إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 29 أبريل 2014

1308 قصة الحضارة ( ول ديورانت ) قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> الأدب في عصر رابليه -> رونسار وجماعة البليا 6- رونسار وجماعة البليارد (النجوم السبعة) Pl(iade


1308

قصة الحضارة ( ول ديورانت )

 قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> الأدب في عصر رابليه -> رونسار وجماعة البليا

6- رونسار وجماعة البليارد


(النجوم السبعة) Pl(iade


كان فيض غامر من الشعر يتدفق خلال هذه الفترة على فرنسا. وقد وصل إلى علمنا أسماء نحو 200 شاعر فرنسي لمعوا إبان حكم فرانسوا الأول وأبنائه، ولم يكن هؤلاء الشعراء أصواتاً جوفاء تصرخ في برية لا تعبأ بهم، بل مقاتلين يخوضون معركة أدبية-معركة الشكل ضد المضمون، ورونسار ضد رابليه-قررت طبيعة الأدب الفرنسي حتى عصر الثورة.
ولقد ألهمتهم حماسة معقدة، فهم من ناحية يتوقون إلى مباراة اليونان والرومان في نقاء الأسلوب وكمال الشكل، ومنافسة كتاب السونيتات الإيطاليين في رشاقة الكلام وجمال الأخيلة، ولكنهم من ناحية أخرى مصممون على ألا يكتبوا باللاتينية كالأدباء الذين علموهم وأثاروا حماستهم، بل بلغتهم القومية وهي الفرنسية، وهم في الوقت ذاته يريدون أن يلينوا ويهذبوا هذه اللغة التي ما زالت خشنة، وذلك بتعليمها الألفاظ والعبارات والتراكيب والأفكار التي سرقوها بحكمة من الآداب الكلاسيكية. وافتقار رواية رابليه إلى الشكل المحدد، بما يتخللها من أحداث عرضية، جعلها في نظرهم إناءً خشناً من الطين شكل باليد على عجل ثم أعوزه



الطلاء والصقل. لذلك اعتزموا أن يضيفوا إلى حيوية رابليه "الأرضية" ضبطاً للشكل الصمم للغاية، وللشعور الخاضع لحكم العقل.
وبدأت الحملة الكلاسيكية في ليون إبان حياة رابليه نفسه. فقد أنفق موريس سيف جانباً من حياته فيما خاله تحديداً لموقع قبر لورا حبيبة بترارك، ثم كتب 446 مقطعاً شعرياً لحبيبته ديلي، ومعهد الطريق أمام رونسار بفضل ما تميز به شعره من رقة حزينة. وكان أقدر منافسيه في ليون امرأة تدعى "لويز لابيه" راحت وهي مدججة بسلاحها الكامل تقاتل كأنها جان دارك أخرى في برببنيان، ثم هدأت ثائرتها بزواجها من صانع حبال أغضى-على طريقة الفرنسيين اللطيفة-عن غرامياتها الجانبية. كانت تقرأ اليونانية واللاتينية والإيطالية والأسبانية، وتعزف على العود عزفاً ساحراً، وتحتفظ بصالون لمنافسيها وعشاقها، وقد كتبت بضع قصائد من أسبق وأروع ما كتب من سونيتات في اللغة الفرنسية. وحسبنا للحكم على شهرتها أن نستشهد بجنازتها (1566) التي قال مؤرخ إخباري أنها "كانت انتصاراً. فقد حمل نعشها مخترقاً المدينة ووجهها مكشوف ورأسها مكلل بتاج من الزهور. لقد عجز الموت عن أن يشوهها، وجلل أهل ليون قبرها بالزهور والدموع".(37) وعن طريق شعراء ليون هؤلاء انتقل الأسلوب والمزاج البتراركيان إلى باريس ودخل إلى جماعة البلياد.
وكانت البلياد ذاتها صدى يردد الكلاسيكية. ذلك أن إسكندرية القرن الثالث قبل الميلاد كان فيها كوكبة من شعراء سبعة أطلق عليهم هذا الاسم مأخوذاً من الثريا التي خلدت ذكر بنات أطلس وبليوني الاسطوريات. على أن رونسار، ألمع نجوم البلياد الفرنسي، قل أن استعمل هذا اللقب، وكانت نماذجه التي حاكاها هي أناكريون وهوراس



لا ثيوقريطس أو كليماخوس الإسكندريان. وفي 1548 التقى في فندق صغير بتروين ييواكيم دبلليه Du Bellay، وائتمر معه على توجيه الشعر الفرنسي صوب الكلاسيكية وضما إلى مشروعهما أربعة شعراء شبان آخرين هم : أنطوان دباييف، وريمي بيللو، وإتيين جوديل، وبونتيس دتيار، ثم انضم إليهم أيضاً الأديب جان دورا الذي كان لمحاضراته عن الأدب اليوناني في كلية فرنسا وكلية كوكيريه الفضل في تأجيج حماستهم للشعراء اليونان الغنائيين. وأطلقوا على أنفسهم لقب البريجارد (اللواء) وأقسموا أن ينقذوا ربة الشعر الفرنسي من أيدي جان دمونج ورابليه الخشنة، ومن بحور فيون ومارو المفككة. وكانوا يشمئزون من لغة جارجانتوا وبنتاجرويل الصاخبة وحكمتها المستترة، ولم يروا أي ضابط كلاسيكي في تلك الأفعال والنعوت المختلطة ولا في تلك التدفقات البذيئة، ولم يجدوا فيها أي شعور بجمال شكل المرأة أو الطبيعة أو الفن. ولاحظ أحد أعدائهم من النقاد أنهم سبعة شعراء، فأطلق عليهم لقب "البلياد". ولكن انتصارهم جعل من هذا اللقب ناراً على علم.
في 1549 أذاع الشاعر دبلليه البرنامج اللغوي لهذه الجماعة في كتابه "دفاع عن اللغة الفرنسية وجلاء لها". فأما الدفاع فقد قصد به أن في الاستطاعة تمكين الفرنسية من التعبير عن كل ما عبرت عنه اللغات القديمة، وأما الجلاء فقصد به أن في استطاعة الفرنسية أن تكتسب بريقاً جديداً، وأن تصقل ذاتها وتجلو نفسها بنبذ الكلام الخشن الذي يسود النثر الفرنسي، والأغاني الشعبية، والقصائد القصيرة المتكررة الأزمات، والألوان القديمة من الشعر الفرنسي، وأن تجدد وتثري ذاتها باقتباس العبارات ودراسة الأشكال الكلاسيكية، كما توجد في أناكريون وثيوقراطيس وفرجيل وهوراس وبترارك. ولا غرو فقد أصبح بترارك في نظر جماعة الشعراء السبعة كاتباً كلاسيكياً، وغدت السونيت أكمل الأنماط الأدبية قاطبة.

أما "بيير رونسار" فقد حقق في شعره تلك المثل التي أعرب عنها دبلليه في نثره الرائع. وهو سليل أسرة خلعت عليها النبالة مؤخراً، فقد كان أبوه رئيس خدم فرانسوا الأول، وعاش بيير حقبة من حياته في البلاط الملكي الفخم. وكان تابعاً للدوفن فرانسوا، ثم لمادلين التي تزوجت جيمس الخامس ملك إسكتلندة، ثم مرافقاً للأمير الذي أصبح فيما بعد الملك هنري الثاني. وكان يصبو إلى المشاركة في المغامرات الحربية، ولكنه ابتلي بالصمم وهو بعد في السادسة عشرة. ومن ثم فقد أغمد سيفه وجرد عوضاً عنه قلمه. والتقى بشعر فرجيل صدفة، فرأى فيه كمالاً في الشكل واللفظ لا لهد فرنسا به. وأخذ دوريه بيده فانتقل به من اللاتينية إلى اليونانية، وعلمه قراءة أناكريون واسخيلوس وبندار وارستوفان. وصاح به الفتى "سيدي! لم أخفيت عني هذه الكنوز طوال هذا الزمن؟"(38) وحين بلغ الرابعة والعشرين التقى بالثائر دبلليه. ومن ذلك التاريخ وزع وقته بإخلاص بين الأغاني والنساء والخمر.
وقد أكملت "قصائده الغنائية Odes" (1550) هذه الثورية الغنائية. وكانت تقليداً صريحاً لهوراس، ولكنها أدخلت هذا اللون في الشعر الفرنسي، ووقفت القصائد على قدميها سواء في نقاء اللغة أو جمال العبارة أو إحكام الشكل. وبعد عامين اتخذ بترارك نموذجاً له في 183 قصيدة من السونيتات التي نشرها في ديوانه "غراميات" وبلغ فيها من الرشاقة والصقل ما لم ييزه أحد قط في الشعر الفرنسي. وكان يكتب ليتغنى الناس بشعره، وقد لحنت له قصائد كثيرة في حياته، بعضها لحنه كبار الموسيقيين أمثال جانكان وجوديميل. وكان في قصائده يغري النساء اللاتي يتغزل فيهن بتلك الدعوة القديمة، دعوة الاستمتاع بالحياة ما دام حسنهن مضيئاً، ولكنه حتى في هذا الموضوع القديم راح يعزف نغمة أصيلة، كتنبيه فتاة حذرة إلى أنها ستندم يوماً ما لأنها فوتت فرصة الغواية من


شاعر شهير مثله. يقول: "حين يتقدم بك العمر كثيراً، إذ تجلسين في المساء إلى المدفأة تتحدثين وتخيطين على ضوء شمعة، ستنشدين قصائدي وتقولين في عجب: لقد أذاع رونسار اسمي يوم كنت جميلة. عندها لن يكون من بين خدمك الذين يسمعون بنبأ كهذا-حتى ولو بعث طنين المناسج النوم إلى أجفانهم-من لا يفيق وهو يسمع اسمي، ليباركك على ما حظيت به من مديح خالد. عندها سأكون راقداً تحت الثرى، شبحاً بلا عظم، ثاوياً تحت الآس. وستكونين يومها عجوزاً قد احدودب ظهرها وهي جالسة إلى المدفأة، وستأسفين على حبي وعلى ازدرائك الفخور. فاستمعي إليَّ وعيشي الآن دون انتظار لغد، واقطفي منذ اليوم ورود الحياة".
وكانت عظمة الأسلوب تليق ببلاط كاترين دمديتشي التي جلبت معها إلى فرنسا حاشية إيطالية حملت بترارك فيما حملت من كتب. وما لبث الشاعر الجديد-بمشيته المختالة برغم ما مسه من صمم، وبقوامه العسكري وشعر رأسه ولحيته الذهبي، ووجهه الشبيه بوجه هرمز كما وصفه براكسيتيليس-أن أصبح أثيراً لدى كاترين، وهنري الثاني، وماري ستيوارت، بل وإليزابث ملكة إنجلترا التي أهدته خاتماً من الماس بوصفها ابنة خاله السابعة عشرة. ووجدت أسطورة البلياد اليونانية الرومانية ترحيباً، وحين تحدث الشعراء عن أوليمبوس قدر البلاط لهم هذه التحية.(39) فهنري هو النظير لجوبيتر، وكاترين هي المقابل لجونو، أما ديان فهي ديانا، وأكدت هذا التشابه التماثيل التي نحتها المثال جوجون.
وبعد موت هنري واصل شارل التاسع مصادقة رونسار، دون أن تسفر هذه الصداقة عن نتيجة طيبة. ذلك أن الملك الشاب كان يبغي أن ينظم له الشاعر ملحمة عن فرنسا تطاول ملحمة الأنيادة. وكتب الملك المغفل يقول: "أستطيع أن أعطي الموت، أما أنت فتستطيع أن تعطي



الخلود(40)." وبدأ رونسار نظم "الفرنسيادة" المنشودة، ولكنه ألفى ربة شعره أقصر نفساً من أن تجري هذا الشوط الطويل، وما لبث أن أقلع عن المحاولة المزعومة، وعاد إلى غنائياته وحبه. وقضى أيامه في دعة وسلام حتى أدركته الشيخوخة وهو في مأمن من ضجيج الدنيا، محافظاً في السياسة والدين دون ما خطر، مكرماً من شباب الشعراء، محترماً من الجميع إلا من الموت. وقد وافته منيته في 1585 ودفن في تور، ولكن باريس منحته جنازة أولمبية مشى فيها كل أعيان العاصمة ليسمعوا أسقفاً يرتل "قصيدة جنائزية".
أما الشعراء الذين خلعوا عليه لقب الإمارة فقد أصدروا كثيراً من دواوين الشعر، ولكن شعر ميت برغم رقته. وكان أكثرهم كسيدهم وثنيين يعلنون كثلكتهم المحافظة حين يروقهم إعلانها، ويحتقرون الهيجونوت المتزمتين، وكانوا أرستقراطيين كبرياء، ودماً أحياناً، وإن خوت جيوبهم، يكتبون لدائرة من القراء أتيح لها من الفراغ ما يكفي للاستمتاع بالشكل. ورد رابليه على خصومتهم بالسخرية من حذلقتهم، ومن تقليدهم الوضيع للبحور والعبارات والنعوت اليونانية والرومانية، ومن ترديدهم التافه للموضوعات القديمة وللأخيلة والمراثي البتراركية. وفي هذا الصراع بين المذهبين الطبيعي والكلاسيكي تقرر مصير الأدب الفرنسي. فأما شعراء فرنسا وكتاب مآسيها المسرحية فآثروا الطريق المستقيم الضيق، طريق البناء الكامل والجمال المنحوت الدقيق؛ وأما كتاب النثر فقد استهدفوا إمتاع القراء بقوة مادتهم دون سواها. ومن ثم بات الشعر الفرنسي قبل عصر الثورة عصياً على الترجمة، فأنت لا تستطيع تحطيم إناء الشكل ثم إعادة صبه في قالب أجنبي، على أن هذين النهرين التقيا في فرنسا القرن التاسع عشر، وامتزج نصفا الحقيقة، واقترن المضمون بالشكل، وعقد اللواء للنثر الفرنسي.


يتبع
 يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق