إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 29 أبريل 2014

1327 قصة الحضارة ( ول ديورانت ) قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> العلم في عصر كوبرنيق -> الشكاكون 8- الشكاكون





1327


قصة الحضارة ( ول ديورانت )

 قصة الحضارة -> الإصلاح الديني -> ماوراء الستار -> العلم في عصر كوبرنيق -> الشكاكون

8- الشكاكون


لم يكن القرن السادس عشر بالزمان الصالح للفلسفة، فقد استغرق اللاهوت المفكرين الناشطين، وسير الإيمان العقل في ركابه بعد أن سيطر على كل شيء. ورفض لوثر العقل لأنه ينزع بصاحبه إلى الكفر(93)، ولكن حالات الكفر كانت نادرة. فقد أحرق قسيس هولندي في لاهاي (1512) لإنكاره الخليقة والخلود ولاهوت المسيح(94)، ولكنه لم يكن واضح الكفر. كتب أخباري إنجليز تحت سنة 1539 "مات هذا العام في جامعة باريس



طبيب عظيم أنكر وجود الله، وكان هذا رأيه الذي ثبت عليه مذ كان في العشرين، وقد عمر إلى ما بعد الثمانين، واحتفظ بضلالته هذه سراً طوال هذه السنين(95)". وفي عام 1552نشر جيوم بوستل كتابه Contra atheos ولكن كلمة atheist (أي الملحد) قل أن مينز القوم بينها وبين القاتل بمذهب الألوهية، أو القائل بوحدة الوجود، أو الشكاك.
على أنه وجد من الشكاكين عدد يكفي لنيل صفعة من لوثر، فقد روى أنه قال "إن مواد قانون الإيمان أسمى من أن يدركها أبناء هذا العالم العميان. فوحدة الأقانيم الثلاثة في إله واحد، وتجسد ابن الله الحق، ووجود طبيعتين للمسيح هما لاهوته وناسوته، إلخ..... كل هذا يؤذيهم لأنهم يرون فيه حديث خرافة". ثم أضاف إن بعضهم يتشككون في أن الله خلق أناساً عرف من قبل أنهم هالكون(96). وكان في فرنسا بعض المتشككين في الخلود(97). من ذلك أن بونافنتور دسبرييه سخر في كتابه Cymbalum mundi، (1537) بالمعجزات، وبتناقضات الكتاب المقدس، وباضطهاد أصحاب البدع الدينية. وقد ندد كالفن والسوربون بكتابه هذا، فأحرقه جلاد الدولة. واضطرت مارجريت إلى إقصائه عن بلاطها في نيراك، ولكنها بعثت إليه بالملل لتحفظ عليه حياته في ليون. وفي عام 1544 قتل نفسه، وترك مخطوطاته لمارجريت "دعامة كل صلاح وحاميته"(98).
وظهرت روح الشك في ميدان السياسة متخذة صورة هجمات على حق الملوك الإلهي وحصانتهم، وكان الشكاك هنا عادة إما من المفكرين البروتستنت الذين ضايقهم الحكام الكاثوليك، وإما من المفكرين الكاثوليك الذين يدفعون الثمن غالياً إذا انتصرت الدولة.


وقد نشر الأسقف جون بونيت-وكان ساخطاً على ماري تيودور-في عام 1558 "بحثاً موجزاً في السلطة السياسية". قال فيه "إن الأمثلة الكثيرة والمتصلة، التي وجدت بين الحين والحين، لخلع الملوك وقتل الطغاة تؤكد على وجه اليقين أن من أحق الحق والعدل والتمشي مع قضاء الله... القول بأن سلطان الملوك والأمراء والحكام مصدره الشعب... وإن للناس أن يستردوا تفويضهم... حين يشاءون"(99). كذلك كان من رأي أستاذ اسكتلندي يدعى جون ميجر، (وكان له بعض الفضل في تكوين عقل جون نوكس)، أنه ما دام كل سلطان زمني مشتقاً من إرادة الجماعة، فإن من الجائز خلع الملك الطالح وإعدامه، شريطة اتخاذ الإجراء القانوني الواجب.
أما أطرف خصوم الحكم الملكي المطلق فهو كاثوليكي شاب حقق قدراً متواضعاً من الخلود يموته بين ذراعي مونتيني. يقول كاتب المقالة الفذ "إن إتيين دلا بوليتي كان فيما أعلم أعظم رجل في عصرنا(100)". وقد ولد إتيين هذا لموظف كبير في بيرجور، ودرس القانون في أورليان، ثم عين مستشاراً في "برلمان" بوردو قبل بلوغه السن القانونية. وحوالي عام 1549، يوم كان فتى في التاسعة عشرة ألهمته الأفكار الجمهورية دراسته للأدب اليوناني والروماني، كتب هجوماً عنيفاً على الحكم المطلق- ولكنه لم ينشره قط- وسمى كتابه "مقال عن العبودية الاختيارية". Discours sur la servitude volontaire ولكن بما أن الكتاب ندد بدكتاتورية فرد واحد يتحكم في الكثيرين، فقد سمي Contr' un (أي خصم الواحد). فليسمع القارئ نداءه:


"أي عار وأي خزي في أن يطيع عدد لا يحصى من الرجال طاغية عن رضى واختيار، بل بروح العبيد! طاغية لا يدع لهم حقوقاً في عقار أو أبوين أو زوجة أو ولد، ولا حتى في حياتهم ذاتها-فأي نوع من الرجال هذه الطاغية؟ ما هو بهرقول ولا بشمشون؛ بل كثيراً ما يكون قزماً، وكثيراً ما يكون أشد الجبناء تخنثاً في الشعب كله- فليست قوة بدنه هي التي تضفي عليه النفوذ والسلطة، وكثيراً ما يكون عبداً لأحط المومسات. ليت شعري ما أشقى رعاياه وأحقرهم؛ إن كان اثنان، أو ثلاثة. أو أربعة، لا يثورون على واحد، فذلك معناه الواضح أن الشجاعة تعوزهم. أما إذا كان المئات والألوف لا يخلعون عنهم نير فرد، فما الذي يبقى من الإرادة الفردية والكرامة الإنسانية؟... إن حصول الفرد على حريته لا يقتضي بالضرورة استعمال القوة ضد الطاغية. إنه يسقط حالما تمل البلاد وجوده. ولا حاجة بالشعب الذي أذله واستعبده أن يحرمه أي حق له. فالتحرر لا يتطلب شيئاً أكثر من الإرادة الصادقة لخلع النير... فاعزموا عزماً صادقاً ألا تكونوا عبيداً بعد اليوم- وإذا أنتم أحرار! أمسكوا عن الطاغية المعونة يسقط ويتحطم كأنه تمثال عملاق سحبت قاعدته من تحت قدميه(101).
ومضى لابوييتي يشكل بآرائه فكر روسو وتوم بين من بعده. فهو يقول إن الإنسان يتوق بطبعه إلى الحرية، ومفارقات الحظ هي بنت الصدفة، وهي تحمّل المحظوظين الالتزام بخدمة إخوتهم في الإنسانية، وكل الناس إخوان "صنعوا من طينة واحدة"، وصانعهم إله واحد. والعجيب أن قراءة هذا الرأي المتطرف هي التي جذبت مونتيني- على ما طبع عليه من اتزان وحيطة- إلى لابوييتي، وأفضت (1557) إلى صداقة من أشهر الصداقات


في التاريخ. وكان مونتيني يومها في الرابعة والعشرين، وإتيين في السابعة والعشرين، ولعل مونتيني كان آنئذ من الحداثة بحيث يستطيع تقبل العواطف المتطرفة. على أن صداقتهما سرعان ما ختمت بكون لابوييتي ولما يجاوز الثاني والثلاثين (1563)، ووصف مونتيني أيامه الأخيرة وكأنه يتذكر وصف أفلاطون لموت سقراط. وبلغت حدة إحساسه بفقد ذلك الفتى المشبوب العاطفة مبلغاً جعله يذكر موته- بعد أن انقضت عليه سبعة عشر عاماً- بشعور أشد عمقاً من ذكره لأي تجربة أخرى جاز بها في حياته. ولم يكن راضياً عن طبع كتاب صديقه (Discours) وحزن حين نشره راعي كنيسة في جنيف (1576). وقد علل تأليف الكتاب بروح الشباب السمحة، وأرجع كتابته إلى سن أسبق هي السادسة عشرة. لقد أوشك هذا الصوت أن يكون صوت الثورة الفرنسية.


يتبع

يارب الموضوع يعجبكم
تسلموا ودمتم بود
عاشق الوطن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق