إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 29 أبريل 2014

1302 قصة الحضارة ( ول ديورانت ) قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> الموسيقى -> بالتسرينا 4- بالتسرينا 1526- 1594


1302

قصة الحضارة ( ول ديورانت )

 قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> الموسيقى -> بالتسرينا

4- بالتسرينا


1526- 1594


ظلت الكنيسة الكاثوليكية الراعي الرئيسي للموسيقى مثل غيرها من الفنون، وتقدمت الموسيقى الكاثوليكية، شمال جبال الألب، على الأسس التي وضعتها المدرسة الفلمنكية، وثبت هذا التقليد إيزاك في النمسا ودى لاسو في بارفايا. ووجه لوثر في 1550 خطاباً من أكرم خطاباته إلى لودفيج سنفل يحييه فيه ويطري موسيقاه التي كان يؤلفها في ميونيخ، ويثني على الأدواق الكاثوليك هناك لأنهم "يرعون الموسيقى ويجلونها"(13).
وكان فريق المنشدين كنيسة سستين هو النموذج الذي احتذاه الملوك والأمراء في تأسيس كنائسهم طوال القرنين الرابع عشر والخامس عشر، وحتى بين البروتستانت كان أروع شكل للتأليف الموسيقي هو القداس. وكانت فرقة المنشدين البابوية هي التي تقوم بالقداس في أروع أشكاله. وكان أعظم ما يطمع فيه أي مغن هو أن يلتحق بهذه الفرقة،التي كانت لذلك قادرة على أن تضم إليها أحسن أصوات الذكور في أوربا الغربية.

وكان الكاستراتي، الذين كانوا يسمون آنذاك "الخصيان"- أول من أدخلوا إلى فرقة سستين، حوالي 1550، وسرعان ما أظهر بعد ذلك غيرهم في البلاط البافاري، وكانوا يخصون الأولاد بموافقتهم، وكانوا يغرونهم بأن أصواتهم العذبة الندية ستكون أكبر نعمة وتعويض لهم عن الإنجاب والإخصاب- تلك ميزة وحشية كانت في متناول كل من يطلبها بصفة عامة.
وكانت الكنيسة- مثل أي نظام قديم معقد، لا بد أن يخسر كثيراً بأية بدعة غير موفقة- كانت تتسم بروح المحافظة في الطقوس والشعائر، حتى أكثر منها فيما يتعلق بالعقيدة. أما المؤلفون فكانوا على النقيض من ذلك، يضيقون ذرعاً بالأساليب القديمة، كما كانوا كذلك في كل العصور، وكان التجريب في نظرهم هو حياة فنهم. وكافحت الكنيسة في كل هذه القرون، لمنع التكلف في الفنون الجديدة، ورقة الطباق الفلمنكي، من أن يضعفا وقار القداس الكبير وعظمته. وفي سنة 1322 أصدر البابا جون الثاني والعشرين قراراً صارماً ضد البدع الموسيقية والزخرفة، وأمر بأن تلتزم موسيقى القداس بالأغنية البسيطة الوحيدة، أي الأغنية الجريجورية، كأساس لها، ولا تبيح إلا التناغم الذي يمكن أن يكون مفهوماً للمصلين، وبعمق التقوى في نفوسهم أكثر مما يلهيهم عنا. وظل الأمر مطاعاً لمدة قرن من الزمان، ثم جاءت المراوغة في تنفيذه من أن بعض المنشدين الجهير (الصوت العميق الخفيض) أعلى من المكتوب بجواب واحد. واصبح هذا الجهير الزائف هو الخدعة المفضلة في فرنسا. وظهرت التعقيدات من جديد في موسيقى القداس، وبدأ إنشاد خمسة أو ستة أو ثمانية أجزاء بالفوجة والطباق، جرت فيها كلمات الطقوس الدينية الواحدة عقب الأخرى في فوضى احترافية، أو غرقت في زخارف موسيقية وضعها المغنون وفق أهوائهم. وأدى تكييف أنغام شعبية للقداس، حتى إلى إقحام كلمات بذيئة على النص المقدس. واتفق أن عرفت بعض القداسات بمصادرها العلمانية مثل قداس



"وداعاً يا أحبائي" أو قداس "في ظل الشجرة"(14). واستاء إرزم المتحرر نفسه من زيف "فن القداس" حتى أنه احتج على ذلك في ملاحظة دونها في طبعته التي نشرها "للعهد الجديد":
إن الموسيقى الكنسية الحديثة ألفت بحيث لا يستطيع أحد من جماعة المصلين أن يتبين كلمة واحدة متميزة. إن المنشدين أنفسهم لا يفهمون ما ينشدون... لم يكن ثمة موسيقى (كنسية) أيام القديس بولص، حيث كانت الكلمات تنطق بوضوح. إن الكلمات اليوم لا تعني شيئاً. إن الناس يذرون أعمالهم ويقصدون إلى الكنيسة ليستمعوا إلى جلبة وضجيج لم يكن لهم بهما عهد في المسارح اليونانية والرومانية. ينبغي أن تسك النقود لشراء الأراغين وتدريب الأولاد على إطلاق الصيحات والصرخات(15).
واتفقت جماعة الإصلاح في الكنيسة مع إرزم في هذه المسألة. فمنع جيبرتي أسقف فيرونا استعمال أغاني الحب أو الألحان الشعبية في أبرشيته، كما حرم مورون أسقف مودينا كل الموسيقى "المصورة" أي المزخرفة بكل تفاصيل الإثارات والأفكار الرئيسية. وحث المصلحون الكاثوليك في مجلس ترنت على استبعاد كل الموسيقى المتعددة الأصوات من كل حفلات الكنيسة، وعلى العودة إلى الإنشاد الجريجوري ذي الصوت الواحد، ولكن ربما كان من الممكن أن يساعد ميل البابا بيوس الرابع إلى قداسات بالسترينا، على إنقاذ "تعدد الأصوات" في الكنيسة الكاثوليكية.
لقد اشتق جيوفني لويجي بالسترينا اسمه من اسم مدينة صغيرة في الريف الروماني كانت قد دخلت التاريخ في العصور القديمة تحت اسم "براينستي". وإنا لنجده في 1537، وهو إذ ذاك في الحادية عشرة من عمره، بين تلاميذ فرقة المنشدين في سانتا ماربا مجيوري في روما، ولم يكن قد بلغ


الحادية والعشرين حين عين رئيساً للفرقة في كاتدرائية مسقط رأسه. فلما توطد مركزه على هذا النحو، تزوج من لوكريشيا دي جوريس، وكانت على شيء من اليسار، وعندما تقلد أسقف بالسترينا منصب البابوية تحت اسم جوليوس الثالث، اصطحب معه رئيس فرقته إلى رومه، وعينه رئيس معبد جوليا في كنسية القديس بطرس، الذي كان يتدرب فيه المنشدون لكنيسة سستين.وأهدى الملحن الشاب إلى البابا الجديد أول كتاب له في "القداسات" (1554) عرض أحدها معزوفة ثلاثية الألحان بمصاحبة منشد واحد لأغنية بسيطة، وأحب البابا هذه القداسات إلى حد أنه منح بالسترينا عضوية فرقة المنشدين في كنيسة سستين.وبدا موقف جيوفني شاذاً، بوصفه رجلاً متزوجاً، وسط هذه الجماعة التي كان أفرادها مترهبين عادة، مما أثار بعض المعارضة. وكان بالسترينا على وشك أن يهدي البابا كتاباً في الغزليات، لولا أن جوليوس عاجله الموت (1555).
ولم يعمر مارسلس الثاني أكثر من ثلاثة أسابيع بعد ارتقائه عرش البابوية. وأهدى الملحن إلى ذكراه (1555) مقطوعته الشهيرة "قداس البابا مارسلس" التي لم تنشر، أو هكذا كانت تسمى حتى 1567. وطرد البابا بول الرابع ذو المبادئ البيوريتانية الجامدة الأعضاء المتزوجين في فرقة منشدي سستين، وخصص لكل منهم معاشاً ضئيلاً. وما لبث بالسترينا أن عين رئيساً لفرقة المنشدين في كنيسة سان جون لاتيران، ولكن هذه الوظيفة، ولو أنها سدت رمقه، لم توفر له نفقات نشر تآليفه الموسيقية. وعاد العطف البابوي يضلله بارتقاء بيوس الرابع عرش البابوية (1559). وتأثر بيوس أيما بمقطوعة lmproperia التي أعدها بالسترينا لاحتفال "الجمعة الحزينة"، ومنذ ذلك الوقت أصبحت هذه المقطوعة جزءاً لا يتجزأ من الطقوس في كنيسة سستين، وظل زواج



بالسترينا يحول بينه وبين فرقة سستين، ولكن ارتفع شأنه بتعيينه (1561) رئيساً لفرقة سانتا ماريا مجيوري.
وبعد ذلك بعام واحد بحث مجلس ترنت الذي انعقد ثانية، مشكلة تنظيم الموسيقى الكنسية، لتتسق مع روح الإصلاح الجديدة، ورفض الاقتراح القائل بمنع "تعدد الأصوات" منعاً باتاً. وأقر حل وسط يحث السلطات الدينية "على أن تستبعد من الكنائس كل موسيقى... تقدم شيئاً من الدنس أو الفجور، حتى يظل بيت الله مشهوداً له بأنه بيت التعبد والصلاة ، وعين بيوس الرابع لجنة قوامها ثمانية من الكاردينالات لتنفيذ هذا القرار في أبرشية رومه. وتروي قصة لطيفة أن اللجنة كانت على وشك تحريم الموسيقى المتعددة الأصوات، حين توسل أحد الأعضاء وهو الكاردينال شارل بوروميو، إلى بالسترينا أن يؤلف قداساً يمكن أن يظهر الانسجام الكامل بين تعدد الأصوات والتقي والتدين، واستجاب بالسترينا وألف، وأنشدت الفرقة ثلاثة قداسات أمام اللجنة، أحدها "قداس البابا مرسلس". ولم ينفذ "تعدد الأصوات" من الحكم عليه بالفناء إلا الاتحاد الوثيق بين السمو الديني والبراعة الفنية المهذبة في الموسيقى في هذه القداسات. على أن قداس البابا مرسلس كان قد مضى على تأليفه آنذاك عشر سنوات. ومهما يكن من أمر فإن العلاقة الوحيدة المعروفة بين بالسترينا وهذه اللجنة، هي أنها زادت من راتبه(16). على أننا مع ذلك قد نؤمن بأن الموسيقى التي كان بالسترينا قد قدمها في فرق روما، بفضل إخلاصها للكلمات، وتجنبها للمثيرات الدنيوية وإخضاعها الفن الموسيقي للمقاصد الدينية، قد لعبت دوراً كبيراً في توجيه اللجنة إلى إجازة الموسيقى المتعددة الأصوات(17). وثمة حجة أخرى تضاف تأييداً "لتعدد الأصوات" تلك هي أن تأليف بالسترينا الدينية استغنت، بشكل طبيعي،



عن "زخارف الآلات"، وكانت مكتوبة دائماً تقريباً بالأسلوب الكنسي، أي للأصوات فقط.
وفي 1571 أعيد تعيين بالسترينا رئيساً لفرقة كنيسة جوليا، وبقي في هذا المركز حتى موته. وفي نفس الوقت كان إنتاجه غزيراً بلا حدود بلغ في جملته 93 قداساً، و426 ترنيمة تجاوبية، وتقدمه للذبيحة الإلهية، وأغنية دينية ومزموراً وعدداً كبيراً من الغزليات. وكان بعض هذه مبنياً على موضوعات علمانية. ولكن بالسترينا لما تقدمت به السنون، حول حتى هذا الشكل إلى أغراض دينية. وتضمن "كتابه الأول في الغزليات الروحية" (1581) بعضاً من أجمل مقطوعاته. وربما لونت المآسي الشخصية موسيقاه أو شوهتا، فقد توفي ابنه أنجلو في 1576، تاركاً في رعايته حفيدين عزيزين، ماتا بعد ذلك بسنوات قليلة. وتوفي ابن آخر له حوالي 1579. ولكن موت زوجته في 1580 دفعه إلى التفكير في أن يترهب. على أنه تزوج ثانية في بحر سنة واحدة
إن وفرة إنتاج بالسترينا ونوعيته المذهلتين رفعتاه إلى مرتبة الزعامة على الموسيقى الإيطالية، إن لم تكن الأوربية بأسرها. إن وضعه نشيد الإنشاد Song of Solomon في تسع وعشرين قصيدة دينية (1584)، و "مراثي أرمياء" 1588، و Stabat Mater and Magificat 1590، ثبتت شهرته وقوته الصامدة. وفي 1592 اشترك منافسوه الإيطاليون في إهدائه "مجموعة من مزامير المساء". وكرموه بأنه "الأب المشترك لكل الموسيقيين". وفي أول يناير 1594 أهدى كريستينا دوقة تسكانيا العظيمة "الكتاب الثاني من الغزليات الروحية" التي جمع فيها ثانية بين الإخلاص الديني والبراعة الموسيقية. وبعد ذلك بشهر واحد قضى نحبه وهو في التاسعة والستين من العمر، ونقش على قبره تحت اسمه "أمير الموسيقى". وينبغي ألا نتوقع أن نقدر بالسترينا اليوم حق قدرهن إلا إذا كانت


نفوسنا نحن متشبعة بالروح الدينية. وإننا لنسمع اليوم موسيقاه في وضعها السليم بوصفها جزءاً من طقوس مهيبة، وحتى في هذه الطقوس قد تتركنا جوانبنا الفنية مشدوهين أكثر منا متأثرين. وبالمعنى الحرفي، أي في واقع الأمر، إن الوضع الصحيح لا يمكن أن يعود أبداً، لأن موسيقى بالسترينا كانت موسيقى الإصلاح الكاثوليكي، فهي النغمة الكئيبة للنكسة الصارمة ضد الابتهاج الحسي في النهضة الوثنية، أو قل هي ميكل أنجيلو باقياً على قيد الحياة بعد رافائيل، أو بول الرابع يحل محل ليو العاشر، أو ليولا يحل مكان بمبو، أو كلفن يخلف لوثر. إن ترشيحاتنا المعاصرة ليست إلا معياراً عابراً غير معصوم من الخطأ، وذوق الفرد- وخاصة إذا أعوزته القدرة الفنية والتصرف والإحساس بالخطيئة- إنما هو أساس واه نقيم عليه مقياساً للحكم في الموسيقى واللاهوت. ولكن نستطيع أن نتفق جميعاً على أن بالسترينا، بلغ بفن "تعدد الأصوات" الديني درجة الكمال، في عصره. وأنه، مثل معظم كبار الفنانين، وقف على قمة حد من التطور في الإحساس والتقنية، وتسلم تقليداً فأتمه وأكمله، لقد ارتضى النظام، وعن طريقه وزد موسيقاه بتركيب وبنية، أو رسوخاً معمارياً في وجه أعاصير التغيير الهوجاء. ومن يدري، فربما جاء عصر ليس ببعيد، أرهقته أصوات الأوركسترا العالية الطنانة ورومانسيات الأوبرا- ليجد في موسيقى مثل موسيقى بالسترينا عمقاً في الإحساس، وانسياباً عميقاً هادئاً في الألحان، يصلحان بطريقة أفضل للتعبير عن النفس الإنسانية المتطهرة من غرور العقل والقوة، رابضة مرة ثانية، في تواضع وخشوع وخشية، أمام الوجود الأبدي الذي يطبق عليها.

يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق