1222
قصة الحضارة ( ول ديورانت )
قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> زونجلي الإصلاح الدين -> زونجلي
2- زونجلى
إن زيارة يقوم بها المرء إلى محل ميلاد هولدرايخ، أو أولريخ زونجلى، لتوحى له بالقاعدة غير المضطردة التي تذهب إلى أن العظماء من الرجال إنما يولدون في بيوت متواضعة. ولقد استهل أعظم المصلحين الدينيين العقلانيين، الذين جانبهم التوفيق حياته (أول يناير عام 1484) في كوخ صغير بقرية فيلد هاوس، التي تربض في وادٍ جبلي على بعد خمسين ميلاً جنوب شرقي زيورخ في مقاطعة سانت-جولد الحالية، سقف جملوني منخفض، وجدران من ألواح ثقيلة، ونوافذ مقسمة إلى مربعات، وأرضيات مكونة من ألواح مصمتة ضخمة، وسقوف واطئة، وحجرات مظلمة، ودرجات تحدث صريراً، وأسرّة متينة من خشب البلوط، ومنضدة وكرسي ورف للكتب؛ وهذا البيت التاريخي يدل على بيئة كان الانتخاب الطبيعي فيها يتم بصورة صارمة، أما الانتخاب الخارق للطبيعة فقد كان يبدو أملاً لا غنى عنه، وكان والد أولريخ كبير القضاة في هذه القرية الصغيرة المغمورة أما أمه فكانت شقيقة قس معتزة بنفسها. وكان الابن الثالث من بين ثمانية أبناء يتنافسون على الظفر بإعجاب شقيقتين، ويبدو أنه قد قدر عليه أن يكون قساً منذ نعومة أظفاره.
وأسهم عمه، وهو نائب الأسقف في كنيسة قرب فيزين، في تعليمه مع والديه، وكان له الفضل في أن يكون زونجلى نزعة إنسانية اتساع أفق، تميز بها بوضوح عن لوثر وكالفن. وعندما بلغ الصبي العاشرة من
عمره أرسل إلى مدرسة لاتينية في باويل، وفي الرابعة عشرة دخل كلية في برن يرـسها أحد الأهلين من أنصار الكلاسية المبرزين. ودرس من السادسة عشرة إلى الثامنة عشرة في جامعة فيينا، في الفترة التي ازدهرت فيها الدراسات الإنسانية، في عهد كونراد سيلتس. وكان يسري عن نفسه ما يلاقيه من عناء بالعزف على العود والقيثار والكمان والناي والسنطير.
وفي الثامنة عشرة من عمره عاد إلى بازيل، ودرس اللاهوت على يد توماس فيتنباخ، الذي هاجم قبل الأوان عام 1508 صكوك الغفران وعزوبة رجال الدين والقداس. وحصل زونجلى على درجة الماجستير، وهو في الثانية والعشرين من عمره، (1506) ورُسم قساً، واحتفل بإقامة أول قداس له في فيلدهاوس وسط الأقارب المبتهجين، واشترى بمبلغ مائة جيلدر جمعت له وظيفة راعي أبرشية(5) في جلاروس على بعد عشرين ميلاً.
وهناك تابع دراساته في الوقت الذي كان يؤدي فيه واجباته بغيرة وحماسة، وتعلم اليونانية ليقرأ العهد الجديد بلغته الأصلية، وقرأ بحماسة مؤلفات هوميروس وبندار وديموكريتوس وبلوتارك وشيشرون وقيصر وليفي وسينيكا وبلني الأصغر وتاسيتوس، وكتب تعليقاً على مؤلف لوسيان الشكاك الفكه، وتبادل الرسائل مع بيكوديلا ميراندولا وأرازموس، ووصف أرازموس بأنه "أعظم فيلسوف وعالم باللاهوت"، وزاره موقراً إياه (1515)، وكان يقرأ له كل ليلة قبل أن ينام. وقد درج، مثل أرازموس، على أن يسلق بلسان لاذع فساد رجال الدين، وأن يسخر بفطرته من التطرف في العقيدة، وأن يرفض بشدة الرأي القائل بأن قدامى الفلاسفة والشعراء يصلون نار جهنم: "وأقسم أنه يؤثر أن يشاطر سقراط أو سينيكا حظه المقدور ولا يتلقى الأنعام من البابا"(6). ولم يسمح لعهود الكهنوتية بأن تحرمه من ملذات الجسد، فكانت له علاقات مع نساء مترخصات، وظل منغمساً في ملذاته هذه حتى تزوج في عام 1514.
ولم تعبأ بأفعاله جموع المصلين عنده، وظل البابوات يدفعون له حتى عام 1520 معاشاً قدره خمسون فلورين، نظير تأييده لهم ضد الحزب المناصر للفرنسيين في جلاروس. واصطحب من عام 1513 إلى عام 1515 فرقة الجنود المرتزقة السويسرية في جلاروس إلى إيطاليا، بصفته واعظاً لها، وبذل أقصى ما في وسعه لكي يحمل الجنود على الحفاظ على ولائهم للقضية البابوية، إلا أن صلته بالحرب في المعارك التي دارت في نافارو ومارينيانو، جعلته يعارض بشدة أي تدبير لبيع شجاعة الجنود السويسريين للحكومات الأجنبية.
وفي عام 1516 فاز الحزب الفرنسي في جلاروس، وأصبحت له اليد الطولى فانتقل زونجلى إلى أبرشية في أنيزيدلن بمقاطعة شفيتز، وهنا اصطبغت عظته بصبغة بروتستانتية حتى قبل قيام ثورة لوثر، ونادى عام 1517 باعتناق دين يعتمد على الكتاب المقدس فحسب وأبلغ كبير الأساقفة الكاردينال ماتهويس شينر أن في الكتاب المقدس إجازة ضعيفة للبابوية، ولقد هاجم في أغسطس عام 1518 مساوئ بيع صكوك الغفران، وحرض رهبان البندكتيين على أن يرفعوا من المزار الذي أقاموه للعذراء، والذي يعود عليهم بالربح الوفير، نقشاً يعدون فيه الحجاج بـ "الغفران الكامل لجميع الخطايا التي اقترفوها واعفائهم من العقاب أيضاً"(7). وعاد بعض الحجاج من زيورخ إلى قساوستهم برواية حماسية عن وعظه. وفي العاشر من ديسمبر عام 1518 قبل الدعوة لتنصيبه "قساً" أو "قسيساً للشعب" في جروسمنستر أو الكنيسة الكبرى في زيورخ أعظم المُدن السويسرية جرأة، وكان في ذلك الوقت يقترب من النضج في الروح المعنوية والتعقل. وقام بإلقاء سلسلة من العظات فسر فيها، من النص اليوناني، العهد الجديد بأسره ما عدا سفر الرؤيا، الذي لم يكن يحبه، وكان يطوي بين جوانبه شيئاً من الصوفية، التي أسهمت في تكوين لوثر. وليس لدينا صورة شخصية له،
أخذت إبان حياته، ولكن معاصريه وصفوه بأنه رجل وسيم أصهب صريح النسب، له صوت شجي، يستولي على ألباب جموع المصلين في كنيسته، ولم يكن يضارع لوثر في الفصاحة أو التفسير، ومع ذلك فإن عظاته كانت مقنعة، لما تتسم به من صدق وصفاء، وسرعان ما استجابت زيورخ بأسرها لتأثيره. وأيده رؤساءه من رجال الدين عندما استأنف حملته ضد بيع صكوك الغفران. وقد اجتاز في أغسطس عام 1518 برنهاردن سمسون الراهب الفرنسكاني من ميلان (Bernhardin Samson) مضيق سانت جوتار، وأصبح تيتزل سويسرا. وقدم صك غفران من البابا ليو إلى الأغنياء على ورق الورشمان نظير ريال، وإلى الفقراء، وقابل بضع بنسات، وبتلويحة من يده أعفى كل الأرواح التي هلكت في برن من عذاب المطهر. واحتج زونجلى، وظاهره في هذا الاحتجاج أسقف كونستانس، ولما كان ليو العاشر على علم بشيء من الأحداث الجارية في ألمانيا، فقد استدعى رسوله المتلاف. وفي عام 1519 انتشر وباء الطاعون في زيورخ، وقضى على ثلث السكان في خلال نصف عام. ولازم زونجلى مقره، وواصل العمل ليلاً ونهاراً في العناية بالمرضى، وأصيب هو نفسه بعدوى المرض، واشرف على الهلاك، وما أن عوفي حتى غدا أعظم شخصية في زيورخ، تحظى بالشعبية، وبعثت إليه بالتهاني بعض الشخصيات المرموقة، التي تقيم بعيداً عنه، من أمثال بيركهايمر وديرر. ونصب عام 1521 كبيراً للقساوسة في جروسمنستر، وأصبح وقتذاك من القوة بحيث استطاع أن ينادي في سويسرة بالإصلاح الديني.
يتبع
يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق