إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 29 أبريل 2014

1294 قصة الحضارة ( ول ديورانت ) قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> اليهود -> الفكر اليهودي 5- الفكر اليهودي


1294

قصة الحضارة ( ول ديورانت )

 قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> الثورة الدينية -> اليهود -> الفكر اليهودي

5- الفكر اليهودي


ما كان لنا أن نتوقع من عهد "الشتات الثاني" أن ينتج أية ثقافة رفيعة بين اليهود. فقد استنزفت طاقتهم المهمة الوحشية التي واجهوها، مهمة البقاء على قيد الحياة. وتعطل التعليم الذي كانوا قد برزوا فيه وأتقنوه نتيجة للتنقل وانعدام الأمن في الحياة. وعلى حين شقت أوربا المسيحية طريقها إلى النهضة فرحة منتعشة، انصرف يهود أوربا إلى المعزل و"القبالة" وحرمت عليهم "الوصية الثانية" الإسهام في حركة إحياء الفنون. وكان بين اليهود عدد كبير من العلماء، ولكنهم انهمكوا في التلمود. وكان منهم النحويون مثل بروفيات دوران وأبراهام دي بالم. والمترجمون مثل أسحق بن بولكار، الذي نقل مؤلفات الغزالي إلى العبرية، ويعقوب مارتن الذي ترجم ابن سيناء وابن رشد وابن ميمون وليفي بن جرسون إلى اللاتينية. وأزعج إيليا لفيتا اليهود المتدينين بإقناعهم بشكل حاسم (1538) بأن التوراة المزودة بالملاحظات وعلامات الحركة وإشارات الوقف (المازورة Masoretic)، لم تكن أقدم من القرن الخامس الميلادي.
وتوضح ملحمة آل أبرابانل Abrobanels تقلبات الفكر اليهودي في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. وقد ولد دون أسحق أبرابانل في لشبونة 1437، واستخدمه ألفرنسو الخامس ملك البرتغال وزيراً للمالية. ولكنه جمع بين مشاغله الرسمية والدراسات الدينية والتاريخية، وجعل من داره الرحيبة صالوناً للعلماء ورجال العلم ورجال الأعمال.ولما توفي ألفونسو فقد أبرابانل الحظوة الملكية، وهرب إلى أسبانيا


(1484)، وهناك تفرغ إلى كتابة تعليقات على ما دون عن تاريخ الكتاب المقدس، حتى دعاه فرديناند الكاثوليكي ليتولى منصباً. وقضى أسحق ثماني سنوات في تدبير الشئون المالية في قشتالة. وكافح لدرء الكارثة التي حلت باليهود في سنة 1492، فلما أخفق في ذلك، انضم إليهم في خروجهم المحزن. وفي نابلي استخدمته الحكومة. ولكن الغزاة الفرنسيين (1495) نهبوا داره، ودمروا مكتبته الحافلة بنفائس الكتب المنتقاة، وأجبروه على الفرار إلى كورفو. وهناك كتب، ما كان لا بد لأي يهودي أن يكتب في هذه السنوات: "إن زوجتي وأولادي وكتبي بعيدة عني، ولقد تركت وحيداً غريباً في بلد غريب"(79). واتخذ طريقه إلى البندقية، وهناك عين في منصب دبلوماسي (1503). وفي غمرة تقلبات الحظ هذه، وجد فسحة من الوقت ليؤلف بعض أعمال فلسفية ولاهوتية، ليس لها الآن قيمة تذكر. ولكنه وضع المبدأ الذي يقول بأن الأحداث والأفكار التي وردت ي الكتب المقدسة يجب تفسيرها على ضوء الحياة الاجتماعية والسياسية في عصرها. وسمح له بأن يقضي السنوات الست الأخيرة من عمره في أمن وسلام غير مألوفين.
وكان أبناؤه زينة لحياته. فتألق صمويل أبرابانل في سالونيك وعين وزيراً للمالية في نابولي، وحظي بحب قومه لكثرة ما أتى من أعمال البر والخير. أما يهوذا ليون أبرابانل- ليو العبري- فقد زها وسما قدره كطبيب في جنوه ونابلي حتى أصبح مشهوراً مثل شهرة "ليون مديجو". ودرس علوماً كثيرة، وكتب الشعر، وغامر بدراسة ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقا). وعين في 1505 طبيباً لجنزالو أمير قرطبة، ولكن بعد ذلك بعامين اختلف "الكابتن الأعظم" مع فرديناند، ولحق ليون بأبيه في البندقية. ولقي كتابه "حوار الحب" (كتب 1502، ونشر في 1535) جمهوراً كبيراً من القراء بين الإيطاليين في عصر النهضة، الذين كان التحليل الفلسفي للحب عندهم


بمثابة مقدمة أو لحن مصاحب لانتصارات الحب. إن الجمال الفكري: جمال النظام والتخطيط والاتساق، بسمو على الجمال المادي أو جمال الجسم، هذا ما حاول "الحوار" أن يدلل عليه. إن أسمى الجمال هو النظام والتخطيط والاتساق في الكون،وهذا هو المظهر الخارجي للجمال الإلهي. وينشأ الحب على مراحل: من الإعجاب والسعي وراء الجمال المادي فالجمال الفكري فالجمال الإلهي، ويبلغ ذروته في حب الله فكراً وعقلاً، أي فهم النظام الكوني وتقديره حق قدره، والرغبة في الاتحاد مع الله، وربما كانت مخطوطة هذا الكتاب معروفة لدى كاستليانو الذي أجرى على لسان "بمبو Bembo" حديثاً يهدف إلى مثل هذه الغابة، في "البلاط Cortigiono" (1528) أما الكتاب المطبوع فربما وجد سبيله عبر قرن من الزمان إلى يدي سبينوزا ليتأثر بفكرته عن "الحب العقلي لله"(80).
وفضل يهود البرتغال المشتتون على هذا الحب السماوي، الشعر المنثور المشبوب العاطفة باللغة البرتغالية، في قصيدة أوسك Usque: "عزاء لأحزان إسرائيل" (فيرارا 1553). فقد صور تعاقب الانتصارات والكوارث على الشعب اليهودي، وواساه بأنه لا يزال "شعب الله المختار". فقد عاقبهم الله آثامهم، ولكن آلامهم طهرتهم، ومهما أوتى الإنسان من قوة رهيبة وحشية،فلن يستطيع أحد أن يخدعهم ويصرفهم عن مصيرهم الإلهي إلى السعادة والمجد.
وتراخى اليهود عن الإسهام في حركة العلوم تراخياً لم يكن منه مناص، بسبب الأحداث والتقلبات التي عاناها الشعب، والتي طال أمدها. ولم يكن التعرض للخطر والفقر وعدم الاستقرار، هي وحدها التي عوقت الجهود العلمية، ولكن واحداً من أجل الأحبار وأعظمهم نفوذاً، هو سليمان بن إبراهام بن أدربت، في برشلونه، كان في بداية هذه الفترة، قد حرم - تحت طائلة "الحرم، أو الحرمان الديني"- تدريس العلوم أو الفلسفة لأي



يهودي دون الخامسة والعشرين من العمر، على أساس أن مثل هذا التعليم يفسد العقيدة الدينية. وعلى الرغم من ذلك لخص أسحق إسرائيلي الصغر، من طليطلة، علم الفلك في عصره (1320)، ووضح التقويم اليهودي والتسلسل الزمني لتواريخ الأحداث. ووضع عمانويل بونفيس من تاراسكون، جداول فلكية قيمة، واستبق التفاضل والتكامل الأسى والعشري. كذلك فإن إبراهام كرسكاس، من ميورقه، وهو "رئيس الخرائط والبوصلات لحكومة أراجون"، وضع في 1377 خريطة للعالم، إلى حد أن أراجون أرسلتها هدية ثمينة إلى شارل السادس ملك فرنسا، وهي الآن من أثمن ما تقتنيه المكتبة الوطنية هناك. وكان يهوذا كرسكاس، وهو ابن إبراهام سالف الذكر، أول مدير لمرصد هنري الملاح البحري في سجر Sagres، وساعد في رسم خريطة لمكتشفاته. ومهد كتاب بدرو نونز "رسالة عن الكرة الأرضية" الطريق أمام العالم الجغرافي مركيتور Mercator وفن رسم الخرائط الحديث. وحدد كتاب جراسيا دي أورتا عن "العقاقير الطبية" مرحلة متميزة في علم النبات، وأسس طب المناطق الحارة.
وكان أبراهام زاكوتو شخصية عظيمة فذة في مجال العلم عند اليهود في القرن الخامس عشر. وجمع عندما كان يقوم بالتدريس في سلمنقة (1473- 1478) كتابه "التقويم الدائم" وقد استعملت جداوله الفلكية، كدليل للملاحة في رحلات فاسكودا جاما وكابرال وألبوكيرك ثم في رحلات كولمبس بعد 1496. وكان زاكوتو من بين اللاجئين من أسبانيا (1492)، ووجد ملجأ مؤقتاً في البرتغال، وقد استشاره البلاط في الإعداد لرحلة فاسكودا جاما إلى الهند، وكانت السفن مزودة بالإسطرلاب الذي أدخل عليه هو تحسينات. ولكن في سنة 1497 لم يمهله الاضطهاد وقذف به خارج البرتغال كذلك. وأخذ يضرب في الأرض فقيراً معدماً لعدة سنوات حتى

انتهى به المطاف في تونس، وهناك تعزى في أخريات حياته بكتابة تاريخ قومه. أما تلميذه يوسف فسنهو Vecinho، طبيب جون الثاني ملك البرتغال، فقد أرسل ليرسم خطوط العرض وانحراف الشمس على ساحل غينيا. وأثبتت الخرائط التي أعدت أنها ذات قيمة كبيرة لفاسكو دا جاما. وكان فسنهو عضواً في اللجنة التي أحال إليها جون الثاني مقترحات كولمبس للبحث عن طريق من الغرب إلى جزر الهند (1484) وشارك في قرار الرفض(81).
وظل الأطباء اليهود أفضل من يجد الناس في البحث عنهم ويلتمسون عندهم البرء في كل أوربا. وعلى الرغم من إزعاجهم بالإدانات والاتهامات الدينية والقيود الرسمية والمخاطرة بحياتهم في معالجة ذوي الشأن من المسيحيين، كانوا ذوي حظوة لدى البابوات والملوك. ولم تكن إضافاتهم آنذاك إلى علم الطب بارزة، باستثناء إضافات دي أورتا إلى طب المناطق الحارة، ولكن أماتوس لوسيتانوس ضرب مثلاً لتقاليد مهنته وتقاليد قومه. وأخرجته محكمة التفتيش من البرتغال التي كان قد أخذ منها اسمه اللاتيني، فعاش متنقلاً من أنتورب إلى فيرارا إلى روما، ثم استقر به المقام في أنكونا (1594) حيث كان كثيراً ما يستدعي لعلاج نفس البابا جوليوس الثالث الذي ناضل من أجل تحطيم التلمود. وكان، حتى آخر حياته، يستطيع أن يقسم أنه لم يكن يهتم قط بالمكافأة ولم يقبل قط أية هدية قيمة، وأنه كان يخدم الفقراء بلا أجر، وأنه لم يكن يفرق في ممارسة مهنته بين مسيحي أو يهودي أو تركي، وأن أية صعاب، مثل بعد المكان أو عدم ملاءمة الوقت، لم تكن لتثنيه عن تلبية أي نداء. وكشفت سجلات عمله (1563) عن سبعمائة حالة كان قد عالجها، وكان الأطباء في كل أوربا يدرسون هذه المذكرات ويقتنونها، ودعا ملك بولندة أماتوس ليكون طبيباً خاصاً له، ولكنه آثر أن يبقى في أنكونا. ولكنه أرغم في 1556 على استئناف تجواله، عندما طالب بول الرابع كل يهود إيطاليا بالتحول إلى المسيحية أو الإلقاء في السجون.



وكان للقرار الذي أصدره الحبر ابن أدريت بتأجيل تدريس العلوم والفلسفة لليهود إلى سن الخامسة والعشرين، أثر أقل على الفلسفة منه على العلم، وفي فرنسا أقل منه في أسبانيا. وكان أثر ابن ميمون لا يزال قوياً على اليهود الذين احتالوا على البقاء في جنوب فرنسا وتجاسر يوسف كاسي على كتابة رسائل في المنطق وعلم الأخلاق لتوجيه ابنه، ودافع عن التقليد الفلسفي المتحرر الذي كان ابن ميمون قد عرضه لأول مرة في مؤلفه "دلالة الحائرين" وقد أنجب هذا الضرب من التقليد المتحرر مفكراً يهودياً عظيماً هو ليفي بن جرسون Ben Gerson الذي يعرف عند المسيحيين باسم جرسونيدس، الذي عاش، كما عاش معظم الفلاسفة اليهود، على "الطبابة" أي مهنة الطب، وحقق المثل الأعلى الذي قصده أبقراط في الطبيب الفيلسوف. ولد ابن جرسون في باجنول 1288، في أسرة من العلماء، وعاش معظم سنى حياته في أراجون وبربينان وأفنيون، وانصرف إلى عمله آمناً مطمئناً في ظل حماية البابوات، ولا يكاد يوجد علم من العلوم لم يعالجه أو مسألة فلسفية لم يعرض لها. وكان على علم واسع بالتلمود، وأسهم في رياضيات الموسيقى، ونظم الشعر.
وكان ابن جرسون من علماء عصره اللامعين في الرياضيات والفلك، وفي 1321 استبق الطريقة التي اتبعها فيما بعد موروليكو (1575) وباسكال (1654) في إيجاد عدد التباديل البسيطة لعديد من الأشياء بالاستنتاج الرياضي، ومهدت رسالته في حساب "المثلثات" الطريق أمام رجيومونتانوس، ولقيت تقديراً واسعاً إلى حد البابا كليمنت السادس أصدر تكليفاً بترجمتها إلى اللاتينية، مثل Chordis,de Sinibus و Arcubus (1342). وقد اخترع، أو في الواقع أدخل تحسيناً على العصا التصالبية لقياس ارتفاع النجوم، وبقى هذا طوال قرنين من الزمان نعمة كبرى للملاحة. وقد أجرى ملاحظاته الفلكية الخاصة به، وأظهر

مقدرة كبيرة في نقده لطريقة بطليموس. وبحث، ولكنه رفض، الفرضية القائلة بأن الشمس هي مركز الكون بطريقة توحي بأن قلة قليلة من الناس كانت تشايعه في عصره. وهذب آلة التصوير القاتمة واستخدمها مع العصا التصالبية ليحدد، بشكل أدق، الاختلافات في القطر الظاهر للشمس والقمر.
وكما أن علوم بن جرسون نبعت عن الرياضيين والفلكيين العرب، كذلك كانت فلسفته مبنية على دراسة نقدية للتعليقات التي وضعها ابن رشد في شروحه لفلسفة أرسطو. ودون ليفي فيما بين عامي 1319-1321 تعليقاته ابن رشد، استوعب فيها رسائل أرسطو في المنطق والفيزياء والفلك والأرصاد الجوية وعلم النبات وعلم الحيوان وعلم النفس والميتافيزيقا، وأضاف إلى هذه الدراسات بطبيعة الحال قراءاته العديدة المتكررة لابن ميمون. وجمعت فلسفته ومعظم دراساته في العلوم في مؤلف بالعبرية وضع عنوانه بأسلوب عصره "معارك الله"Battles of the Lord (1317-1329)، وهو يأتي في المحل الثاني بعد كتاب ابن ميمون "دلالة الحائرين" في الفلسفة اليهودية في العصور الوسطى، ويتابع محاولة ابن ميمون في التوفيق بين الفكر اليوناني والعقيدة اليهودية. فإذا تدبرنا الجهود المشابهة التي قام بها ابن رشد وتوماس الأكويني للتوفيق بين الإسلام والمسيحية وبين أرسطو، لكدنا نقول بأن أثر أرسطو على لاهوتيات العصور الوسطى كان فاتحة انحلالها وتفسخها، وبداية الانتقال من عصر الإيمان إلى عصر العقل. وسعى جرسونيدس إلى التخفيف من امتعاض المتدينين بالإعلان عن استعداده للتخلي عن أفكاره وآرائه إذا ثبت أنها مناقضة للكتاب المقدس- وتلك حيلة أو مراوغة يلجأ إليها العلماء. على أنه استخدم العقل إلى مدى بعيد، في أبحاثه عن الله والكون وأبدية العالم وخلود النفس، ولما تعارضت نتائجه مع الكتاب


المقدس، فسره بعنف أدى بنقاده إلى تغيير اسم مؤلفه إلى "معارك ضد الله"(82). وقال ليفي إنه يجدر بنا ألا نأخذ بالمعنى الحرفي قصصاً مثل قصة يوشع الذي أوقف الشمس، فهذه القصة وأشباهها من "المعجزات"، ربما كانت أحداثاً طبيعية نسيت أو لم تعرف أسبابها(83). وأخيراً أفصح عن مذهبه العقلاني دون قناع، "إن التوراة لا يمكن أن تمنعنا من أن نعتبر حقاً ما يلح علينا عقلنا في الإيمان به"(84).
واشتق جرسونيدس وجود الله مما قد يسميه هولباخ الملحد "نظام الطبيعة" فإن قانون الكون ونظامه يكشفان عن "عقل كوني" ويضيف هو إلى هذا، الحجة الغائية: وهي أن معظم الأشياء في الطبيعة الحية تبدو مخصصة كوسيلة إلى غاية. وتزود العناية الإلهية كل كائن حي بوسائل حماية الذات والتطور والتكاثر. والعالم بوصفه كوناً أو نظاماً، خلق في الوقت المناسب، ولكن ليس من العدم. فقد سبق أن وجدت منذ الأزل كتلة جامدة هامدة لا شكل لها، وزودها الكون بالحياة وبالشكل.وهناك بين الله وبين الأشكال المخلوقة قوة وسيطة سماها جرسونيدس، وهو في هذا يحذو حذو أرسطو، "عقلاً نشيطاً أو خلاقاً". ويوجه انبثاق الذكاء الإلهي كل الأشياء، ويصبح النفس التي يحملها الإنسان بين جنبيه. ولما كانت النفس تعتمد على أحاسيس الإنسان فهي فانية. وبما أنها أي النفس، تفهم الكليات وتعي نظام العالم ووحدته فإنها تصبح قصداً جزءاً من "العقل" النشيط الذي هو خالد.
ورفض اليهود فلسفة جرسونيدس على أساس أنها في جوهرها شكل من فلسفة ابن رشد، عقلانية قد تؤدي في النهاية بالعقيدة الدينية. ودرس المفكرون المسيحيون فلسفته، وتأثر بها اسبينوزا. ولكن قلوب المفكرين اليهود وعقولهم، عبر عنها في إخلاص أكبر، حسداي بن أبراهام كرسكاس


الذي كان قد تغذى بلبان "المحافظة" عند سليمان بن أدريت، وقد ولد كرسكاس 1340 في برشلونه، وعاش في فترة اتسمت بالعداء الشديد للسامية، وقبض عليه بتهمة تدنيس القربان، وما لبث أن أطلق سراحه، ولكن ابنه قتل، وهو على وشك الزواج في مذابح 1391. وقوى الاضطهاد من عقيدة حسداي، لأنه بفضلي الإيمان بإله عادل وسماء تعوض عن كل أذى وشر، استطاع أن يحتمل ممتلئة بالجور والآلام. وبعد انقضاء سبع سنوات على استشهاد ابنه، نشر بالأسبانية رسالة حاول فيها أن يفسر للمسيحيين لماذا ينبغي ألا يطلب إلى يهودي أن يتقبل المسيحية. وحاول في كياسة واعتدال أن يدلل على أن مبادئ المسيحية في الخطيئة والتثليث والحبل بلا دنس والتجسد والكفارة وتحول دم القربان إلى دم المسيح ولحمه، تنطوي على تناقضات لا يمكن تجاوزها واستحالات سخيفة مضحكة. ومع ذلك فإنه حين كتب مؤله العظيم "نور الرب" (1410) اتخذ فيه موقفاً كان يمكن أن يدافع المسيحيون من خلاله عن هذه النظريات: ذلك أنه أنكر العقل وألح في إخضاعه للإيمان حسداي حبراً رسمياً ولكنه شارك الأحبار رأيهم بأن الاضطهادات المتكررة كانت عقاباً إلهياً لتعريض الديانة التي جاءت عن طريق الوحي لخلخة عقلانية. وإذا كان قد كتب في الفلسفة، فلم يكن ذلك إعجاباً منه بها، بل لإثبات ضعف الفلسفة والعقل، وتوكيد الحاجة إلى الإيمان والعقيدة. وأنكر محاولات ابن ميمون وجرسون في التوفيق بين اليهودية وأرسطو، وتساءل: من هو ذلك الإغريقي الذي كان على الرب أن يتفق معه؟ واعترض على فكرة أرسطو بأن أسمى صفات الله هي المعرفة، بل هي الحب على الأرجح، لأن الله هو الخير المطلق. وسلم كرسكاس بأن العقل لا يستطيع أن يوفق بين سابق علم الله وحرية الإنسان، ومن ثم يجب ألا نرفض الحرية


بل نرفض العقل. وينبغي أن نؤمن بالله، وبالإرادة الحرة والخلود، من أجل طمأنينة نفوسنا وهدوء بالنا وسلامة معنوياتنا، وليس بنا من حاجة إلى الادعاء بإثبات هذه المعتقدات عن طريق العقل. ويجب أن نختار بين عقلنا الفخور الضعيف الذي يزعزع الإيمان ويورث اليأس، وبين إيماننا المتواضع بكلمة الله، التي يمكن عن طريقها وحدها أن نحتمل ألوان المهانة والظلم في الحياة.
وكان كرسكاس آخر هذه الصفوة اللامعة من فلاسفة اليهود في العصور الوسطى، ولم يقدره قومه حق قدره بين عشية أو ضحاها، لأن تلميذه يوسف ألبو أنظار قراء الفلسفة بكتابه الأكثر إمتاعاً "المبادئ الأساسية"، الذي جمع بين ابن ميمون وكرسكاس عن طريق الانتقاء، مما جعله أكثر انسجاماً من أي من الرجلين، مع اليهودية الصحيحة التي لم تكن مستعدة للتسليم بعدم عقلانية الإيمان. وبعد موت ألبو اعتزل اليهود الفلسفة، والتاريخ تقريباً، حتى جاء سبيبوزا. إن المذابح، والاضطرابات، والفقر المدقع، وقيود الإقامة والمناصب، كانت قد حطمت روحهم وأنقصت عددهم إلى أدنى مستوى منذ سقوط أورشليم سنة 70م(85). ووجد الشعب المحتقر المنبوذ له ملجأ في الأغاني الحزينة، وفي رفاق المعبد المواسين، يراودهم الأمل في مغفرة من عند الله، وفي معذرة من أهل الأرض، وفي الجنة التي في السماء. وعكف العلماء بكليتهم على التلمود، وحصروا تفكيرهم في شرح قانون الخلاص، على حين اتبع بعضهم تعاليم "القبالة" فانصرفوا إلى التصوف الذي سما بالبؤس إلى


حد التوهم بأنهم يرقون به إلى السماء. وأحجم الشعر اليهودي عن الغناء، ورفعت إثارة منه رأسها بين الحين والحين تتحدى العاصفة، أو تلطف من سخرية القدر، بالمرح الموسوم بالمرارة واللهفة والذكاء المشوب بالالتواء. وما كان لليهود أن يصحوا من سباتهم الطويل الناجع، ويستعيدوا مكانهم في ذهن عالم لا يحده زمان، ولا مكان فيه للعنصرية، حتى يهودي أمستردام المتواضع أن يوحد بين اليهودية والسكولاستية (الفلسفة المدرسية) والديكارتية في إدماج رفيع للدين والعلم.


يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق