1223
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> زونجلي الإصلاح الدين -> إصلاح زونجلي الديني
3- إصلاح زونجلى الديني
ولقد تغيرت شخصية راعي الأبرشية في كنيسته، دون وعي منه تقريباً، وإن كان هذا التغيير نتيجة طبيعية لم تلقاه من تعليم غير عادي... كانت الموعظة قبله هينة الشأن، ويكاد القداس والقربان المقدس أن يستغرقا
معظم الخدمة الدينية، وقد جعل زونجلى الموعظة المسيطرة في إقامة الشعائر الدينية، وأصبح معلماً لا يقل براعة عنه واعظاً، وكلما ازدادت ثقته اشتد إقناعه بأن المسيحية يجب أن تعود إلى بساطتها الأولى في النظام والعبادة. ولقد استفزته ثورة لوثر ورسائله ورسالة هس "عن الكنيسة"، فما أن حال عام 1520 حتى كان يهاجم علناً الرهبانية والمطهر والتوسل بالقديسين، وبرهم أكثر من هذا على أن دفع ضرائب العشور للكنيسة يجب أن يكون بمحض الاختيار، كما جاء في الكتاب المقدس. ورجاه الأسقف الذي يتبعه أن يسحب هذه العبارة، ولكنه أصر عليها وأيده مجلس المقاطعة، بأن أصدر أمراً لكل القساوسة المعينين في نطاق اختصاصه، أن تقتصر عظاتهم على ما وجدوه في الكتاب المقدس. وفي عام 1521 أقنع زونجلى المجلس بمنع تطوع الجنود السويسريين في صفوف الفرنسيين، وبعد مرور عام امتد الحظر حتى شمل كل الدول الأجنبية، وعندما استمر الكاردينال شينر في تجنيد الفرق السويسرية للبابا، أوضح زونجلى لجمهور المصلين عنده أن الكاردينال كان لا يرتدي قبعة حمراء دون داعي لأنها "إذا عصرت لرأيت دم أقرب الأقربين يقطر من ثناياها"(8). ولما لم يجد في العهد نصاً يحرم اللحم في الصوم الكبير، فقد سمح لرعايا أبرشيته بأن يتجاهلوا أوامر الكنيسة الخاصة بهذا الصوم الكبير. واحتج أسقف كونستانس، فرد عليه زونجلى في كتاب عنوانه (بداية ونهاية) تنبأ فيه بثورة عالمية ضد الكنيسة ونصح البطارقة بأن يقلدوا قيصر وأن يطووا حولهم أرديتهم، ويموتوا في جلال ووقار. والتمس، هو وعشرة من القساوسة الآخرين، من الأسقف أن يضع حداً لفجور رجال الدين، وذلك بأن يسمح بزواج رجال الكهنوت (1522). وكان في إبان ذلك العهد يحتفظ بسيدة تدعا أنا راينهارد بصفة عشيقة أو زوجة له في الخفاء. وتزوجها علناً عام 1524 قبل زواج لوثر من كاترين فون بورا بعام.
وقد سبق هذا الانفصام النهائي من الكنيسة جدلان ذكرا الناس بمناظرة
لوثر وإيك في ليبزج، وكانت لهما أصداء بعيدة في جدل أنصار الفلسفة الكلامية في جامعات العصور الوسطى.
ولما كانت سويسرة جمهورية نصف ديمقراطية فلم يروعها رأي زونجلى. الذي يذهب إلى أن الخلافات بين آرائه وآراء خصومه المحافظين يجب أن تلقى إذناً صاغية غير متحيزة، وأخذ مجلس زيورخ الكبير على عاتقه باغتباط مهمة الحكم على رجال الدين، فدعا الأساقفة أن يرسلوا ممثلين لهم فحضروا بكامل أهبتهم واحتشد منهم نحو ستمائة في قاعة المدينة، للاشتراك في الجدل المثير (25 يناير سنة 1523).
وعرض زونجلى سبعة وستين بنداً يدافع عنها:
1- يخطئ كل مَن يقول أن الإنجيل لا يساوي شيئاً، إذا لم ترض عنه الكنيسة.
15- يتضمن الإنجيل الحقيقة بأكملها في وضوح وجلاء...
17- المسيح هو الكاهن الأعظم الخالد الوحيد، والذين يزعمون أنهم كهنة عظام، إنما يعارضون في الحقيقة شرف المسيح وجلاله.
18- أن المسيح الذي ضحى بنفسه يوماً فوق الصليب، قد قام بالتضحية الكافية والدائمة للتكفير عن خطايا كل المؤمنين، ومن ثم فإن القداس ليس تضحية، وإنما هو تذكرة للتضحية الوحيدة على الصليب...
24- المسيحيون غير مكلفين بأية أعمال لم يأمر بها المسيح، ويمكنهم أن يأكلوا في جميع الأوقات كل أنواع الطعام...
28- كل ما يبيحه الله ولم يحرمه حلال. ومن ثم فإن الزواج مباح لكل الناس.
34- لا أساس للسلطة الروحية التي يطلق عليها اسم (الكنيسة) في الكتب المقدسة وفي تعاليم المسيح.
35- إلا أن السلطة الزمنية تؤيدها تعاليم المسيح وسنته (إصحاح لوقا 2-5 وإصحاح متّى 22،21)...
49- لا أعرف فرية أعظم تحريم الزواج الشرعي على القساوسة، بينما يباح لهم اتخاذ حظايا على شريطة دفع غرامة. ياللعار!.
57- إن الكناس المقدس لا يعرف شيئاً عن المطهر...
66- على جميع الرؤساء الروحيين أن يبادروا بالتوبة، وأن ينصبوا صليب المسيح وحده وإلا هلكوا. إن البلطة موضوعة على الجذر(9).
ورفض جوهان فاير - الأسقف العام لأبرشية كونستانس هذه الآراء تفصيلاً، وطالب بأن تطرح أمام جامعات كبير أو أمام مجلس عام للكنيسة، ورأى زونجلى أن هذا لا ضرورة له. فبعد أن أصبح العهد الجديد وقتذاك في متناول الناس باللغات الدارجة، صار في وسع الجميع أن يحصلوا على كلمة الله ليحكموا على هذه الآراء وهذا يكفي... ووافق المجلس وأعلن أن زونجلى بريء من الهرطقة، وأمر كل رجال الكهنوت في زيوريخ بأن تكون عظاتهم مقصورة على ما يجدون له سنداً في الكتاب المقدس، وهنا تولت الدولة أمر الكنيسة كما حدث بألمانيا في عهد لوثر.
وقبل معظم القساوسة - بعد أن ضمنت لهم الدولة الآن رواتبهم - أمر المجلس. وتزوج الكثيرون منهم وتعمدوا باللغة الدارجة وأغفلوا أمر القداس وتخلوا عن تقديس الصور. وبدأت عصبة من المتحمسين في إتلاف الصور والتماثيل بلا تمييز في كنائس زيوريخ. وانزعج زونجلى من انتشار العنف على هذا النحو فرتب مناظرة أخرى (26 أكتوبر سنة 1523) حضرها 550 من عامة الناس و 350 من رجال الكهنوت. وتمخضت عن أمر صدر من المجلس يقضي بأن تتولى لجنة من أعضائها زونجلى، إعداد كتيب يتضمن تعليمات، توضح العقيدة للناس، وأن يتوقف في غضون ذلك العنف بجميع صوره. وألف زونجلى بسرعة "مقدمة قصيرة في المسيحية" أرسلت لجميع رجال الدين في المقاطعة.
واحتجت السلطة الكهنوتية الكاثوليكية، وأيدها في الاحتجاج المجلس
النيابي للاتحاد الذي اجتمع في لوسون (26 يناير سنة 1524)، في الوقت نفسه تعهد بالقيام بإصلاح كهنوتي، غير أن مجلس المدينة تجاهل هذه الاحتجاجات.
وصاغ زونجلى عقيدته بتوسع في رسالتين باللاتينية: "الدين الحقيقي والزائف (De vera et false religione) (1925) (Ratio fidei) (1530) وقبل لاهوت - الكنيسة الأساسي - إله ثلاثي التوحد، وهبوط آدم وحواء من الجنة، وتجسد الأقنوم الثاني، وولادة العذراء والتكفير، ولكنه فسر "الخطيئة الأصلية" لا بأنها لوثة إثم ورثناه من "آبائنا الأوائل" ولكن بأنها نزعة غير اجتماعية، تكمن في طبيعة الإنسان(10). وقد اتفق في الرأي مع لوثر بأن الإنسان لن يستطيع أبداً أن يحصل على الخلاص بالأعمال الصالحات، بل يجب أن يؤمن بالقدرة التكفيرية لموت المسيح المقترن بالتضحية. واتفق في الرأي أيضاً مع لوثر وكالفن في موضوع القدر: كل حادث وبالتالي المصير الأزلي لكل فرد قدره الله، ولابد أن ينفذ كما قدر سبحانه، ولكن الله لم يقدر اللعنة الأبدية إلا على الذين أعرضوا عن آيات الإنجيل، التي بسطت عليهم، وكل طفل (من أبوين مسيحيين) يموت، وهو طفل، يكتب له الخلاص، حتى ولو لم يعمد، لأنه أصغر من أن يرتكب خطيئة. وجهنم حق، أما المطهر فهو "خرافة... مهنة مربحة لمن ابتدعوه"(11) وليس في الكتاب المقدس إشارة عنه، أما القرابين المقدسة فإنها ليست وسائل معجزة بل رموزاً نافعة لرحمة الله. والاعتراف السري لا ضرورة له، وليس في وسع قسيس أن يغفر لأحد - خطيئته - فالله وحده هو الغفور، وإن كان من المفيد غالباً أن نسر بمتاعبنا إلى قسيس(12)، وليس العشاء الرباني، أكلاً فعلياً لجسد المسيح، ولكنه رمز لاتحاد الروح بالرب والفرد بالجماعة المسيحية.
وحافظ زونجلى على القربان المقدس باعتباره جزءاً من الصلاة التي
يقرها الإصلاح الديني، وناول القربان بالخبز والنبيذ معاً، ولكنه لم يناوله إلا أربع مرات في العام. وفي ذلك الاحتفال العرضي أبقى على جانب كبير من القداس، وإن أخذ جمهور المصلين والقس يتلونه باللغة الألمانية في سويسرة. أما في باقي السنة فقد كان يستبدل القداس بالعظة الدينية. وأصبح سلطان الشعيرة على الحواس والتصور تابعاً لتأثير مخاطبة العقل. وهو مقامرة تتسم بالتهور على الذكاء الشعبي وقدرة الأفكار على الثبات، ولما كان من الضروري أن يستبدل بكنيسة معصومة من الخطأ إنجيلاً لا تشوبه شائبة ليكون نبراساً للعقيدة والسلوك، فإن الترجمة الألمانية للعهد الجديد التي قام بها لوثر، أعدت باللهجة الألمانية في سويسرة، وعهد إلى هيئة من العلماء ورجال الدين برئاسة قداسة ليوجود إعداد نسخة بالألمانية من الكتاب المقدس بأسره، وقد نشر هذه النسخة كريستيان فروشاوا عام 1534 في زيوريخ، قبل أن تظهر نسخة لوثر - وهي خير منها - بأربع سنوات.
وفي امتثال صادق للوصية الثانية، ودلالة على عودة المسيحية البروتستانتية إلى تقاليدها اليهودية الأولى، أمر مجلس مدينة زيوريخ برفع كل الصور الدينية ومخالفات القديسين وزينات من كنائس المدينة، بل إن آلات الأرغن أبعدت عنها، وترك الصحن الداخلي الفسيح لكنيسة جروسمنستر عاطلاً كئيب المنظر، كما هو اليوم. وحقاً أن بعض الصور كان سخيفاً بصورة لا يقبلها العقل، وبعضها كان مهيباً للاستسلام للخرافة والوهم بحيث يستحق الإتلاف، إلا أن جانباً منها كان جميلاً، إلى حد دفع هينريخ بولينجر خلف زونجلى إلى أن يحزن لفقدها. وكان لزونجلى نفسه موقف متسامح من التماثيل التي لا تعبد باعتبارها أصناماً خارقة الصنع(13)، ولكنه صفح عن عملية التقويض باعتبارها زجراً لعبادة الأصنام(14)، وسمح للكنائس القروية في المقاطعة بأن تحتفظ بتماثيلها، إذا كانت هذه رغبة غالبية جموع المصلين. واحتفظ الكثالكة ببعض الحقوق المدنية ولكنهم لم يقبلوا في الوظائف العامة
وعوقب كل مَن يحضر القداس بغرامة، وحرم(15) مبدأ أكل السمك بدل من اللحوم يوم الجمعة. وأغلقت أديرة الرهبان والراهبات (باستثناء دير واحد) أو حولت إلى مستشفيات أو مدارس، وبرزت الرهبان والراهبات من الدير لعقد زواجهم، وألغيت أعياد القديسين، واختفت طقوس الحج والماء المقدس والقداسات التي كانت تقام للموتى.
وعلى الرغم من أن كل هذه التغييرات لم تتم حتى عام 1524 فإن الإصلاح الديني حتى ذلك الوقت، كان قد بلغ درجة من الرقي في عهد زونجلى وفي زيورخ، تفوق ما بلغه في عهد لوثر وفي فيتنبرج، وكان لوثر وقتذاك راهباً أعزب لا يزال يردد القداس.
وشكلت زيورخ مجلساً خاصاً، في نوفمبر عام 1524، يتكون من ستة أعضاء لإعداد الاتفاقات اللازمة لفض المشاكل العاجلة أو الدقيقة، التي كانت تعاني منها الحكومة، وتم بين زونجلى وهذا المجلس نوع من التفاهم، اتخذ شكلاً ما، إذ سلم له بتنظيم كل الشئون الخاصة برجال الدين والعلمانيين على السواء. وكان المجلس في كل من المجالين يتبع قيادته. وأصبحت الكنيسة والدولة في زيورخ منظمة واحدة، على رأسها زونجلى بصفة غير رسمية، وفيها ارتضى الإنجيل (كما هو الحال بالنسبة للقرآن في الإسلام) المصدر الأول والحكم الأخير للشريعة. وتحقق في زونجلى، كما تحقق في كالفن فيما بعد، المثل الأعلى للنبي الذي يرشد الدولة، كما تصوره العهد القديم.
وما أن حقق زونجلى هذا النجاح التام والسريع في زيورخ حتى قلب عيناً متسائلة في المقاطعات التي تدين بالكاثوليكية، وتساءل ألا يمكن كسب سويسرة بأسرها لصف الشكل الجديد للعقيدة القديمة.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق