخاطب فيه

صديقاً يواسيه أو يسعفه. ويتهمونه بمقتضى شهادة غامضة

ولا ينبئونه بالزمان أو المكان الذي اقترف فيه الجريمة التي

يحاكم من أجلها. ويسمح له فيما بعد باختيار محام عنه

غالباً ما يقوده إلى طريق المحرقة، بدلاً من الوقوف إلى

جانبه والدفاع عن قضيته.دع مخلوقاً منكود الحظ يقر

بأنه مسيحي مؤمن حقاً، وينكر إنكاراً قاطعاً الخطايا التي

سيقت لاتهامه، فإنهم يسلمونه إلى النار، ويصادرون

بضاعته. أو دعه يدفع بأنه مذنب في كذا وكذا من

الأعمال، ولو أنها ارتكبت عن غير قصد، فإنهم يعاملونه

بالطريقة نفسها، مدعين بأنه ينكر عناداً نياته ومقاصده

السيئة. أو دعه يعترف اعترافاً كاملاً صريحاً بصحة ما

اتهم به، فإنهم يسومونه أشد ضروب الحرمان، ويحكمون

عليه بالبقاء في زنزانة كئيبة مظلمة لا يرى فيها النور، ويسمون

هذا "معاملة المتهم بالرحمة والرأفة والبر المسيحي" وحتى

الذين يفلحون في إثبات براءتهم يحكم عليهم بدفع غرامة، حتى

لا يقال إنه قبض عليهم بلا سبب. أما المتهمون المودعون في السجون

فإنهم يعذبون بكل آلات التعذيب حتى يقروا بما وجه إليهم

من اتهامات. وكثيرون يقضون نحبهم في السجن. أما

الذين يطلق سراحهم. فإنهم هم وذوي قراهم يدمغون

العار الأبدي(54).

لقد أرهقت التطورات السياسية البابا بول، وأقض مضجعه خطر فقدان أسبانيا والبرتغال، كما كان البابا قد فقد ألمانيا، والبابا كليمنت إنجلترا، ولكن بول على الرغم من ذلك بذل قصارى جهده للتخفيف من حدة محاكم


التفتيش، ولكن الإرهاب كان يستشرى يوماً بعد يوم، حتى وجد يهود البرتغال، بكل وسيلة يائسة، مهرباً من مضيفيهم، وانضموا إلى إخوانهم في أسبانيا سعياً وراء ركن يقبعون فيه بالعالم المسيحي أو أرض الإسلام، ويمكن أن يحتفظوا فيه بشريعتهم مع الإبقاء على حياتهم.


يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق