إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 29 أبريل 2014

1295 قصة الحضارة ( ول ديورانت ) قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> الاقتصاد الكتاب الرابع ما وراء الستار الفصل الثالث والثلاثون حياة الناس 1517-1564 1- الاقتصاد


1295

قصة الحضارة ( ول ديورانت )

 قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> حياة الناس -> الاقتصاد

الكتاب الرابع


ما وراء الستار


الفصل الثالث والثلاثون


حياة الناس


1517-1564


1- الاقتصاد


إن مسرحية الصراع الديني والسياسي الحربي الذي ملأ جبهة القرن السادس عشر، كانت من بعض النواحي سطحية. ذلك أنها لم تظهر إلا انطلاقاً من مسرحية أعمق، مثلت خلف مشاهد التاريخ أو تحت المسرح الفخم- أعنى معركة الإنسان اليومية الأبدية مع التربة والعناصر (الماء والهواء والتراب والنار) والفقر والموت. وماذا كانت، فوق كل شيء هبات ومراسيم البابوات والبروتستانت، والسخافات المتزاحمة في الأساطير القتالة، وزهو الملوك والأباطرة وتعاقبهم، وما كان ينتابهم من أمراض مثل النقرس والزهري، إذا قورن كل أولئك بالكفاح المرير من أجل الغذاء والمأوى والكساء والصحة والزوجة والولد والحياة؟
إن قرى أوربا في تلك الحقبة، كان لا بد لها ليلاً ونهاراً أن تحذر وتحترس من الذئاب والخنازير البرية، أو أي خطر يتهدد قطعانهم


ومساكنهم. لقد عمرت مرحلة الصيد داخل عصر الزراعة، وكان لزاماً على الإنسان أن يقتل أو يُقتل، ويسرت أسلحة الدفاع طريقة (روتين) الكدح والعمل. وكانت آلاف الحشرات ووحوش الغابة وطيور السماء تنافس الفلاح في ثمار غرسه وكده ونصبه، والأمراض الخفية تهلك القسم الأكبر من ماشيته. وربما أصبحت الأمطار سيولاً جارفة أو فيضانات غامرة، وربما انقطعت حتى تذبل الحياة كلها. وكان الجوع دائماً يتربص بالناس، ولم يفارق الخوف من الحريق مخيلتهم قط. وكثيراً ما انتابتهم الأمراض، والأطباء على مسافات بعيدة منهم. وفي كل عشر سنين تقريباً ربما اختطف الطاعون من الأسرة فرداً عزيزاً أو له قيمته عند تعرض الأرض للخطر. وكان يموت في سن الطفولة طفلان من بين كل خمسة أطفال، ويموت ثالث قبل بلوغ(1)، ومرة واحدة على الأقل في كل جيل كان ضابط التجنيد يأخذ أحد الأبناء للجيش، وكانت الجيوش تحرق القرى وتنهب الحقول، وكان عشر المحصول بعد الحصاد يذهب إلى مالك الأرض، وعشر ثان إلى الكنيسة. وكانت الحياة على الأرض تصبح جحيماً لا يحتمله الجسم أو الروح، لولا أن شيئاً من السعادة يتخلل ابتهاج الأطفال وألعاب المساء في البيت، وإطلاق الأغاني ولعب الخمر بالرءوس في الحانات، والأمل نصف المصدق ونصف المشكوك فيه حياة أخرى أكثر رحمة وشفقة. هكذا كان إنتاج الغذاء الذي أطعم البارونات في الحصون والملوك في قصورهم والكهنة في محاريبهم، والتجار والصناع في المدن، والأطباء والمعلمين والفنانين والشعراء ورجال العلم والفلاسفة، وأخيراً، وأقلهم شأناً، رقيق الأرض أنفسهم. فالمدنية عالة على الإنسان الذي يحمل آلة العزق.
وكان علم الزراعة من خصائص هذا الزمان. ونشأ تقدم الإنتاجية أساساً من استبدال الملكية الكبيرة بالملكية الصغيرة. وأدخل مالكو الأرض


الجدد من التجار والرأسماليين إلى البقاع الريفية الراكدة لهفة شديدة على الربح الذي زاد الإنتاج والبؤس كليهما معاً. وأدخل المستوردون المغامرون إلى أوربا مخصباً أو سماداً جديداً غنياً بالفوسفات والنتروجين - وهو روث الطيور الذي يجتمع على شواطئ بيرو. وتأقلمت في تربة أوربا نباتات وشجيرات من آسيا أو أمريكا، مثل البطاطس وشجرة المغنولية (نبات جميل الزهر)، والأغاف الأمريكي، والفلفل والدهلية (زهر جميل)، والكبوسين (أبو خنجر)... وأحضر التبغ من المكسيك إلى أسبانيا 1558. وبعد ذلك بسنة واحدة أرسل جان نيكوت السفير الفرنسي في لشبونة بعض بذوره إلى كاترين دي مديتشي، وقد جزى التاريخ هذا السفير خير الجزاء فأطلق اسمه على أحد السموم.
ونمت صناعة صيد السمك بازدياد السكان، ولكن الإصلاح الديني سدد ضربة قاضية إلى تجار السردين بإباحة اللحوم يوم الجمعة، وتقدم التعدين بالتنظيم الرأسمالي. وكانت نيوكاسل تصدر الفحم في 1549، وضاعف أصحاب المناجم إنتاجها بحث العمال على بذل جهود أعظم وأكثر نظاماً، وتحسين وسائل تنقية المعدن الخام. وفي هذه السطور ينقلنا جورج أجريكولا إلى منجم في القرن السادس عشر:
إن أهم أنواع العمال هم المعدنون، الجرافون، الرافعون، الحمالون، الفرازون، الغسالون، الصاهرون... وكانت ساعات الليل والنهار الأربع والعشرين، تنقسم إلى ثلاث نوبات كل منها سبع ساعات، والساعات الثلاث الباقية تتوسط النوبات، ليدخل العمال في أثنائها إلى المنجم أو يغادروه. وتبدأ النوبة الأولى الساعة الرابعة صباحاً، وتنتهي في الحادية عشرة. وتبدأ الثانية في الساعة الرابعة صباحاً، وتنتهي في الحادية عشرة. وتبدأ الثانية في الساعة الثانية عشرة وتنتهي في السابعة مساء. وهاتان نوبتان نهاريتان في الصباح وبعد الظهر. أما الثالثة، وهي النوبة الليلية، فتبدأ في

الثامنة مساء وتنتهي في الثالثة صباحاً. ولا تفرض هذه النوبة الثالثة على العمال إلا إذا دعت الضرورة إليها. وفي هذه الحالة.. كانوا يسهرون على ضوء المصابيح الليلية، وحتى لا يغلبهم النعاس في هذه الساعات المتأخرة، أو لشدة التعب، كانوا يخففون من وطأة هذا العمل الطويل الشاق بالغناء الذي كانوا مدربين عليه، أو لم يكن غير سار لهم كلية. ولم يكن يباح في بعض المناجم لأي من العمال العمل نوبتين متعاقبتين، لأنه كان كثيراً ما يغلب عليه النعاس في المنجم من شدة الإجهاد من كثرة العمل إلى حد مفرط. وكان يباح ذلك في أماكن أخرى لأن العامل لا يستطيع العيش على أجر نوبة واحدة، وخاصة إذا ارتفع ثمن الحاجيات.
ولا يشتغل العمال أيام السبت، لأنهم يبتاعون فيها كل ما يلزمهم من ضرورات الحياة، كذلك لا يعملون أيام الآحاد والأعياد السنوية. ولكنهم في هذه المناسبات يخصصون ساعات النوبة للأغراض الدينية. ومهما يكن من أمر فإن العمال لا يستريحون... إذا اقتضت الظروف أن يعملوا، فقد يجبرهم عليه أحياناً اندفاع الماء أو انهيار وشيك الوقوع. وفي مثل هذه الحالات لا يعتبر العمل في أيام العطلة أمراً لا يتفق مع الدين. وفوق ذلك، فإن العمال من هذه الفئة أقوياء أشداء ألفوا هذا الكدح والمشقة منذ ولادتهم(2).
وفي 1527 عين جورج أجريكولا طبيباً لمدينة جوتشمستال Goochimsthal. وفي مدينة التعدين انصرف جورج بين الحين والحين إلى التعدين، وهناك، وفي أماكن أخرى تحمس جورج وافتتن بدراسة تاريخ التعدين وعملياته وعلم المعادن، وعكف على البحث عشرين عاماً، أكمل بعدها (1550) "رسالته عن المعادن" وهي رسالة ممتازة في موضوعها بالنسبة لعصرها، لها من القيمة

مثل ما لروائع كوبرنيكس وفيساليوس التي ظهرت في نفس العقدين من السنين، ولقد وصف في تفصيل دقيق آلات التعدين والصهر وتقنياتها وعملياتها، واستخدم الفنانين في توضيحها بالرسوم. وهو أول من جزم بأن البزموت و لأنتيمون معدنان أوليان حقيقيان، وميز نحو عشرين صنفاً من المعادن لم تكن معروفة من قبل. وكان أول من شرح تركيب عروق الخام في طبقات الصخور من رواسب معدنية خلفتها مجاري المياه التي تنساب في الأرض وتحت الأرض (3).
وحظي التعدين وعلم المعادن والمنسوجات بأكبر نصيب من التحسينات الآلية (الميكانيكية) التي ينسب الفضل فيها لهذا العصر. وإن أول سكك حديدية لهي تلك التي كانت تجر أو تدفع عليها العربات التي تحمل الخام. وفي عام 1533 أضاف جوهان جورحن إلى عجلة الغزل- التي كانت تدار حتى ذلك العهد باليد- ذراعاً (دواسة) تدار بواسطة القدم، ومن ثم تكون يد الغزال طليقة، وسرعان ما ضوعف الإنتاج بهذه الطريقة. وازداد الوثوق بدقة الساعات وصغر حجمها، وزينت بالحفر والنقوش والجواهر وطليت بالمينا. واقتنى هنرى الثامن ساعة دقيقة الحجم، تملأ مرة واحدة كل أسبوع. على أن أحسن ساعات العصر كان معدل الخطأ فيها نحو 15 دقيقة في كل يوم(4).
وتعثرت المواصلات والنقل خلف التجارة والصناعة. وتوسعت الخدمات البريدية إلى حد نقل المراسلات الخاصة خلال القرن السادس عشر، وحث الانقلاب التجاري على بناء السفن، وصارت السفن أرفع وأعمق، فساعد


ذلك على ثباتها وازدياد سرعتها. وزاد عدد الصواري من واحد إلى ثلاثة، والأشرعة إلى خمسة أو ستة(5). ولم يقتصر السباق بين فرنسوا الأول وهنرى الثامن، على الحرب والحب واللباس، بل تعداه إلى ابتناء السفن، وكان لكل منهما مركب فخم بني بناء على طلبه لإشباع نزواته، به دور علوي، يرفرف عليه في زهو واعتزاز علم البطولة الذي أرضى غرور كل منهما. وكانت سفينة أوائل القرن السادس عشر تستطيع أن تقطع في البحر المتوسط عشرة أميال في الساعة في الطقس المعتدل، ولكن السفن الثقيلة المصممة للمحيط الأطلسي كانت أسعد حظاً، حيث كانت تقطع 125 ميلاً في اليوم. وكانت أسرع رحلة برية هي رحلة حامل البريد، الذي كان يركب لمسافة خمسة وثمانين ميلاً في اليوم. ومع فأن الأنباء الهامة كانت عادة تصل من البندقية إلى باريس أو مدريد في عشرة أيام أو أحد عشر يوماً. ولعل أحداً لم يقدر آنذاك أية راحة ينعم بها نتيجة لوصول الأنباء متأخرة إلى حد يتعذر معه اتخاذ أي إجراء بشأنها. وكان معظم السفر بالبر على ظهور الخيل، ومن هنا جاءت الحلقة الحديدية الثقيلة المثبتة في باب مدخل كل بيت، يشد إليها حبل تقيد به الدابة. وتضاعف عدد العربات، ولكن الطرق بلغت من الرخاوة حداً لا يصلح كثيراً لمرور العجلات، ومن ثم كان لزاماً تزويد العربات بستة من الجياد أو أكثر لتجرها في الأوحال التي يتعذر تفاديها، وما كان يتوقع من العربات أن تقطع أكثر من عشرين ميلاً في اليوم. وظلت المحفات التي يحملها الخدم تستعملها السيدات ذوات اليسار في تنقلهن، أما عامة الشعب فكانوا يسيرون على الأقدام عبر القارة.
وكان السفر مألوفاً رغم الطرق والخانات. وذهب إرزم إلى أن خانات فرنسا كانت مقبولة محتملة، وعلى الأخص لأن النادلات الصغيرات "يقهقهن ويقمن بحيل وألعاب مرحة، وإذا غادرت المكان كن يحيينك بالعناق"،


"كل ذلك مقابل أجر زهيد" ولكنه رمى أصحاب الخانات الألمان بالفظاظة وغلظة الطباع والبطء والقذارة:
إذا فرغت من تدبير أمر جوادك تدخل إلى غرفة المدفأة، بالحذاء العالي الساقين، والأمتعة والأوحال وغيرها، لأن هذه حجرة عامة لجميع القادمين. وفي غرفة المدفأة تخلع حذاءك، وتلبس نعليك وتبدل قميصك إذا شئت. وهناك ترى رجلاً يمشط رأسه وآخر...يتجشأ الثوم... وإنك لتسمع من فوضى اللغات واللهجات كما لو كنت في مبنى برج بابل... وفي رأيي أنه ليس ثمة شيء أخطر من التنفس في مثل هذا الجو الخانق، وخاصة إذا كانت أجسام الناس مفتحة بفعل الحرارة ... وثمة شيء لا أرى ذكره.... ثم النساء والأنفاس الكريهة المنتنة .... ولا ريب أن كثيرين مصابون بالجدري أو الزهري الأسباني، أو كما يسيمونه الفرنسي. ولو أنها أمراض منتشرة في كل بلد(6).
إذا جرت الأمور على هذا النحو، حقاً، في بعض الخانات، فيمكن أن نغتفر خطأ أو اثنين للتجار المتجولين الذين يحطون رحالهم في هذه الخانات ويحتملون متاعبها في عملية ربط القرية بالقرية، والأمة بالأمة، في نسيج اقتصادي دائم الاتساع والانتشار. فقد فتح في كل عقد من السنين طريق جديد، براً كما فعل تشانسلر في روسيا، وبحراً كما تم في آلاف الرحلات البحرية المغامرة. وقد اتجر (شيلوك شكسبير) أي اليهود مع إنجلترا ولشبونة وطرابلس ومصر والهند والمكسيك(7). وكان لجنوى مستعمرات تجارية في البحر الأسود وأرمينية وسورية وفلسطين وأسبانيا. فلقد عقدت الصلح مع الباب العالي، وباعت الأسلحة إلى تركيا التي كانت في حرب ضد العالم المسيحي. والتقطت فرنسا هذه الفكرة، وعقدت اتفاقات خاصة بها مع


سلاطين تركيا. وبعد 1560 سيطرت على تجارة البحر المتوسط، وكانت أنتورب تتلقى البضائع في كل لحظة، وتنقلها بالسفن إلى كل مكان في العالم.
ولمواجهة متطلبات هذا الاقتصاد المتوسع، حسن رجال المصارف من خدماتهم وأساليبهم. ولما ارتفعت نفقات الحرب بالانتقال من فرق الإقطاع المجندة الذين أحضروا معهم أقواسهم وسهامهم ورماحهم وسيوفهم، إلى جيوش وطنية أو جنود مرتزقة مزودين بالأسلحة النارية والمدافع، وتدفع الدولة رواتبهم وأجورهم- اقترضت الحكومات مبالغ لم يسبق لها مثيل من أصحاب المصارف. وكانت الفائدة التي تدفعها الحكومات أو تعجز عن دفعها، تقيم مؤسسة مالية، أو تقوض أركان أخرى. وكان أصحاب المصارف يقترضون مدخرات الشعب نظير فائدة، ليمولوا بها الصفقات الضخمة في التجارة والصناعة. وكانت صكوك التبادل تحل محل الشحنات الثقيلة المرهقة من العملة المتداولة أو البضائع. واختلفت معدلات فوائد القروض ولم يكن هذا الاختلاف نتيجة لجشع المقرضين، بقدر ما هو نتيجة للثقة في المقرضين. ومن ثم كانت المدن الحرة الألمانية التي سيطر عليها تجار يتميزون بالدفع الفوري العاجل، تستطيع أن تقترض بفائدة قدرها5%، على حين أن فرنسوا الأول اقترض بفائدة قدرها 10%، وشارل الخامس بفائدة قدرها 20%. وانخفض سعر الفائدة تبعاً للاستقرار الاقتصادي.
وسكت مقادير وفيرة من العملة السائلة من معدني الذهب والفضة اللذين استخرجا من مناجم ألمانيا والمجر وأسبانيا والمكسيك وبيرو، وجاء المدد الجديد من المعادن النفيسة في الوقت الناسب، لأن البضائع كانت قد تزايدت أسرع مما تزايدت العملة. وكان جزء من ثمن واردات آسيا يدفع في صورة صادرات، والجزء الباقي نقداً من الذهب أو الفضة، ومن ثم هبطت


الأسعار في غضون السنين التي سبقت قيام كولمبس برحلاته، إلى حد تعويق المغامرات والتجارة. وبعد تطوير المناجم في أوربا واستيراد الذهب والفضة من أفريقية وأمريكا، فاقت كميات المعادن النفيسة إنتاج السلع، فارتفعت الأسعار، وانتعشت الأعمال وابتهج أصحابها، وزحزح الاقتصاد الجديد القائم على النقود المتحركة الاقتصاد القديم الذي تركز في امتلاك الأرض أو سيطرة النقابات على الصناعة، واحتل مكانه.
وكانت النقابات في دور الانحلال. وكانت قد نشأت وقويت في عهد تحكم المجلس البلدية وحماية الإنتاج المحلي، ولم تكن على درجة من التنظيم تسمح لها بتقديم رأس المال. أو بالشراء بالجملة من الموارد النائية، أو باستخدام أساليب المصانع وتقسيم العمل، أو الوصول بمنتجاتها إلى الأسواق البعيدة. وكانت منذ القرن الثالث عشر وما بعده قد ضربت حولها نطاقاً من العزلة الأرستقراطية وسوأت ظروف العمل، حتى بات من اليسير سوق العمال المهرة إلى أحضان رب العمل صاحب رأس المال، وكان عامل الربح هو الذي يحركه ويزوده بالحيوية والنشاط، ولكنه عرف كيف يجمع المدخرات إلى رأس المال، وكيف ومن أين يشتري الآلات والمواد الخام ويدير المناجم، ويؤسس المصانع، ويجند لها العمال، ويقسم العمل، ويخصص العمال لكل فرع منه، وبفتح الأسواق الأجنبية ويصل إليها، ويمول الانتخابات ويسيطر على الحكومات. وكانت الإمدادات الجديدة من الذهب والفضة تدعو بصوت عال إلى استثمارات تدر الربح الوفير. وبات الذهب الأمريكي رأس مال أوربا. وخلقت الرأسمالية "سحر المنافسة"، وحفزت إلى المغامرة، وأنتجت السعي المحموم وراء المزيد من الطرق الاقتصادية للإنتاج والتوزيع، ولم يكن ثمة مفر من أن تخلف وراءها القناعة الذاتية التي اتسم بها رجال النقابات. وتتركهم يتهادون في أساليبهم النمطية الرئيسية القديمة. ولقد فاق النظام


الجديد في إنتاجه النظام كماً لا كيفاً، لأن التجار كانوا ينادون بإنتاج كميات كبيرة ليسددوا بصادراتهم الصناعية ثمن الواردات من الشرق.
وكانت الثروة الجديدة محصورة إلى حد كبير، في أيدي التجار وأصحاب رءوس الأموال وأصحاب المصانع، وحلفائهم في الحكومة، وظل بعض النبلاء يجمعون الثروة عن طريق الضياع الواسعة التي يستأجرها مئات المستأجرين، أو الحظائر التي تمد صناعة النسيج بالصوف. على أن الغالبية من ملاك الأرض الأرستقراطيين وجدوا أنفسهم محصورين بين شقي الرحى: الملوك من جهة، والمدن التي سيطر عليها رجال الأعمال من جهة أخرى، وانحطت قوتهم السياسية. وكان عليهم أن يقنعوا بكرم المحتد وشرف الأرومة. وشاركت الطبقة الكادحة النبلاء مصائب التضخم، فمن سنة 1500 إلى سنة 1600 ارتفع ثمن القمح الذي صنع منه الفقراء رغيف الخبز إلى 150% في إنجلترا، و 200% في فرنسا، 300% في ألمانيا. وفي سنة 1300 كان سعر البيض في إنجلترا 4 بنسات لكل 120 بيضة، وارتفع ثمن المقدار نفسه إلى بنسات في سنة 1400، وإلى 7 بنسات في سنة 1500، وإلى 42 بنساً في سنة 1570(8). وارتفعت الأجور، ولكن في بطئ أكثر، لأن الحكومات كانت تتولى تنظيمها. وحدد قانون 1563 في إنجلترا الأجر السنوي للفلاح المستأجر بمبلغ قدره 12 دولار، ولعامل المزرعة 9.50، وللخادم الرجل 7.25، علماً بأن القوة الشرائية لهذه المبالغ في سنة 1563 تفوق مثيلتها في 1954 خمساً وعشرين مرة، فوصلت الأجور إلى نحو 180 دولاراً سنوياً. على أننا يجب أن نلاحظ أن الطعام والإقامة كانتا تضافان إلى هذه الأجور، وجملة القول أن التغييرات الاقتصادية في القرن السادس عشر تركت الطبقات العاملة أفقر نسبياً


وأضعف سياسياً، من ذي قبل. فقد أنتج العمال السلع التي كانت تصدر ثمناً للكماليات المستوردة التي جعلت حياة نفر قليل من الناس مشرقة باسمة ناعمة.
واتسم الصراع بين الطبقات بمرارة، قل أن عرف لها مثيل منذ عهد سبارتاكوس (زعيم ثورة العبيد 71 ق.م.) وخير شاهد على ذلك ثورة الأهالي في أسبانيا، وحرب الفلاحين في ألمانيا، وثورة كت Ket في إنجلترا. وكثرت الإضرابات، ولكنها كانت تخمد بائتلاف أرباب العمل مع الحكومة. وفي 1558 قررت نقابة عمال النسيج التي كان يسيطر عليها السادة أن أي عامل يرفض العمل بمقتضى الشروط التي يضعها رب العمل يسجن لأول مخالفة، ثم يضرب بالسياط ويوصم بالعار في الثانية. وكانت قوانين التشرد في عهد هنري الثامن وإدوارد السادس من القسوة والوحشية إلى حد أن قلة قليلة من العمال تجاسروا على أن يوجدوا متعطلين بلا عمل. ونص قانون 1547 على أن أي عامل قادر من الناحية الجسمانية يترك عمله ليتسكع في البلاد كالمتشردين، يجب أن يدمغ صدره بحرف "V" (الحرف الأول من Vagabond متشرد)، ويدفع به بوصفه عبداً رقيقاً إلى أحد المواطنين في الجهات المجاورة، لمدة عامين، ليعيش على "الخبز والماء وقليل من الشراب وحثالة اللحم"، فإذا لم يرتدع وتكرر منه التشرد، دمغ على خده أو جبهته بحرف "S" (Slave عبد) وحكم عليه بالاسترقاق طيلة حياته(9). وبفضل الشعب الإنجليزي، وكان فخراً وشرفاً له، أنه لم يمكن تطبيق هذه الإجراءات وسرعان ما أبطلت، ولكنها تكشف عن طباع حكومات القرن السادس عشر.وأصدر جورج دوق سكسونيا قراراً بالا ترفع أجور عمال المناجم في منطقته، وألا يسمح لعامل بترك عمله للبحث عن عمل في مكان آخر، وألا يستخدم رب العمل عاملاً كان قد أثار الاستياء في منجم



آخر، وأجاز القانون صراحة أو ضمنا تشغيل الأطفال. وقام الأطفال في فلاندرز بصناعة المخرمات برمتها، وحرم القانون اشتغال البنات فوق سن الثانية عشرة في هذه المهنة(10). أما قوانين الاحتكارات والمضاربات والربا فكان مصيرها أو المراوغة في التنفيذ.
وتصادف ظهور الإصلاح الديني مع قيام الاقتصاد الجديد. وكانت الكنيسة الكاثوليكية تناهض "الأعمال والمشروعات والتجارة" في حساسية بالغة. فلم يتفق كل هذا مع مزاج الكنيسة. وكانت قد أدانت فوائد القروض، وأجازت من الناحية الدينية قيام النقابات، وقدست الفقر وانتقدت الثراء، وأعفت العمال من العمل أيام الآحاد والعطلات التي كانت كثيرة، إلى حد أنه في 1550 بلغ عدد الأيام التي لا عمل فيها 115 يوماً في السنة في الأقطار الكاثوليكية(11). وربما كان لهذا أثره في الإبطاء بالتصنيع والإثراء في هذه البلاد. ودافع رجال اللاهوت، بموافقة الكنيسة، عن فكرة تحديد "أسعار عادلة" لضرورات الحياة بمقتضى القانون، وكان توماس الأكويني قد وصم السعي إلى المال، بعد الوفاء بحاجيات الإنسان، بأنه "جشع آثم"، وحكم بأن أية مقتنيات أو مدخرات فائضة عن الحاجة، "تخصص بمقتضى القانون الطبيعي لإغاثة الفقراء وإسعافهم"(12). وشارك لوثر في هذه الآراء، ولكن التطور العام للبروتستانتية تعاون، دون وعي، مع الانقلاب الرأسمالي. وألغيت عطلات القديسين، وكان من نتيجة ذلك زيادة العمل ورأس المال معاً. ولقي المذهب الديني الجديد تأييداً ودعماً من رجال الأعمال، وجزاء مجاملة مثلها، فنظر البروتستانت إلى الثروة بعين الإجلال والإكبار، وأثنوا على التدبير والاقتصاد، وشجعوا العمل على أنه فضيلة، وارتضوا الفائدة على أنها مكافأة مشروعة لمخاطرة المرء بمدخراته.


يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق