إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 29 أبريل 2014

1310 قصة الحضارة ( ول ديورانت ) قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> الأدب في عصر رابليه -> هانز زاكس 8- هانز زاكس


1310

قصة الحضارة ( ول ديورانت )

 قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> الأدب في عصر رابليه -> هانز زاكس

8- هانز زاكس


في القرن الذي تلا مقالات لوثر تاه العقل الألماني في جدل المائة عام الذي مهد لحرب الثلاثين عاماً. وبعد عام 1530 توقف نشر الكتب الكلاسيكية القديمة إلى حد كبير، وقل عموماً عدد الكتب المنشورة، وحل محلها سيل من الرسائل الجدلية. فراح راهب فرنسسكاني اسمه توماس مورنز ذو قلم حاد يسوط الناس يمنة ويسرة بسلسة كتيبات عن الأوغاد أو الحمقى (طائفة الأوغاد، مجمع الحمقى)... وكلها منقول بتوسع من كتاب برانت Narrenschiff سفينة الحمقى . وكثير من الحمق الذين هاجمهم مورنز كانوا من رجال الكنيسة، وفي البداية ظنه الناس لوثرياً، ولكنه أعلن أن لوثر "كلب صيد متوحش، ومارق مجنون، غبي، مجدف"(43). فوصله هنري الثامن بمائة جنية.
أما سبستيان فرانك فكان أنبل من صاحبه وأصفى معدناً. وكان كاهناً في أوجزبورج حين أقبلت حركة الإصلاح البروتستنتي، فرحب بها ثورة جريئة تمس إليها الحاجة، وأصبح بعد ذلك قساً لوثرياً


(1525). وبعد ثلاث سنوات تزوج من أوتيلي ببهام، وكان أخوتها من القائلين بتجديد العماد، فعطف على هذه الطائفة المضطهدة، وندد بالتعصب اللوثري، فطرد من استراسبورج، واحترف صناعة الصابون في أولم ليكسب قوته. وسخر من تحكم النبلاء الألمان في سلامة العقيدة، فقال: "إذا مات أمير فأدخل خليفته مذهباً آخر، أصبح هذا المذهب للتو كلمة الله"(44). "تتسلط على جميع الناس اليوم غيرة مجنونة تزعم أننا يجب أن نؤمن... أن الله إلهنا وحدنا، وأنه لا جنة ولا إيمان ولا روح ولا مسيح إلا في مذهبنا". أما إيمانه فكان الألوهية الكونية التي لا توصد باباً. "إن قلبي ليس غريباً عن أي إنسان. فلي أخوة بين الترك والبابويين واليهود وجميع الشعوب(45)". وكان يتوق إلى "مسيحية... حرة لا مذهبية... لا يقيدها أي شيء خارجي" حتى ولا الكتاب المقدس(46). وأقصته أولم هي الأخرى إذ صدمتها هذه المشاعر التي لا تليق بجيله، فعمل طباعاً في بال، وهناك مات شريفاً برغم فقره (1542).
ثم انغمس الشعر والدراما الألمانيان في اللاهوت انغماساً أفقدهما صفة الفن وأحالهما بعض أسلحة القتال. وفي هذه الحرب استحل الكتاب كل جعجعة وجلافة وفحش في القول. ولو أنك استثنيت الأغاني الشعبية والتراتيل لما وجدت للشعر أثراً إلا في وابل من طلقات القوافي المسمومة. ولم تعد الجماهير تتذوق مسرحيات القرن الخامس عشر الدينية التي ينفق على إخراجها بسخاء، فحلت محلها مهازل شعبية تتهكم بلوثر أو البابوات.
على أن ألمانيا لم تعدم بين الحين والحين رجلاً يطفو فوق هذا الحقد والعنف ليرى الحياة كاملاً متكاملاً. ولو أن هانز زاكس استمع إلى قضاة نورمبرج لظل صانع أحذية كما كان؛ ذلك أنه حين نشر تاريخاً منظوماً لبرج بابل دون أن يحصل على الإذن المدني بطبعه، صادروا الكتاب

وأكدوا لصاحبه أن الشعر ليس ميدانه ما في ذلك ريب، وأمروه أن يلتزم قوالب أحذيته(47). ولكن هانز كان يتمتع ببعض الحقوق التي نالها بفضل مروره بالمراحل العادية التي أهلته لأن يصبح رئيس فرقة المغنين. ولعل المفارقة التي تبدو لنا في كونه حذاء وشاعراً تنتفي إذا لاحظنا أن نقابة الغزالين والحذائين التي انتمى إليها كانت تمارس بانتظام الغناء الكورالي، وتعزف في حفلات موسيقية عامة ثلاث مرات في السنة. ولهذه النقابة، وفي أية مناسبة أخرى، كان زاكس يكتب الأغاني والتمثيليات في مثابرة وجد وكأنه يلوك في فمه مسامير أحذيته.
وعلينا ألا نحسبه شاعراً عظيماً، فما هو إلا صوت عاقل مبتهج يعلو وسط قرون من الكراهية. وكان شغله الشاغل هم البسطاء من الناس لا العباقرة، وتمثيلياته كلها تقريباً تدور حول هؤلاء. بل إن الله نفسه يبدو في هذه التمثيليات أحد العامة الخيرين ويتكلم كما يتكلم قسيس الناحية. وبينما راح معظم الكتاب يتبلون صحائفهم بالمرارة أو التبذل أو فحش القول، كان هانز يصور ويمجد فضائل المحبة والواجب والتقوى والوفاء الزوجي والحب الأبوي والبنوي. وقد بدأ بنشر قصائد (1516). تستهدف "زيادة الثناء على الله والتحدث بمجده" و "مساعدة إخوانه على أن يحبوا حياة التوبة"(48). وظلت هذه الروح الدينية تبعث الدفء في كتاباته إلى النهاية. وقد نظم نصف الكتاب المقدس، مستخدماً نص الترجمة التي قام بها لوثر، وحياة هانز ولقبه بـ "بلبل فتنبرج" الذي سينقي الدين ويرود الفضيلة. "استيقظوا؛ استيقظوا؛ فقد بزغ الفجر، وهأنذا أسمع في الغابات أنشودة تتردد. إنه البلبل العظيم تصدح موسيقاه فوق السهل والجبل. هاهو الليل يتلاشى في الغرب، والصبح يطلع من الشرق، والفجر يقبل فيطرد غيوم الليل المنصرم"(49).
وأصبح زاكس الآن شاعراً ملحمياً لحركة الإصلاح البروتستنتي،


وراح يندد بأخطاء الكاثوليك في إصرار ساخر. فكتب التمثيليات عن الأوغاد من الرهبان، وأرجع قبيلتهم إلى الشيطان، ونشر مسرحيات كاريكاتورية ساخرة وهزليات تعرض على سبيل المثال كاهناً يغوي فتاة أو يتلو القداس وهو مخمور. وفي 1558 نشر "تاريخاً منظوماً للبابة جوانا"-وهي قصة خرافية تقبلها معظم الوعاظ البروتستنت على أنها تاريخ. ولكن هانز ندد باللوثريين أيضاً، ورماهم بالتناقض الفاضح بين حياتهم وعقيدتهم. "إنكم معشر اللوثريين جلبتم على الإنجيل أشد الاحتقار بسبب نهمكم للحم، وضجيجكم الصاخب، وذمكم للكهنة، وشجاركم وسخريتكم وسبابكم وغير ذلك من مظاهر سلوككم الشائن(50)." وشارك الكثيرين في الحزن على ما شاب الجيل من جري وراء الكسب وفساد في الخلق.
ونحن إذا استثنينا فكرة فاجنر المثالية، وجدنا على الجملة أن هانز زاكس ربما كان الممثل للرجل الألماني الطيب برغم ما يشوبه من فجاجة وجلافة، والذي لا بد كان أغلبية في الجنوب على الأقل. ونحن نراه سعيداً في بيته، مترنماً بشعره طوال أربعين عاماً. ولما ماتت زوجته الأولى (1560) تزوج وهو في الثامنة والستين من حسناء في ربيعها السابع والعشرين، وظل ينعم بالحياة برغم هذه المحنة. ولا بد لنا من إنصاف عصر ومدينة مكنا حذاء من أن يصبح في ظلهما أديباً إنسانياً، وشاعراً، وموسيقياً، وأن يقتني مكتبة كبيرة ويستعملها، وأن يتعلم الأدب اليوناني والفلسفة اليونانية، وأن ينظم 6000 قصيدة، وأن يعيش متمتعاً بقسط لا بأس به من الصحة والسعادة حتى وافته المنية وقد بلغ الثانية والثمانين.


يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق